بنفسج

اقرأ وارتق وارتو: كيف نتدبر القرآن؟

الثلاثاء 27 ديسمبر

في سير رحلتي مع القرآن الكريم كان لا بُدَّ من الوقوف على محطّة التدبّر، فدائمًا ما كنت أشعر أن الغاية من القرآن الكريم أكثر من مجرد الحفظ والترتيل، بل هو منهاج حياة لنحيا به ونُنزله على واقعنا وعلى مختلف أحوالنا، فإن قرأتُ آية فيها نهي امتنعت، وإن قرأتُ آية فيها أمر امتثلت، وإن مررتُ على آية تتناول أحوال الأمم السابقة اتعظت واعتبرت وإن تلوتُ آية تصف نعيم أهل الجنة تاقت الروح شوقًا إليها وسعت عملًا وعبادةً لتكون من أهلها. لكن، كيف للواحد منّا أن يدرك ذلك كلّه من دون فهم كلام الله وتأمّله والوقوف على معانيه؟ وكيف له أن يحيا بالقرآن دون أن يتدبّر آياته ويعمل بها؟!

عن تدبر القرآن

قال ابن القيم رحمه الله: "ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبّر القرآن وإطالة التأمّل فيه". ومن أجل تحصيل كل هذه الفوائد قررت الالتحاق بدورة "مفاتيح فهم القرآن" مع فضيلة الدكتور أسامة المراكبي، مدرس التفسير وعلوم القرآن الكريم في كلية أصول الدين جامعة الأزهر، وكان لهذه الدورة أثر كبير عليّ، فقد أنارت في عقلي العديد من الدروب المظلمة التي لم أكن ألقي لها بالًا حول تدبر القرآن وعظيم أهميته، ولهذا أردت اليوم أن أشارك معكم حصيلة ما فهمته وما تعلّمته من هذه الدورة عبر هذا المقال. بداية، دعونا نتساءل، ما الفرق بين تدبّر القرآن وتفسير القرآن ومن المأمور بكل منهما؟

تدبر القرآن؛ هو الجهد العقلي المبذول لتأمل معاني آيات القرآن وفهم المراد منها وتطبيق هذا المراد بالعمل، والتدبر مأمور به كل إنسان لا ينوب فيه أحد عن أحد لأنه عمل قلبي يُطلَب به التبصّر والتذكّر والاعتبار. أما تفسير القرآن فقد عرفه الزركشي بأنّه: "علم يُعرف به فهم كتاب الله المنزّل على نبيه، صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه". فالتفسير مختصّ فقط بالراسخين من العلماء، بحيث إن قام به البعض منهم يكفي عن بقيّة الأمة لأنه عمل علمي تعليمي يُقْصَد به البيان والتبيين.

يرى العديد من العلماء بأن حكم تدبّر القرآن واجب شرعًا، وأن في تركه هجرًا للقرآن وتركًا لأمر الله فقد قال الله تعالى: ﴿كِتابٌ أَنزَلناهُ إِلَيكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّروا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلبابِ﴾ [ص: ٢٩] قال القرطبي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن. وفي قوله تعالى: ﴿وَقالَ الرَّسولُ يا رَبِّ إِنَّ قَومِي اتَّخَذوا هذَا القُرآنَ مَهجورًا﴾ [الفرقان: ٣٠] قال ابن كثير: "وترك تدبّره وفهمه من هجرانه".

 أساليب تدبر القرآن الكريم

 

من أساليب تدبر القرآن الكريم هو تأمّل مواضع أسماء الله الحسنى ومناسبتها: مثلًا في قوله تعالى: ﴿إِن تُعَذِّبهُم فَإِنَّهُم عِبادُكَ وَإِن تَغفِر لَهُم فَإِنَّكَ أَنتَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ [المائدة: ١١٨]

تأمّل الآية الكريمة لماذا خُتِمَت باسم الله "العزيز والحكيم"، ولم يقل سبحانه إنك أنت "الغفور الرحيم"، رغم أن السياق يتحدّث عن العذاب والمغفرة؟

قال القرطبي رحمه الله "لأنه قصد التسليم لأمره والتفويض لحكمه. ولو قال فإنّك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل".

وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: "لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها". إذًا للتدبر أهمية كبيرة وفائدة عظيمة، فما هي الأساليب المعينة على التدبّر؟ إن للتدبّر العديد من الطُرق، فقد صنف العلماء الكثير من الأساليب المنهجيّة لتدبّر القرآن الكريم أذكر منها:

| أولًا: الاعتبار:

ويقصد به تأمّل الآيات وأخذ العبرة منها، كأن تحدّثنا الآية عن أحوال الأمم السابقة الذين كذبوا بالبعث والجزاء، أو الذين عذبوا الأنبياء والمرسلين، وما أصابهم من العذاب نتيجة لكفرهم وعنادهم قال تعالى: ﴿لَقَد كانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبابِ﴾ [يوسف: ١١١] فقد قيل: إذا أخبر الله سبحانه بغضبه على قوم وعقابه إياهم، فظاهر ذلك إخبار عنهم، وباطنه عِظة وتنبيه لمن يقرأ ويسمع من الأُمّة".

| ثانيًا: تأمّل مواضع أسماء الله الحسنى ومناسبتها:

مثلًا في قوله تعالى: ﴿إِن تُعَذِّبهُم فَإِنَّهُم عِبادُكَ وَإِن تَغفِر لَهُم فَإِنَّكَ أَنتَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ [المائدة: ١١٨] تأمّل الآية الكريمة لماذا خُتِمَت باسم الله "العزيز والحكيم"، ولم يقل سبحانه إنك أنت "الغفور الرحيم"، رغم أن السياق يتحدّث عن العذاب والمغفرة؟ قال القرطبي رحمه الله "لأنه قصد التسليم لأمره والتفويض لحكمه. ولو قال فإنّك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل".

| ثالثًا: ملاحظة الترتيب:

القرآن الكريم غاية في الفصاحة والبلاغة حد الإعجاز، وللمتأمّل به يجد ما يدهش عقله، فترتيب الكلمات به من حيث تقديمها وتأخيرها له حكمة ومعنى. مثلًا في قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذينَ صَدَقوا وَتَعلَمَ الكاذِبينَ﴾ [التوبة: ٤٣] قال ابن عطية: "قدّم له ذكر العفو قبل العتاب إكرامًا له صلى الله عليه وسلم"، وما أرقّه من عتاب بُدِأ بالعفو قبل المعاتبة.


اقرأ أيضًا: صاحب القرآن... الحفظ والتدّبر وضبط التلاوة


وفي قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيبُ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ فَاعبُدهُ وَتَوَكَّل عَلَيهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعمَلونَ﴾ [هود: ١٢٣] يقول أبو السعود: في تقديم الأمر بالعبادة على الأمر بالتوكّل، إشارة إلى أنه لا نفع للتوكّل دون العبادة، فالفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكّل".

| رابعًا: ملاحظة شروط الوعد وأسباب الوعيد:

يقول الغزالي: "لا يُرَى ذِكر المغفرة والرحمة إلا مقرونًا بشروط يقصر العارف عن نيلها كقوله تعالى: ﴿وَإِنّي لَغَفّارٌ﴾ ثم أتبع ذلك بأربعة شروط: ﴿لِمَن تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهتَدى﴾ [طه: ٨٢]

| خامسًا: تنزيل الآيات على الواقع:

وهو أن يستحضر الإنسان آيات القرآن الكريم في مختلف مواقف حياته، جاعلًا من كتاب الله سبحانه الدليل الذي يهتدي به عند حيرته والمنهاج الذي يسير عليه إن اختلطت عليه السُبل، ويكون كتاب الله مرجعًا له في كل حال ألمَّ به، فيجد بالآيات التي تُبشّر الصابرين المواساة لحزنه ومُصابه، وفي ذكر الجنة يستبشر ويتزوّد من الطاعات والقُربات، وإن كان في موقفِ قوة يقدر فيه على البطش والظلم استرجع مصير فرعون وغيره من الأمم السابقة فتجده يتّعظ ويستغفر. وصدق الله العظيم بقوله: ﴿وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرى لِلمُسلِمينَ﴾ [النحل: ٨٩].

موانع بينك وبين التدبر

القرآن الكريم فصيحٌ لفظه بديعٌ، بيانه مُعجِزٌ في بلاغته وإيجازه، فقد أنزله الله سبحانه بلغة قومٍ كانوا متمكنين من العربية وفي غاية الفصاحة والبلاغة، أما نحن فقد تغرّبنا عن لغتنا واستُعجمت ألسنتنا، فكل بلد يستخدم لهجته العامية بل وأصبحنا نُكثِر من إدخال الألفاظ والمصطلحات الأجنبية وسط أحاديثنا اليومية.

 ناهيك عن أنه كثيرٌ من الناس لا مشكلة لديه بإنفاق مبلغ كبير من المال في سبيل إتقان الإنكليزية نحويًا ولغويًا، بل والكثير ينفق ماله لإتقان اللهجة الأمريكية أو البريطانية، في حين أنه هو ذاته غريب عن لغته الأم وقواعدها وفصاحتها! والحل لهذا المانع العودة للاهتمام بتعلّم العربية وإتقان قواعدها.

بعد التعرّف على بعض أساليب التدبّر، بقي أن أُشير إلى موانع تكون عائقًا بينك وبين تدبّر القرآن الكريم:

| الاعتقاد أن المُراد من القرآن الكريم هو مجرد الحفظ: وإتقان التجويد وحسن الترتيل وحسب، وفي هذا كلّه خير بالتأكيد، لكن ثمَّة فائدة عظيمة من آيات القرآن لا تتأتّى إلا بالعكوف على تدبّره والسعي إلى ذلك. ولهذا السبب أمرنا الله سبحانه بتدبر القرآن الكريم.

| ارتكاب الذنوب والمعاصي والإصرار عليها: قال ابن قدامة رحمه الله: «ولْيتخلَّ التَّالي [للقرآن] عن موانع الفهم، ومن ذلك: أن يكون مُصِرًّا على ذنبٍ، أو مُتَّصفًا بِكِبْرٍ، أو مُبتَلى بهوىً مطاع، فإنَّ ذلك سببُ ظلمةِ القلب وصدئه، فالقلب مثلُ المرآة، والشَّهواتُ مِثْل الصَّدأ، ومعاني القرآن مِثْلُ الصُّوَرِ التي تتراءى في المرآة، والرِّياضة للقلب بإماطة الشَّهوات مِثْل جلاء المرآة".

| الغربة عن اللغة العربية: فالقرآن الكريم فصيحٌ لفظه بديعٌ، بيانه مُعجِزٌ في بلاغته وإيجازه، فقد أنزله الله سبحانه بلغة قومٍ كانوا متمكنين من العربية وفي غاية الفصاحة والبلاغة، أما نحن فقد تغرّبنا عن لغتنا واستُعجمت ألسنتنا، فكل بلد يستخدم لهجته العامية بل وأصبحنا نُكثِر من إدخال الألفاظ والمصطلحات الأجنبية وسط أحاديثنا اليومية.

 ناهيك عن أنه كثيرٌ من الناس لا مشكلة لديه بإنفاق مبلغ كبير من المال في سبيل إتقان الإنكليزية نحويًا ولغويًا، بل والكثير ينفق ماله لإتقان اللهجة الأمريكية أو البريطانية، في حين أنه هو ذاته غريب عن لغته الأم وقواعدها وفصاحتها! والحل لهذا المانع العودة للاهتمام بتعلّم العربية وإتقان قواعدها، والتوسع بالتعرف على مفرداتها بكثرة القراءة والبحث، بالإضافة إلى الاستعانة بكتب وبرامج التفسير، وهذا ما سأوضحه في الفقرة القادمة.

 أساليب تعينك على التدبر

IMG-20220919-WA0005.jpg
من المهم حضور مجالس العلم في المسجد لشحذ همة المتابعة

| المصحف الجامع: مما أعانني على تدبّر القرآن الكريم: المصحف الجامع لعلوم القرآن الكريم: تعتمد صفحات هذا القرآن على الترميز اللوني في عرض كافةً علوم القرآن حيث تعرض لك: اللون الأخضر يرمز إلى تفسير القرآن.  الأصفر يرمز إلى أسباب النزول. البرتقالي شرح لأسماء الله الحسنى. الأزرق يرمز للمتشابهات وتفسيرها. البنفسجي للفوائد اللغوية. الأحمر يرمز للقراءات العشر.

| تطبيق مصحف القرآن تدبر وعمل: بالإضافة إلى أسباب النزول والإعجاز القرآني.  تطبيق ومصحف القرآن تدبّر وعمل: من أكثر الوسائل المعينة على التدبّر مصحف "القرآن تدبّر وعمل" يحتوي هامش صفحته على: وقفات تدبرية. جدول معاني الكلمات. العمل بالآيات. نصائح وتوجيهات. ومتوفر أيضًا بصيغة إلكترونية، تطبيق يمكن تحميله على الهاتف المحمول.

| حضور مجالس العلم: الحرص على متابعة المجالس في تفسير القرآن الكريم أو الاستماع لدروس التفسير عبر اليوتيوب لفضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي.

في الختام، أنصحك بأن لا تحرم نفسك من ثواب تدبر القرآن الكريم وعظيم أثره، فإن كان الحفظ والتلاوة في عين الرأس التي هي أداة النظر والإبصار، فإن التدبّر تُحَصِّله في عين القلب والتي هي أداة الرؤية والاعتبار، وكلّما شَغلتَ المزيد من جوارحك في القرآن والعمل به والانهماك به، كلّما عَظُم أجرُك وزاد ثوابك وظهر أثر القرآن عليك قولًا وفعلًا.