بنفسج

د.مريم أبو دقة: عن النضال والمقاومة والعمل النسوي

الثلاثاء 21 يونيو

في حضورها شخصية قيادية فذّة، وعلى جبينها طُبع حب الوطن، وفي عينيها سيرةٌ نضالية حافلة، ومن حروفها الأدبية تنهمر جمال كروم يافا وحيفا، ومن صوتها تنبعث امرأة ثائرة متمردة في وجه الطغيان، قوتها أرعبت ترسانة الاحتلال الإسرائيلي، حتى إذا ما حاول إيقاعها في فخ شباكه، تنجو، لتواصل عملها الفدائي بإصرار وتُشعل فتيل الثورة من جديد. "مريم أبو دقة"، هذه الفلسطينية التي كبرت منذ صغرها على حب الجهاد والمقاومة،  ترعرعت في مدينة خانيونس وسط أسرة مناضلة، أمها مصرية الجنسية، والدها من قطاع غزة وله أملاك سيطر عليها الاحتلال في عام 1948 حوالي 700 دونم، ولدت عام 1952 إذ كان قطاع غزة تحت الإدارة المصرية آنذاك، ويتعرض لهجمات الاحتلال الإسرائيلي باستمرار.

| العمل الفدائي

مريم أبو دقة، هذه الفلسطينية التي كبرت منذ صغرها على حب الجهاد والمقاومة، ترعرعت في مدينة خانيونس وسط أسرة مناضلة، أمها مصرية الجنسية ووالدها فلسطيني، ولدت عام 1952 حيث كان قطاع غزة تحت الإدارة المصرية آنذاك، ويتعرض لهجمات الاحتلال الإسرائيلي باستمرار.
 
خاضت معترك الحياة النضالية مبكرًا، وعاشت في بيئة تمجّد العادات والتقاليد. ذات عقل فذّ منذ طفولتها، وهي بعمر الثلاث سنوات، انتقلت أمها بها وبأخواتها الثمانية وأخيها الوحيد للعيش في مصر هربًا من هجمات الاحتلال الإسرائيلي.

خاضت معترك الحياة النضالية مبكرًا، وعاشت في بيئة تمجد العادات والتقاليد، ذات عقل فذّ منذ طفولتها، وهي بعمر الثلاث سنوات، انتقلت أمها بها وبأخواتها الثمانية، وأخيها الوحيد للعيش في مصر هربًا من هجمات الاحتلال الإسرائيلي، فكانت تذهب مع أخواتها للمدرسة وتشارك في مسرحيات تعبّر عن الوحدة بين الدول العربية، حتى اندلعت حرب مصر في عام 1956 وعادوا إلى قطاع غزة وكانت بالصف الثاني الابتدائي. وفي مراحلها الإعدادية والثانوية كانت تشارك مع أساتذتها في مظاهرات ضمن فرقة الكشافة المدرسية، وتستقبل مع مدرستها أحمد الشقيري، ممثل فلسطين آنذاك، في حين كانت تملك غزارة أدبية تفوق عمرها وتبدع في التغزل بشوارع حيفا وبيارات يافا، حتى إذا ما قرأت لأساتذتها بعضًا مما كتبت يبكون ويتساءلون إذا ما كتبه شخص آخر.

شهدت حياتها نقلة نوعية حين بدأ التجنيد الإجباري لجيش التحرير للشباب الثائر، احتجّت على تجنيد الشباب دون الفتيات وأرسلت رسالة ورقية لأحمد الشقيري، كتبت فيها: "أنا لن أعيش مشردًا، أنا لن أظل مقيدًا، أنا لي غدي، وغدًا سأزحف ثائرًا متمردًا. لماذا تجندون الشباب من دون الإناث، فنحن نحب فلسطين، حيث أجمع طوابع بريد". قام الشقيري بإرسال طرد إلى المدرسة يخبرها أنه رغم صغر سنها سيفتتح بالقريب العاجل معسكرات لتدريب الفتيات وستكون أولهم، وأرسل لها مجموعة طوابع بريد، حتى أصبح اسمها في المدرسة الشهيدة ميمي الشقيري.

مريم أبو دقة.jpg
مريم أبو دقة مع رفاقها المناضلين

منذ بدايات حرب 1967، ذهبت إلى مواقع جيش التحرير تمدهم بالدعم والطعام، وتقصّ عليهم بعضًا من كتاباتها الأدبية التي تُمجد بها معارك الشعب الفلسطيني، وتتغزل بأراضينا المحتلة، بتنهيدةٍ تستذكر مريم: "بينما كنت أقدّم اختبار الرياضيات، بدأت الحرب وقعت قذيفة إسرائيلية بشكل مفاجئ على دوار بني سهيلا في سكة الحديد (القطار) القادم من مصر والمحمل بالذخيرة وأحرقته بشكل كامل، وأغلق الأساتذة المدرسة لمدة ساعة، وهربنا خوفًا، تحت أشجار الزيتون حتى مر جيش التحرير وأخذنا بسياراته إلى بيت عالٍ قريب من المدرسة لنختبئ بداخل خزاناته، وأطلق الاحتلال قذيفة على مطبخ البيت، ثم ما لبثنا دقائق حتى جاءت صاحبة البيت لتأخذ أغراضها، واصطحبتنا إلى الملجأ الذي تختبئ فيه مع أسرتها".


اقرأ أيضًا: م. ريما بدير: للألف ميل مشوار بدأته من أبي


بين جدران الملجأ، لمدة ستة أيام من دون طعام وشراب يسند أجسادهم المتعبة، ولا أخبار حول ما حلَّ بغزة. تجرأت مريم وابن صاحبة البيت للخروج من الملجأ إلى المنزل للحصول على طعام، لتتفاجأ بـ 50 ضابطًا وجنديًا إسرائيليًا موجهين سلاحهم صوبهما، وأخرجوا كل الموجودين في الملجأ وسجنوهم في غرفة بالمنزل تحت التعذيب النفسي، يتحايل الضباط عليهم ببعض من البسكوت والخبز الناشف، وبعد أسبوع من الحصار أطلق الاحتلال الإسرائيلي سراحهم بعد سقوط قطاع غزة بأيديهم، فأخذوا يمشون في الشوارع المليئة بالجثث والكلاب والقطط، وحين وصلت مريم ورفقاها كروم بيتها تهافتوا يأكلون من الخيار والمشمش على الطريق، حتى وصلت بيتها واطمأنت أن عائلتها نجت من الحرب".

| رفيقتها "البارودة"

بدأت مريم عملها الفدائي بشكل سرّي جدًا في مرحلتها الثانوية الأولى، حين جاء ابن اختها من رحلة التدريب في الأردن، وطلب منها أن تنخرط في صفوف الفدائيين، فأبدت له خوفها على الرغم من قوتها، ليطمئنها أنها حين تعاهدهم بألا تخون سيزول ذلك، وبالفعل، التحقت مريم في صفوف الجبهة الشعبية ومهامها العسكري "جيفارا غزة"، من دون أن يعلم أحد من عائلتها.
باللباس العسكري كانت مريم تتجول ورفقاها في شوارع مدينتهم، وحول عنقها بارودة فاقتها بالطول. بدأت عملها الفدائي بنشر تعميم على كافة أرجاء البلد حول إحدى العملاء، حتى أبلغ العميل الاحتلال بذلك، وطوّق جيش الاحتلال المدينة بأكملها واعتقل جميع رفاقها.

بدأت مريم عملها الفدائي بشكل سرّي جدًا في مرحلتها الثانوية الأولى، حين جاء ابن اختها من رحلة التدريب في الأردن، وطلب منها أن تنخرط في صفوف الفدائيين، فأبدت له خوفها على الرغم من قوتها، ليطمئنها أنها حين تعاهدهم بألا تخون سيزول ذلك الخوف، وبالفعل، التحقت مريم في صفوف الجبهة الشعبية وجناحها العسكري "جيفارا غزة"، من دون أن يعلم أحد من عائلتها.

تحوّلت مريم من الفتاة القوية المتمردة إلى فتاة هادئة، أثار سلوكها حفيظة أمها التي باتت تراقب تحركاتها خطوة بخطوة، خاصةً بعد زيارات ابن أختها الغريبة والمتعددة. وفي إحدى المرات التي جاء بها زميل لها حاملًا قنابل ملونة داخل ملابسه، أصرّت أمها أن تعرف سرهما، فأخبرها، بشرط أن تعده على أن يبقى ذلك سرًا بينهم. فأعجبت أمها بشكل تلك القنابل، وطلبت منه أن يُدربها لتدرب مريم بدلًا عنه.

باللباس العسكري كانت مريم تتجول ورفاقها في شوارع مدينتهم، وحول عنقها بارودة فاقتها طولًا. بدأت عملها الفدائي بنشر تعميم على كافة أرجاء البلد حول ظاهرة العملاء، حتى أبلغ العملاء الاحتلال بذلك، وطوق جيش الاحتلال المدينة بأكملها واعتقل عدد كبير من  رفاقها. خبأها والدها في أرضه الحدودية، وبعد شهر من المطاردة عادت إلى منزلها لمشاهدة عائلتها وقضاء وقت معهم، فما لبث الاحتلال إلا أن طوق منزلهم من أربع جهات  لعتقالها وهي في  16 عامًا من عمرها.

inbound2988824178758438016.jpg
د. مريم أبو دقة في مناسبات وطنية مختلفة

دبابات وجيبات عسكرية والعديد من الجنود يلتفون حولها موجهين أسلحتهم صوب صدرها، حتى إذا ما تحركت وهي بداخل الجيب تثير رعبهم، وتجعلهم يلتفون حول أنفسهم خوفًا من أن تكون قد أعطت إشارة لأحد الفدائيين بتنفيذ أمر ما،    تضحك هي من رعب الجنود  وخوفهم منها وهي مجرّدة من السلاح، وحين سمع الجنود  صوت ضحكتها، طار جنونهم، ليهددها أحدهم قائلًا: "هلأ يا بنت الكلب بنفرجيكي بالسجن".

مباشرةً، إلى السجن الحربي، بدأت مريم تتعرض لأشد أنواع التعذيب النفسي والاستجواب لتعترف بأشياء لم ترتكبها، ومنعوا أهلها من زيارتها لمدة ست شهور، ومن دون أن يعرفوا مكانها، تستذكر مريم: "أثناء التحقيق سألني الضابط الإسرائيلي كم من العمليات نفذت، وحين أخبرته بأنني لم أدخل مستشفى في حياتي وصحتي ممتازة، بقي مندهشًا، أخذ يريني قنابلَ وألغامًا، وأخبرته أن أمي مصرية ترفض أن نلعب بالقمامة. ليقول بأن الرفاق اعترفوا عليك، وصدمته بقولي إنهم زعران يعاكسونني وأنا لا أحب أن يعاكسني أحد، ليسألني عن أسمائهم وأخبره ساخرةً: لما بتخانق مع حدا أقلو شو اسمك؟ هؤلاء زعران ممنوع نحكي معهم، ليكمل استجوابه ما هو أغلى شيء عندك؟ لينطق لساني الله والوطن، ليجيبني شرفك مش غالي عليك؟ شرفي هو أرضي، وطول ما أنتم موجودين فيها ما عندي شرف، حتى بقيت هذه العبارة شعارًا في السجن".

| ما بعد الأسر

مريم ووالدها.jpg
مريم أبو دقة مع الحكيم جورج وعائلته

بعد قضاء ستة شهور بين التحقيق والتعذيب والسجن، خرجت مريم من السجن مع وقف التنفيذ لمدة شهر حتى تُعرض على المحكمة الإسرائيلية، وهناك أبلغها الصهاينة بأنها إذا  اعترفت ستخرج من السجن، وفي المحكمة اتهمها القاضي بأنها عنصر قلق لجيش الاحتلال ومن مجموعة جيفارا غزة، وطلب منها أن تعترف وتطلب الرحمة، فردت: "ما بطلب الرحمة إلا من ربي، وأنتم دولة قتلت أهلنا ودمرت بيوتنا ولديها دبابات وطيارات، تطلبون من فتاة قاصر أن تحمي دولة تملك كل ذلك". جن جنون نيابة الاحتلال الإسرائيلي، وأخذوا يرددون عبارتهم الشهيرة في وجهها "أنتم مخربين"، وحُكمت بالسجن لمدة عام ونصف العام.

في رمضان عام 1969 نالت مريم حريتها وسط احتفال فلسطيني كبير، لكن الاحتلال كعادته ماكر لا يُؤمن غدره، فبعد يومين من تحررها جاءت المخابرات الإسرائيلية إلى منزلها وأبلغوها بإنذار "خلال 24 ساعة ستغادرين قطاع غزة قسرًا". لتسألهم إلى أين ستبعدونني؟ فأخبروها: إلى الأردن، وصفعتهم بردها "حرجعلكم بالكلاشن كوف بأعمال فدائية"، ثم قالوا"سنُبعدك إلى مصر"، لتخبرهم "أخوالي ضباط بحرية وحرجع معهم بالبحر"، كل ذلك كي يتراجع الاحتلال عن إبعادها لكن باءت محاولاتها بالفشل.

كل ألم الدنيا التف حول عنقها ليخنقه، والدموع كاللهيب على وجنتيها، وكأنها لحظة إعدام وليست إبعاد حين جاءت السيارة فجرًا، لتوصلها إلى جسر الأردن الذي بقيت تنتظر عنده 11 يومًا. لا الاحتلال يقبل بإرجاعها إلى غزة، ولا الأمن الأردني يسمح بإدخالها، حتى جاء أمن الجبهة الشعبية واختطفوها إلى معسكرات جرش، ومن هناك انخرطت في العمل العسكري وقامت بتدريب الأشبال، وبعد سنتين من النضال العسكري أصبحت مطاردة في الأردن بعد معارك أيلول الأسود.

inbound5784578906607671239.jpg
المناضلة د. مريم أبو دقة في حفل تكريم لها والصورة الأخرى في حفل تأبين

حطت رحالها في لبنان في عام 1971،  فشاركت في الحرب الأهلية والاجتياحات المتعددة حتى وصلت إلى رتبة قائد فصيل عسكري، وكانت عضوًا في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، ومسؤولة منظمة الشبيبة التابعة للجبهة، وفي 1976 أصبحت مريم مطاردة في لبنان بعد دخول قوات الردع، لتنتقل بعدها إلى ليبيا وتبدأ محطة نضال جديدة، حيث أسست اتحاد لجان المرأة الفلسطينية.

في عام 1977 وصلت ليبيا ومكثت فيها سنتين، وكانت الناطق الرسمي في المؤتمرات النسوية العربية، واستقبلت أول دفعة من الأسرى الفلسطينيين، وكان لها نشاطها الكبير مع الوفد الفلسطيني آنذاك، أما في سوريا فقد افتتحت عام 1980 أول مكتب للجبهة الشعبية، وأسست العمل النسوي والجماهيري، وشاركت في استقبال المتطوعين في العمل النضالي، حتى وصلتها منحة لتكمل مشوارها تعليمها في بلغاريا.

في تشرين الثاني/نوفمبر 1995، وبعد قضاء ثلاثين عامًا في الغربة، عادت مريم وسط عرس فلسطيني مهيب من خلال تصريح إلى أرض الوطن "غزة"، وبدأت مرحلة نضالية جديدة لتثبت لهم أنها قائدة وطنية، وفي عام 2000 تولت منصب عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية.

تلقّت في بلغاريا دورة تدريبية لمدة عشر أشهر،لترشحها القيادة لتدرس دراسات عليا في بلغاريا فلسفة وعلوم اجتماعية في أكاديمية العلوم الاجتماعية وإدارة المجتمع، انهت هذه الرحلة بتفوق، لتلتحق بدراسة الماجستير وتختار عنوان رسالتها "تطور الوعي السياسي للمرأة الفلسطينية في العصر الراهن من تاريخ 1970 – 1990"، وحصلت على منحة بعد تفوقها بالمرتبة الثانية على مستوى الدول، لتُكمل رسالة الدكتواره بعنوان "حرية المرأة والعادات والثقافة من وجهة نظر فلسفية"، وفي هذه الفترة شكّلت لجنة المرأة الأممية، وشاركت في عمل الندوات والمسرحيات عن الأسير الفلسطيني حتى حصلت فلسطين على جائزة الجمهور في التمثيل آنذاك، ومنحها اتحاد النساء البلغاري عضوية فخرية في إتح نساء بلغاريا لدورها في إبراز دور المرأة العربية والفلسطينية.

في تشرين الثاني/نوفمبر 1995، وبعد قضاء ثلاثين عامًا في الغربة، عادت مريم بتصريح إلى أرض الوطن وسط عرس فلسطيني مهيب، وبدأت مرحلة نضالية جديدة، تولت منصب عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية، وكانت مسؤولة لجنة دعم الانتفاضة لكل القوى الفلسطينية، وأسست جمعية الدراسات النسوية، وأظهرت بدراساتها النادرة حول( الواقع الاجتماعي للأسيرات الفلسطينيات المحررات من منظور اجتماعي) فكرة رفض المجتمع زواج أبنائهم من الأسيرات المحررات خوفًا من مطاردة الاحتلال الاسرائيلي لهم، ومعاناة بعض الأسيرات من أزواجهن الذين لم يقدروا نضالهن الوطني،  كما ورفضت الترشح للانتخابات الفلسطينية رغم استطلاع اللجنة بأنها ضمن قائمة متقدمة على مستوى الوطن"ما بعتبر المنصب اليَّ بعملني، أنا إليَّ بعمل المنصب".

بعد هذه المسيرة النضالية الحافلة، تفتخر مريم بإنجازاتها، خاصةً وهي تقصّ حكايتها على الشباب الثائر، مؤكدةً أنها ستستمر في نضالها حتى آخر نفس في حياتها، تختتم قصتها: "أعمل حاليًا على توثيق تجربتي التاريخية في كتاب سيصدر لاحقًا، ولا أندم على أي لحظة قضيتها في الدفاع عن وطني، ولو أُعيد لي التاريخ لأبدعت أكثر، فحق وطني في عنقي، وأتمنى أن يمد الله بعمري لأُحقق المزيد من الإنجازات لوطني، فنجاحي مرتبط بحلم شعبي وهو تحرير بلادنا من المحتل الغاصب".