بنفسج

تسألني طفلة تسكنني: من أفسد كل ذلك؟

الثلاثاء 23 اغسطس

يبدأ محمد رفعت بتلاوة القرآن من إذاعة القرآن الكريم، تنادي أمي بصوتٍ عالٍ وهي تُعد فُطورنا: "يلا اتأخرتم على المدرسة!". كان هذا ترهيبًا حتى نستيقظ أسرع! أقوم مُكدّرةً حاملةً هم حصة الرياضيات التي كانت لا تسبب انزعاجًا لي أكثر من انزاعجي من شرب كأس الحليب صباحًا، ثم نخرج أنا وأخي مشبّكي أيدينا بوصيةٍ من أمي: "امشوا بسرعة قبل الطابور ما يفوتكم وتتعاقبوا!". نسير وحركتنا أسرع من القطار، لم نتأخر قط على طابور الصباح يا أمي!

في أول يوم دراسي من الصف الأول، كنا نجلس غرباء، لكل منا شعورٌ مختلف؛ هذا متحمس، وذاك خائف، وتلك متفائلة. بعد أيام قليلة اعتاد بعضنا على بعض، وأصبحت تلك الوجوه التي كانت غريبة، مألوفةً لي. أصبحنا شركاء في صف واحد وفي مقعد واحد، نتحدث عن أحلامنا الصغيرة كأحجامنا، كان حلمي أن أقدّم فقرةً في الإذاعة المدرسية، لكني كنت شديدة الخجل.

 وكان تقديم الفقرات دائمًا من نصيب الطالبات المتفوقات التي لم أكن يومًا واحدة منهن، لكني ما زلت أتذكر الفقرات كلها، الأحلام لا تُنسى! تبدأ بالقرآن الكريم، ثم يتلوه النشيد، ثم يُهتَف بصوتٍ عال: يا شباب العالم الإسلامي أدوا صلاتكم وعودوا إلى ربكم وتمسكوا بسنة نبيكم.. هذا شعاركم! ثم تحية العلم، ينتهي الطابور ويتوجه كل منا إلى صفه.

دائمًا كانت الحصة الأولى "حصة القرآن الكريم"، ثم تتبعها حصة اللغة العربية، ثم الرياضيات؛ الحصة التي لم تكن ممتعة أبدًا، أتحملها لأنه يليها "الفسحة" ولها من اسمها نصيب، فهي فسحة لكل طفل منا ليتحدث بحرية دون تقييد من أستاذه، نتحاور بحماس عن مسلسلاتنا الإلكترونية المفضلة، كان كرتوني المفضل "ماوكلي"، بينما كان الكرتون المفضل لصديقتي هو "المحقق كونان". طبيعي واحدةٌ مثلي ترى صعوبة في جدول الضرب كيف لها أن تحب المحقق كونان؟! كلٌ منا يمد بصره ويحلم. كان حلمي أن أكون مذيعة تظهر على شاشة التلفاز عندما أكبر، كنت أقول: يومًا ما سأكون من المتفوقات وأقدم فقرة في التلفاز بدلًا من الإذاعة المدرسية.

كان كل شيء بسيطًا، حتى طعامنا كان ثلاث أنواع من الشطائر "السندوتشات"، لا يوجد غيرها مع جميع الأطفال، محفوظة في كيس بلاستيكي أبيض شفاف لا يتكلم أحد وقتها عن أضراره وفوائد "اللانش بوكس". مقلمة ملونة معنا في حقيبة المدرسة، نحمل بها أقلامنا وأدوات الكتابة والألوان، وفي كل يوم كنت أعود لأمي ومقلمتي تخسر لونًا!


اقرأ أيضًا: الكافل واليتيم: نُفوس سكنها الظل وجودي آبوت


الكثير من التفاصيل والذكريات التي لو ظللت أحكيها لكتبت فيها كتابًا! لكن أتساءل لِمَ كل شيء كان سعيدًا بهيجًا آنذاك؟! كإعلان الرحلة المدرسية البسيطة لحديقة الحيوان، حصة الألعاب، حصة الرسم، آخر يوم في الامتحانات، وأول يوم في العطلة، فستان العيد، حضن أمي بعد العودة إلى البيت، عيدية أبي في صباح العيد، الشوارع حينها.. والناس! من الذي أفسد كل ذلك داخلنا؟! هل تغيّر الناس؟!

ماذا عن يوم الجمعة؟ فهو هو يوم الجمعة لم يتحرك ترتيبه، نعم ظل كما كان في نهاية الأسبوع، لكنه أصبح بعيدًا كل البعد عن يوم العطلة الذي كنا نعيشه! فقد كانت له نكهة خاصة! صلاة الجمعة، وزيارة الجدة، ثم مشاهدتنا برنامج "عالم الحيوان" الذي عرفت من خلاله الكثير عن الحيوانات، برنامج "العلم والإيمان" الذي يقدمه الدكتور مصطفى محمود ولم أكن أستوعب ما يقول، لكن لشدة ما كان ينصت له من حولي باهتمام وانتباه، كبرتُ على أنه كان برنامجًا شيقًا مهمًّا!

مرت الأيام وكبرت، وكلما رأيت أمي، يخطُر بداخلي أنا أقول لها: كبرت ابنتُك يا أمي، ولم يعد القلم الملوّن وحده الضائع. ابنتك نفسها صارت تائهة، لم أنجح في أن أقدم فقرة في الإذاعة المدرسية، ولا أن أقدم فقرة في التلفاز، لم يُكتب لي أن أكون من المتفوقات، لكنني ما زلت أحبك وأحب صديقتي وأحب ماوكلي.

 لم يكن التلفاز يبث في ذلك الحين سوى تسع قنوات، تُغلَق جميعها عند الثانية عشر ليلًا، والجميع ينام، تجد البيت هادئًا في هذا الوقت من الليل، لا صوت فيه سوى إذاعة القرآن الكريم، تؤنس البيت وتؤنس معه قلوبنا. ومن هنا، ورغم كل التقدم التكنولوجي، كان ولم يزل الحب والتقدير دائمًا لإذاعة القرآن الكريم، فهي الشيء الوحيد الذي ظل باقيًا حيًّا من قاموس الذكريات.

مرت الأيام وكبرت، وكلما رأيت أمي، يخطُر بداخلي أن أقول لها: "كبرت ابنتُك يا أمي، ولم يعد القلم الملوّن وحده الضائع. ابنتك نفسها صارت تائهة، لم أنجح في أن أقدم فقرة في الإذاعة المدرسية، ولا أن أقدم فقرة في التلفاز، لم يُكتب لي أن أكون من المتفوقات، لكنني ما زلت أحبك وأحب صديقتي وأحب ماوكلي."

أصبحت أُمًّا وما زلت أتمنى لو آخذ فسحة بنفس فرحة فسحة المدرسة وأن أجد صديقًا جيدًا أتحدث إليه. وأن يكون أعظم إنجازي هو الحصول على فرصة الجلوس على المقعد الأول، أو تقديم فقرة في الإذاعة المدرسية!  لو بقيَت حصة الرياضيات، وبقيت معها طفلة صغيرة تتعلق يدها بيد أخيها، تعد لهم أمهم الطعام كل يوم في السابعة صباحًا. يومًا ما، كنا أنا وأنت نحمل همًّا لا يأتي مثقال قَشة فيما نحن نحمله الآن!