بنفسج

ليس حبيس زنزانة: عن الحب سأتكلم

الثلاثاء 20 سبتمبر

كان ظهرها للبوابة وعيونها تطالعه من خلف الزجاج العازل للصوت، تقف على رؤوس أقدامها لتحظى برؤية أفضل، تلوح بيدها في إشارة للوداع، وعلى وجهها ابتسامة، وعندما يئست من رؤيته، وأصبحت عيونها تطالع الجندي بلباسه الخاص بالسجون، مضت تنتظر كما البقية عند بوابة التفتيش الأخيرة داخل السجن، لتستلم هويتها المصادرة. عندما خرجت جمعت حاجياتها، وركبت باص الصليب الأحمر المخصص لنقل عائلات الأسرى، أخذت نفسًا عميقًا وقالت: "تركت واقعك الجميل خلفك داخل السجن، وعليك أن تواجهي كما كنت دائما هذا الواقع الثقيل المفروض عليك في الخارج، لا تدع قلبك يخفق كثيراً، سيسبب لك الكثير من التعب!"

أجابها صوت خافت في داخلها: ولكن واقعي مع هذا الذي في الداخل، حرمني منه حكم محتل جائر، وحواجز، وزجاج عازل، وتصريح بالدخول، والكثير من الموانع اللا منطقية، كيف أقنع نفسي وبأي منطق أخاطبها بأن هذه حياتي، وحياتي في الأصل معه هو!

-قالت: صحيح معك حق ولكن لديك أولاد بحاجة قوتك، وبحاجة تفاؤلك، وصبرك، واستمرارك ولو كان استمرارًا بادعاءٍ أحيانًا وبثبات أحيانًا أخرى!

-الصوت: أنا في داخلي طفلة صغيرة، وإني حقًا أخاف هذا العالم الكبير، وأنا وحدي أمامه، أظن أنني سأنهار!

-قالت: أعلم ذلك، ولكن عليك أن تهدئي، أنا أعلم أنه ليس من السهل العودة لكل مسؤولياتك دونه، وليس سهلًا إطباق الظلام عليك، وشعورك بوسع الكون وضيق الحياة عليك، أراك كل ليلة على جانبك من السرير، تنامين نومة جنين في بطن أمه خائف، والكل يعلم أن الأجنة لا تعرف سوى الأمان في أرحام الأمهات، وأنا أعلم أن رحم الدنيا التي أنتي فيه ليس كباقي الأرحام، أعلم أنه معكوس الصفات فأنت في داخله خائفة ولكن الاطمئان قادم عند أول طلقة مخاض تحمل معها الفرج!

-الصوت: ولكن في قلبي حب، وهذا الحب أسير مثلنا، لا يمكني الحديث مع من أحب، ولا أن أعبر له عن شوقي ولا غضبي ولا يسمع شكواي، ولا يقول لي كلمة تطمئني، الحياة عندي متوقفة منذ وقت طويل، وأشك كثيرًا في أن قلبي ما زال ينبض، فأتحسسه لأتأكد!


اقرأ أيضًا: "ممنوع تطلعي من الخليل".. هل تسجننا الكلمات أيضًا؟


-قالت: اعتبري حبك رواية سيسطرها الزمان، كما كل القصص التي تسلب ألباب العاشقين حتى يومنا هذا، وهوني على نفسك بأن اللقاء عندما يكون، سيشهد به التاريخ، على أنه رواية صبر وانتصار، وستكونين قدوة للعاشقين الذين قدموا نبضات قلبهم لأجل الوطن!

-الصوت: صدقت والله، ولكنك تعلمين كم من الصعب أن ينقطع صوت الحوار بيني وبينه في الدقائق الأخيرة من الزيارة، لنكمله في الزيارة التالية، كمية الأحداث في اليوم والليلة والأسابيع دون أن يعلم عنها شيئًا، كمية المعاناة التي أخوضها وحدي، فالحب مشاركة واهتمام متبادل، كم من نظرة واحدة تغني عن دقائق بل وساعات من الكلام، كم من" يعطيك العافية" أزاحت جبالًا من الضغط والتعب، وكم وكم.

-قالت: وهل يضيع ذلك عند الله، لا والله لا يضيع، سيجبر كل ذرة احتياج لديك، وسيعوضك بالعوض الذي لم تتخيليه أبدًا، أعدك!

مسحت على قلبها، وتأملت من النافذة، الدنيا الفسيحة، وصحراء ريمون التي تتسع اتساع الأفق، وقالت: يا واسع الفضل، أكرمنا من واسع فضلك، وأوقفت ذلك الصوت الذي لا يتقن سوى فنون الشكوى. يقف هو، ظهره للجندي يطالعها من خلف الزجاج العازل، في عيونه لمعة حب ودفء ودمعة مخفية، يدير ظهره بعدما أدارت ظهرها فيجد القيود بيد الجندي تنتظره، يُجَر إلى زنزانته، فيجلس على "برشه" ويغلق على نفسه الستارة، ويمسك بيده صور أبنائه يتأملهم وقد كبروا كثيراً، في عقله حروب طاحنه، كل يوم يحاول تصورهم بهيئتهم الجديدة وأطوالهم التي لم يعهدها، يبدأ بإعادة شريط ذكريات الزيارة من أول إطلالتها حتى لحظة المغادرة، لا يكتفي بإعادة الشريط مرة واحدة، بل يمضي اليوم كله كذلك.

-يقول: لا تقلق، الفرج قريب، وستعوضها عن كل ما فقدت هي والأولاد.

-يأتيه صوت من داخله: لكنها وحدها في عالم مقيت موحش تقاسي مرًا، وتتحمل مسؤوليات كان من المفترض أن تكون مسؤولياتي أنا.

-يقول: أنت تعلم أنك ما تركتها إلا مضطرًا، لا لأجل مال ولا منصب، ما تركتها إلا للوطن، وأنك تدعو الله كل ليلة في القيام أن يفك أسرك حتى تعوضها عن كل لحظة ألم.

سمعني جيدًا لقد تركتهم لأجل لقاء الله، ولأجل حرية وطن، لن يضيعك الله، وحاشاه أن يحرمك من لقائه وجنانه ليجازيك سجنًا، اصبر فرب يعقوب ويوسف معك، ولن يَتِرَك عملك، ستضمهم قريبًا ثق بالله.

-كم أفتقد روحها، كم أفتقد أن أفتح قلبي، فأخبرها عن كل يومي، أو حتى هنا في سجني الموحش أفتقد أن أخبرها كم أقاسي، كم أنام باردًا في الشتاء، غارقًا في عرقي في الصيف، كم أفتقد أكلها اللذيذ، فالطعام هنا لا يؤكل، أنا لا أقول أي كلام هو حقًا لا يؤكل، أفتقد لمة أولادي عند عودتي من العمل، رائحة الكد والتعب التي أغسلها عني بسعادة بعد يوم من الإنجاز في سبيل سعادتهم، وهم ينتظرونني كالأمراء في القصور أخفي عنهم ما كابدته لأجلهم.

-اسمعني جيدًا لقد تركتهم لأجل لقاء الله، ولأجل حرية وطن، لن يضيعك الله، وحاشاه أن يحرمك من لقائه وجنانه ليجازيك سجنًا، اصبر فرب يعقوب ويوسف معك، ولن يَتِرَك عملك، ستضمهم قريبًا ثق بالله.

-ونعم بالله
عاد يتأمل الصور ورسم على وجهه ابتسامة ومسح الدمعة!

في السجون حكايات كثيرة قُتل فيها الحب، وفي السجون حكايات حب بدأت، وفي السجون متحابون لم يعرفهم تاريخ الأدب القديم ولم يعتقد الناس بوجودهم يومًا، وفي السجون علاقات تقاتل كل اليوم المجتمع والناس والأنفس لتستمر نبضات القلوب على ما كانت عليه.

وإنني وجدت في النهاية أن المعدن الأصيل غلاب، مع كل التقلبات يفوز الحب في النهاية، تفوز العشرة والمحبة والتضحية، قصص نهايتها سعيدة، إلا ما ندر، إلا من كتب الله عليهم بلاءات أشد وأعمق، ولكن الثقة بالله تقول أنه لا بد من وجود عوض، ولا بد من نهاية ترضيك، على قدر رضاك يأتيك الرضا، وإن رضي الله عنك يأتيك الرضا، فاستمع لنبضات قلبك وامسح عليه ودعه يطمئن.

عن الحب تكلموا ولا تجعلوه حبيس زنزانة، عبروا عن حبكم لبعضكم بالأفعال فالكلام غير كاف، ويبطل عند أول موقف على أرض الواقع، وتعلموا من هذه الحكاية أن موقف الحب الأسمى هو انتظار لا يخفت بطول الوقت ولا بعد المسافات ولا استحالة اللقاء. وأن المنتظر المخلص لا بد لقلبه أن يخفق بجانب قلب حبيبه!