بنفسج

يسرى العكلوك: عن رسائل الحُبِّ التي خبأها أسامة الزبدة

الأحد 06 نوفمبر

"كنتُ أرسمُ ردةَ فعلك، أتخيلُ ابتسامتَك وأنت ترى أمامك العطرَ الذي أردته، وأحدِّثُ نفسي: لا بُدَّ أن رائحتَه ستكون مختلفةً عليكَ يا أسامة، فكلُّ ما تلمسُه أصابعُك يأخذُ قداسةً في قلبي. خبَّأتُ زجاجةَ العطرِ بين ثيابِ الصَّيف لأضمنَ أنَّك لن تصلَ إليها، وما هي إلَّا أيامٌ معدودة، وأتيتني يا أسامة بعطرٍ لا يُجابُ مثيلُه لو طُفنا الكونَ إسراءً ومِعراجًا، أتيتني بعطرِ الشَّهادة يا أبا جمال، امتلأتْ رائحة الدَّار من هذا المسك، ثمَّ رحلتَ رحيلَ الفائزين".

رحل أسامة، لكنَّ عطرَه لم يرحل، مازال مُغلَّفًا على "حطَّةِ" الحبِّ الأخيرة، بجانبِ قميصه الذي تحنَّى بدماء "العريس" الرَّاحل. كان قدرُ اللهِ على قلب يسرى العكلوك (30 عامًا)، أن يحفظَ نقصانَ الأشياء، أن يضمِّدَ وجع الشوق بخيوطِ الصَّبر والوصية الأخيرة، أن تبدأَ رحلةً جديدة في مساعي الحياة، تكون فيها البدايةُ والنَّهاية، فقد انتهى من امتحان الدنيا ذلك السَّند الذي كان يربتُ على كتفِها قائلًا: "سيري يا يُسرى وأنا في ظهرك". وأصبح اليومَ بلقبِ الشَّهيد أسامة جمال الزبدة.

لم يكن فقْدُ أسامة هو الفقد الأول الذي عاشتْه يُسرى، ففي حرب 2014 فقدتْ أخاها إسماعيل، وبعد7 سنواتٍ خيِّمُ الفقدُ عليها ثانيةً برحيل زوجِها أسامة ووالدِه الدكتور الشهيد جمال الزبدة، فكان الابتلاءُ كبيرًا، لكنَّ الله ربطَ على قلبها وسيَّرَ على لسانِها قوله جلَّ جلاله: "ربنا إنَك جامعُ الناس ليومٍ لا ريبَ فيه إنَّ اللهَ لا يُخلِفُ الميعاد"، فأصبح هذا الدعاء زادُ يسرى في كلِّ يوم، والدَّرس الذي تُلقنْهُ لأطفالها الثلاثة كلَّ صباح بجانب كأس الحليب.

| عائلة "أسامة الزبدة" بعد الفقد

هذه الصحافية يسرى العكلوك التي خرجت في أيام العزاء على قناة الجزيرة تقول: سأُربِّي في أبنائي دماءَ الثأرِ لأبيهم، وجدِّهم فاحفظ أسماء أبنائي جيدًا". كان صوتُها قويًا تستند إلى آياتِ الصَبر ونعيم الشهداء. لم تكن هذه الكلمات وليدةَ لحظةٍ عابرة. لقد مضتْ الأيام، وسارتْ الأشهر بعجافها واتَّساعها، لِنرى أطفالَ يُسرى يلتفُّون حول أمهم، فهذا البكر جمال "7 سنوات" يعرفُ جيدًا أنَّ بابا قد أضحى شهيدًا، وأنَّ ميراثه في الحياة أن يسيرَ على دربِه، فبدأَ الطريق بالتحاقه بحلقاتِ التَّحفيظ ليتمَّ حفظ جزء عمَّ.
 
وعندما أقبل شهرُ رمضان الأول بدون أبيه، عقدَ العزم مع أمَّه أن يصومَ الشَّهر كاملًا وأن يلتزمَ بصلاة التراويح جماعةً، كان يهمسُ في أذن أمِّه يُسرى: "بابا وجدو هيك مبسوطين مني؟!" ويغمزُها بغمزةِ السَّعادة، تلك الغمزة التي ورثها من عينيَ والده.

هذه الصحافية يسرى العكلوك التي خرجت في أيام العزاء على قناة الجزيرة تقول: سأُربِّي في أبنائي دماءَ الثأرِ لأبيهم، وجدِّهم فاحفظ أسماء أبنائي جيدًا". كان صوتُها قويًا تستند إلى آياتِ الصَبر ونعيم الشهداء. لم تكن هذه الكلمات وليدةَ لحظةٍ عابرة. لقد مضتْ الأيام، وسارتْ الأشهر بعجافها واتَّساعها، لِنرى أطفالَ يُسرى يلتفُّون حول أمهم، فهذا البكر جمال "7 سنوات" يعرفُ جيدًا أنَّ بابا قد أضحى شهيدًا، وأنَّ ميراثه في الحياة أن يسيرَ على دربِه، فبدأَ الطريق بالتحاقه بحلقاتِ التَّحفيظ ليتمَّ حفظ جزء عمَّ، وعندما أقبل شهرُ رمضان الأول بدون أبيه، عقدَ العزم مع أمَّه أن يصومَ الشَّهر كاملًا وأن يلتزمَ بصلاة التراويح جماعةً، كان يهمسُ في أذن أمِّه يُسرى: "بابا وجدو هيك مبسوطين مني؟!" ويغمزُها بغمزةِ السَّعادة، تلك الغمزة التي ورثها من عينيَ والده.

وأما مريم المُدللة ابنة الـ 10 سنوات، "شطر روح أسامة" كما كان يحبُّ أن يناديها، فقد حفِظتْ عن ظهرِ قلب، كلُّ الطرق التي ستقودُها إلى لقاءِ أبيها، فبدأتْ بحفظ 5 أجزاءٍ من القرآن الكريم، ومع كلِّ جزء كانت تكتبُ رسالةً إلى أبيها، تبوح فيها بأسرارها، تصفُ له لذة اللقاء الأخير في الجنة، وتخبره أنَّها أصبحت صديقة "ماما يسرى". وأما عن إسماعيل الصغير كما تمنَّى أسامة أن يسميَّه تيمُّنًا باسم صديقه الأقرب وشقيق زوجته يسرى، فما زال يخطو خطواته الأولى، لكنَّه يعرف والده الوسيم، كصورةٍ مُعلَّقة في زاوية البيت، يركضُ إليها، يُقبِّلها، ويحني رأسه عليها ويناديه بحرف الباء الوليدِ منه.


اقرأ أيضًا: الشهيدان الزبدة: كواليس خلف الشخصية العسكرية


لقد ألقتْ يسرى كلمتَها أمام الجموع، ولْيُعلمَ الحاضرُ كلَّ غائب، أن هذه السيدة تفي بوعدِها مع أبنائها وما زالتْ تفعل ذلك، ففي كل يوم، قبل أن يخرجَ جمال ومريم إلى المدرسة يُرددان خلف أمهم: "رضينا بالله ربًا وبالإسلام وبمحمِّدٍ نبيًا ورسولًا وببابا أسامة شهيدًا مرْضِيًا". لم تتوقّف قوة يُسرى عند هذه العتبة، فمنذُ لحظةِ الفقد الأولى، أعدَّت عتادَ الأيام القادمة، فأصبحت الأم والأب، ورفضت كلَّ أشكالِ الانكسار والشَّفقة، فأن تكوني زوجةَ شهيد يعني أنَّ المفخرة حقُّكِ ومُستحقَّك، وأنَّ هؤلاء الأطفال هم إرثُ الحبيبِ الرَّاحل وكنزٌ للوصول إلى الجنة. أحاطتْ يُسرى بأطفالها تحميهم بردَ الأيام، تبتسمُ في وجهِ اللّطفاء، وتُكشِّر عن أنيابِها أمام أيِّ دخيلٍ يمسُ هذا الكنز.

| يُسرى وميدان العمل

4-6.jpg

لم نكن بحاجةٍ للبحث كثيرًا عن ميلادِ البداية، فقلمُ يُسرى الشّاهد على الكثير من القصص، وصوتها الذي ارتبط بالتقارير الإخبارية والقصصية، هكذا عرفْنا يُسرى في المرة الأولى بعد أن تخرجتْ من قسم الصَّحافة والإعلام من الجامعة الإسلامية بالمرتبة الثانية على الدُّفعة، والتحقتْ بقناة القدس الفضائية، متطوعة، وبعد عامٍ من إثباتِ جدارتِها عملتْ بشكلٍ رسمي في هذه القناة إلى أن جاءت حرب 2014، فكان الميدان هو بيتُ يُسرى، لم تثنِها الصعوبات عن تأدية أمانة عملها الصحافي، فرغم استشهاد أخيها إسماعيل واصلتْ عملَها الإخباري، كانت تؤمن يُسرى أن هذا العمل هو السِّلاح الذي تُحاربُ فيه، وهو الثأر الذي تُقدِّمه لأجلِ دماء أخيها الشِّهيد.

لم يتغيرْ مسار يُسرى العملي إلَّا بعد أن كبُرتْ العائلة، فبعد أن منَّ اللهُ عليها بابنها البكر جمال، قررتْ يُسرى أن تُسخَّرَ وقتَها لأجلهم، فتربيةُ الأطفال أمانةٌ لا تقلُّ عن أمانةِ العمل الصحافي، وتغييرُ الطّريق الذي بدأته يُسرى، ما هو إلَا جهادٌ آخر، سلاحه التَّربية الصَّالحة وميثاقُه الأسرة المُطمئنَّة القوية.

01.jpg
 
تُحدِّثني يُسرى في هذا قائلةً: "كان قرار الابتعادِ عن العمل قرارًا مؤقتًا، فبعد استشهاد أسامة كان أمامي فرصة للعودة إلى العمل، لكنِّي فضَّلتُ وجودي مع أطفالي، خاصةً في الأشهر الأولى، وبعد أنْ أدركتُ أنْ عضُدَ أولادي قد شُدَّ في هذا الطريق، قررتُ العودةَ من جديد، لكن هذه المرة كان نموذج العمل مختلفًا بعض الشيء. رفضتُ العمل المكتبي المحكوم بساعة الذهاب والانصراف، فعملتُ عن بُعد مع منصَّاتٍ مختلفة، ما بين التقارير المُصوَّرة وما بين النصوص المكتوبة."
تكمل: "وفي الآونةِ الأخيرة كان كرمُ الله أن أحمل شيئًا من حِمْلِ أسامة، فكنتُ مشرفةً على عدد من الحملات الخيرية التي تدقُّ أبوابَ المُتعفِّفين، لِتُساعدهم وتمدُّ لهم يدَ العونِ في ظلِّ الظروف الاقتصادية التي يعيشها قطاع غزة". لاقتْ هذه الحملات صدىً واسعًا، والحقيقة أنَّ يُسرى استطاعت أن تُسطَّرَ عناوين العطاء والكرم من أبناء هذه المدينةِ الصَّامدة.

اقرأ أيضًا: آية أبو طاقية: حبيبةٌ شُغِفَتْ بروح شهيد


ليس هذا فحسب، بل إنَّ حياةَ يُسرى الجديدة بلقبٍ كبير كـ"زوجة الشَّهيد"، جعل العيون تتجه ببوصلتها نحو هذه الزوجة، أخت الشهيد وحبيبة الشهيد و"كنَّة" الشهيد، فبعد أن عاشتْ يسرى هذا الشُّعور، وعرِفتْ معناها تفصيًلا، أصبحت تتحدَّث باسم زوجات الشهداء في المحافل الدولية. تخرجُ يسرى بصلابةِ المرأة الفلسطينية أمام جموعٍ تنوَّعتْ لُغاتُهم ما بينَ عُرْبٍ وعَجَم. توصلُ لهم السَّلام من البُقعةِ الغزِّية، تلوِّح لهم، لِتُخبرَهم بكرامة هذا اللقب.

2-30.jpg

 يقفُ بعضهم تصفيقًا للسيدة التي يرونَها أمامهم، بعضهم يبكي، والبعض الآخر يصدحُ بالتَّكبير، كيف ذلك يا يسرى؟ يا حبيبةَ الشَّهيد وميراثه الأعظم في الدُّنيا! تبتسمُ لهم يسرى وهي تسردُ حكاية الحبِّ بينها وبين راحلِها، تختمُ كلمتَها بوصيةِ الشَّهيد، ليس شهيدُها فحسب، بل وصية كلِّ الشهداء الراحلين "إنَّ هذه الأرض لا تعودُ إلَا بالسِّلاح، فالدِّماء هي نورُ الطريقِ نحو الحرية، لا وقتَ للحزنِ أو الضعف، فالأمانة بين أيدي زوجات الشهداء عظيمة وغالية، فلتقُمْ كل نسوة هذه المدينة، يُزغردن على هذا الاصطفاء، يسجدن لله شكرًا حدَّ الامتنان، وليُعلِّمنَ أطفالهنَّ هذا الدَّرس".

| اللحظات الأخيرة مع أسامة الزبدة

1-14.jpg
الشهيد أسامة الزبدة مع أطفاله

وأمَّا عن اللحظات الأخيرة مع أسامة، فقد كان إحساسُ الامتنان يطبطبُ على كتفِ يُسرى، فعندما أخلي المنزل في حرب 2021، طلب أسامة من يُسرى أن تأخذ الأطفال وتسبقه، وما إن همَّت بالخروج، حتَّى ناداها أسامة دون أن ينطق ببنت شفة، لكنَّ عيونَه كانت تعترف بكل الأسرار، فهمتْها يُسرى جيدًا، حتَّى عادت خطوةً للوراء، لتَقول: لكَ العافية يا أبا جمال، والآن دعني أحملُ عنْك ثقلَ الأمانة.

جاء الخبر، استشهد أسامة، وكما اعتاد هذا الابن البار دائمًا أن يكون ظلَّ والده الجهبذ، فقد استشهدا معًا، ووُدِّعا معًا. لم يطرقْ هذا الخبر بابَ يُسرى، بل اقتحمها اقتحامًا قاسيًا. أجل يا يسرى، لقد رحل أسامة، من كان يخبُركِ ماذا تفعلين عند المواقفِ الصّعبة، رحل، فماذا ستفعلين الآن بسؤلِكِ؟!

3-7.jpg
 
إنَّها لحظةُ الصَّدمة الأولى، فبعد ساعةٍ من الآن سيأتي نعش الأسامة لتودِّعْه حبيبتَه عريسًا إلى مثواه الأخير، لقد بكت يُسرى كحقٍّ لها في حضرةِ الفقد، وحاولت أن تتمالكَ نفسها، فهذه هي اللحظة التي لا بُدَّ لها أن تقومَ صابرةً مُحتسبةً قوية ساجدةً، كما فعلتْ أمُّها عند استشهاد أخيها إسماعيل. كانت غرفةُ نومِ الأطفالِ هي المحرابُ الأول الذي اتَّجهتْ إليه يسرى، لِتربطَ على قلبِها بهذا الفقد، فكيف ستُخبِرُ أطفالها أنَّ بابا لم يعد موجودًا؟ كيف ستفهِّم جمال أنَّ بابا سيأتي بعد قليل محمولًا على الأكتاف؟
وماذا ستفعل مريم عندما تنادي عليه ولا يجيبُها؟ هل ستُصدِّق أن أسامة "الأب الحنون" لن يُلبِّي نداء شطر روحه مريمته؟ هل يعقل أن تكون الذكرى الأخيرة لبابا الأنيق الوسيم وهو ملطَّخٌ بالدماء، مُمدّدًا دون حولٍ ولا قوَّة؟ لقد كانت هذه التساؤلات ناقوسَ الرفضِ الأول ليسرى، فقررت أنَّ أطفالها لن يودِّعوا والدهم وهو شهيدٌ على نعشِه؛ لن تمسكَ يد أطفالهم هكذا -دون سابقِ إنذار- وتُدخلهم عالم الفقدِ والوحشة والشَّوق. مضتْ الأيام لحظةً بلحظة إلى أن عرِفَ الأطفال أن والدَهم ينتظرهم في الجنة، وأنَّه قد أنهى امتحانه وسلَّم ورقته، وذهب للنَّعيم ينتظرهم إلى أن ينتهوا أيضًا من امتحانهم.

| ختامُ العهد

IMG-20220919-WA0054.jpg
مريم ابنة الشهيد أسامة الزبدة

عامٌ وبضعٌ من أشهر مضتْ على آخر لقاء، عاشتْ يُسرى برفقة أسامة 11 عامًا دلالَ الأميرات، كبُرتْ في كنفه، وغفتْ على كتِفه، كانت فيه الأم والحبيبة والصديقة. ويا عجلةَ هذه الأيام، ويا دفء العمر وهو يزيد رفقةِ الحبيب. كلُّ شيءٍ بعد رحيل أسامة مضى، لقد جاء رمضان وصوتُ إمامتِه في أرجاءِ البيتِ لم يأتِ، لم يجلسْ أسامة هذا العام على صدرِ الطاولة، يقَبِّلُ يدَ يُسرى شكرًا على جهدها، ولم يدقْ هاتف يُسرى لِيُشاكسَها أسامة: "لقد سبقتُكِ في ختمةِ القرآن." لم يفعل أسامة ذلك، لكنَّ يُسرى فعلتْ، فكانت الختمة الأولى صدقةً عن روح العاشق الرَّاحل.

كانت تعرفُ يُسرى أنَّ جبرَ الله كبير، فرسالةٌ خبَّأها أسامة في ملاحظات هاتفه يعبِّرُ فيها عن فخره بيسرى، كانت كفيلةً أن ترفعَها إلى السَّماء عصفورةً حرةً طليقة، كلُّ رسائل الحبِّ والفخرِ التي خبَّأها أسامة كانت جناحين لروح يُسرى. لقد كان هذا ختامُ العهد بين سيَّدةٍ جهَّزت حبيبَها في ليالي الرباط على الثغور، تستودعه في أماناتِ الله شهيدًا حيًّا، وبين رجلٍ عرف أن لقاءاتِ الجنة هي مسكُ الختامِ مع حبيبته.