بنفسج

للبنيان.. كلمات تبني.. ترمم.. تهدم.. فأيهم أنت؟

الثلاثاء 02 اغسطس

التخاذل كان ولا زال يُتوارث ويُورث بين الناس، في أزمنة، تجده يدور داخل الأنفس المريضة لا يجرأ أن يبرحها، وفي أزمنة أخرى يتهامس به الناس همسًا، في دوائر مغلقة يخشون أن يسمعهم أحد، وفي أزمنة يكون جهارًا بصوت عالٍ على الملأ، لا حياء فيه ولا خشية. قد يظن الصادقون أن هؤلاء الناس مثلهم، ولكنهم قد أصابتهم لحظة ضعف أو يأس، وقد يرون في أوقات أخرى، أن آخرين منهم ليسوا منا ولا يشبهوننا.

منذ الأيام الأولى لسجن زوجي، وما إن بدأت زيارات السجون تصبح جزءًا من أحاديث كثيرة، لم أسمح لنفسي أن أقف عندها دون رد فعل حازم وصارم، رغم أنني بطبعي ممن يمسكون العصا من المنتصف في معظم حواراتي، وأسمع الرأي والرأي الآخر، وأقبل اختلاف فكر من أمامي، إلا في هذه، لم أكن مهادنة. ربما تتسائل الآن، عن ماذا أريد أن أتحدث، لن أتركك في حيرتك، وإليك بعض من القصة، أو جزء من الرواية، قصة فئة قليلة من الناس لا تمثل إلا نفسها.

يومًا ما وفي الطريق إلى سجن ريمون، وقف بجانبي رجل كبير بالسن على ناصية الطريق، ننتظر حافلة الزيارة، بدأنا كالعادة مع طول الانتظار نتبادل أطراف الحديث بشكل عشوائي، كل يستفسر عن الآخر، من يزور، ومدة الحكم، وعدد الأولاد، وسبب السجن... قالها بصوت مرتفع: وااااال شو جراله شو استفاد ضيع حاله!

قالت لي:
-ليش زوجك قديش محكوم؟ -مؤبدين  قالت: يدلي عليكي! والله هاد ظلم، بياخدوا بنات الناس بعدين برموهم هيك، بدك تعمل هيك إشي تتزوجش. هه، قال يعني حررها!

يومًا ما وفي الطريق إلى سجن ريمون، وقف بجانبي رجل كبير بالسن على ناصية الطريق، ننتظر حافلة الزيارة، بدأنا كالعادة مع طول الانتظار نتبادل أطراف الحديث بشكل عشوائي، كل يستفسر عن الآخر، من يزور، ومدة الحكم، وعدد الأولاد، وسبب السجن... قالها بصوت مرتفع: وااااال شو جراله شو استفاد ضيع حاله! ابتسمت وقلت: واااال إذا هيك، نبيعها أشرفلنا يا حج، ونرتاح! ارتبك، وطأطأ رأسه خجلًا.

صَمَتَ صمت جثة هامدة، ولازم النظر أسفل قدميه، ثم بعد ثوان كأنها سنوات نطق، فغيّر اتجاه الكلام كله، وكأن شخصًا آخر من داخله برز ليتولى زمام الحديث، وكأن وعيًا عاد لعقله بعد جنون أو غيبوبة، أو أن ضميره قد اهتز وانتفض على كلامه الذي سبق فقال لي: هدول الأسرى شرفنا، هدول خندق الدفاع، الله يحميهم! ابتسمت وقلت: شايفتك غيرت رأيك. ضحك خجلًا، فضحكت وقلت: أيوه، هيك من الأول!


اقرأ أيضًا: الطريق إلى ريمون: صحراء تفتك بالأفئدة


امرأة وأختها جلستا بجانبي، شديدتا الطبع، لا تتقنان انتقاء الكلمات نوعًا ما، عندما عرفتا بحكم زوجي وما أدى به إلى السجن، ضربت أحداهما ركبتي وقالت ظلمك، وظلم أبناءه! لم أمتعض، ولم أتأثر، وشعرت بأن واجبي إصلاح هذا الخلل الفكري الذي كان في الماضي يجعلني أغلي غضبًا، ويحزنني لأيام، ولكنني أصبحت أقابله بعبارة بسيطة: لم يُظلم أحد هنا، كان بإمكاننا أن نختار دربًا آخرَ بكل بساطة، ولكننا اخترنا أن نشاركه الأجر، وفرحة حرية الوطن القريبة!

ثم بعد كلماتي هذه، ورد فعلهم الصامت الخجول، أبتعد عنهم، أترفع... أترفع عن خوض الحديث معهم، فلا نقاط تواصل بيننا، كأنهم من وطن آخر، لم يسيروا على أرضنا ولم يشاركونا سماءنا، ولا شهدوا ظلم الاحتلال بأعينهم، والأغرب أنهم معي في باص الصليب عائدون من زيارة أسراهم وفي ساحات الزيارة، وفي طوابير الملابس، في حر الشمس، والبعد، والشوق، ويفترض أنهم يحملون الوجع ذاته! التخاذل يبدأ بهمسات إذا لم نسكتها، تصير فكرًا، فمنهجًا سريع الانتشار والتكاثر كالوباء.

وأي وباء هذا الذي يصيب دينك ووطنك، إنه أعظم ابتلاء قد تبتلى به، هذا ليس رأيي الذي أتغنى به، بل هو كلام الصالحين من قبلي. ‏فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "ما ابتُليت ببلاء إلا وجدت لله عليّ فيه أربع نعم: أنه لم يكن في ديني، وأنه لم يكن أكبر منه، وأنني لم أُحرم الرضا به، وأنني أرجو ثواب الله عليه."

وماذا عن الانهزامية، شقيقة التخاذل، ووليفته، فالبعض ممن طال بهم البلاء يتلذذون بلذة خفية ساحرة يتغذون فيها على خوف المبتلين الجدد، فرغم صبرهم العظيم الذي لا ينكره أحد، تجدهم يصرون في بث هذه الكلمات في آذان القادمين الجدد في درب البلاء، الأغلب لا يعي سوء اختياره لكلماته هذه، بل وقد يظن أنه يساعد ويخفف عن المبتلى الجديد المسكين، فيعود لبيته مفتخرًا بما أخبره به من أخبار وقصص. كلمات عجيبة لم أستطع لليوم أن أفهم كيف وُجد لها سياقًا مناسبًا لديهم.

-لازم تكوني قوية، لسا جايتك أيام صعبة.
-احمدي ربك ولادك لسا صغار بكرة بس يوصلوا المراهقة ومع غياب أبوهم راح يغلبوكي، اسأليني أنا.
-والله أول ما انسجن زوجي كنت متلك، خليت شنتات أواعي سنة باب الدار، وهيو صارلوا فوق العشرين سنة غايب.
-تفرحيش كتير بسؤال الناس عنك، ومعرفتهم فيك ع مواقع التواصل، وتهافت الصحفيين لبيتك، بكرة بعد كم سنة بنسوك، هيني أكبر مثال، اندفنا مكانا وما حد بفكر يحكي عنا اشي.

أأكمل أم أصابكم، صداع الرأس مثلي.. لن أكمل... فلا أسمح لنفسي إذا ذكرتهم، أن أكمل... ولن أسمح لكم أيضًا أن تسمعوا أكثر! فكما قلت الانهزامية كالتخاذل سريعة الانتشار مثله، ويتركان في القلب ندبة، وتُحفَر كلماتهما في العقل، تبقى نصب العينين، إذا لم نكن أقوى منها، فنغلبها!

تمنيت لو أن هذه النماذج اكتفت بسماعي وتصبيري بكلام مشرق متفائل، كما أوصى نبينا، صلى الله عليه وسلم، بالفأل الحسن والكلمة الطيبة، تمنيت لو على الأقل تركوني بما أسموها "سذاجة الأمل"، أخوض تجاربي وحدي. ولكنني لم أذعن لما قالوا وما سمعت، فقد وجدت الحل  في مبدأ كان له سحر أخاذ حتى يومي هذا، ولن أبخل عليكم به طبعًا.

السر في التفرد، فالله قيوم قائم على كل نفس بما كسبت، فقصتك ليست كقصتي وتجربتك لن تكون كتجربتي، ووجعك لن يكون كوجعي، وخاتمتك لن تكون كخاتمتي، فلن أعطيك من عقلي مساحة كبيرة، سأركز على جانبي المشرق الخاص بي، وسأتعلم عندما أجد المبتلين الجدد في الباصات والساحات أن أكون لهم بلسمًا ومسحة أمل وحب.

السر في التفرد، فالله قيوم قائم على كل نفس بما كسبت، فقصتك ليست كقصتي وتجربتك لن تكون كتجربتي، ووجعك لن يكون كوجعي، وخاتمتك لن تكون كخاتمتي، فلن أعطيك من عقلي مساحة كبيرة، سأركز على جانبي المشرق الخاص بي، وسأتعلم عندما أجد المبتلين الجدد في الباصات والساحات أن أكون لهم بلسمًا ومسحة أمل وحب، ولن يخرج من فمي، حتى بعد أن طالت سنوات بلائي إلا كلمات تقويهم، أو سأكتفي بالسماع لهم فقط، ففي السماع دعم يفوق كل دعم، كما حصل مع أمنا عائشة في حادثة الإفك عندما دخلت عليها امرأة جلست بجانبها وبكت دون أن تنطق بكلمة ثم غادرت، أمنا رضوان الله عليها لم تنساها لها أبدًا.

بت دائمًا أسأل نفسي، وأطلب منك أنت أيضًا أن تفعل ذلك، هل تخاذَلَت يومًا ولو سرًا، أم غلبتك الانهزامية، هل خرجت منك كلمات تشاؤم أمام عيني مبتلى، تعلق بك وعيناه وسمعه يتفحصان حروفك عله يجد فيها شفاءً! دع عنك قصة السجن والسجان وكل ما ذكرت، وأسقط كلماتي على واقعك، وانظر في أي الفريقين أنت، أسقطه على كل جوانب حياتك، وبعد أن تجيب بصدق، تذكر دائمًا، التخاذل والانهزامية أخوة، كل منهما يبدأ بهمسات، إذا لم نسكتها، تصير فكرًا، فمنهجًا سريع الانتشار والتكاثر كالوباء.