بنفسج

دينا اسعيد... مدرسة في الصبر والهمة

الخميس 11 يونيو

في يوم زفافها أوصتني أن أشتري لها باقة من الورد تجمع بين اللونين الأبيض والأحمر؛ وهي الرقيقة المحبة للزهور. فكان لها ما أرادت؛ باقة من القرنفل حمراء وبيضاء، كثيرة الزهور، يحيط بها سوارٌ من ورقٍ أخضر لامع، حملتها في يوم عرسها وأهدتها لحماتها. لازمت زوجها عاماً ونيف وارتبطت به أعوامًا،  قضيا معظمها وجدران السجن تفصل بينهما، فضربت مثالاً رائعاً في الحب والصبر والوفاء، حتى أنها تكنت بكنيته. ولئن حالت بينهما الجدران، فقد جمعهما القرآن والذكر واليقين بأن الغلبة لهذا الدين؛ إذا ما بذلت في طريقه الأرواح والأموال والأوقات.

 في هذا العام كانت تتفقد مواطن سعادته وراحته، وتلبي رغباته قبل الطلب، وهو حديث العهد بالحرية ولما يعتد على حياة الصخب، فأكرمهما الله ببنية ملأت حياتهما سروراً؛ انتظراها بفارغ الصبر، وحصّناها ليوم الدين بالعمل الصالح، ولا صلاح فوق الجهاد في سبيل الله. ثم أكرمهما الله معاً باصطفاء زوجها شهيداً بعد جهاد، ولا زالت فرحة الإفراج عنه، وزواجهما، وقدوم بنيتهما قائمة، فودعته بقلبٍ مطمئن ونفسٍ راضية.

قبل هذا كله، عرفتها إنسانة تبحث عن التوازن في البذل والعطاء، في حظ نفسها بين الدنيا والآخرة. حريصة كل الحرص على إدخال البهجة والسرور على قلوب من حولها، والقيام بواجبها تجاه من تعرف من زوجات الأسرى وأبنائهم وأهليهم ووصلهم وتفقدهم.

في الأعوام التسعة الماضية وبعد سفري لخارج فلسطين، التقيت بها في المرة الأولى وكانت وليدتها لم تتجاوز خمسة وثلاثين يوماً من عمرها؛ فحدثتني عن أهمية الحديث مع الطفل في هذه المرحلة العمرية، وضرورة استخدام الألوان وتغيير النمط العام المحيط به، إضافة لقراءة القرآن والدعاء وتعويده عليهما. ثم زرتها ثانية بعد خمسة أعوام فحدثتني عن الذكاء الوراثي الذي اكتسبته ابنتها من أبيها على الرغم من استشهاده، ولما تتجاوز أربعة أشهر من عمرها بعد، حتى أنها تتحدث بلكنته ولهجته وتستخدم بعض كلماته وتفكر بطريقته أحياناً، وحرصها على مشاعرها وتربيتها تربية تليق بمن يبغي الوصول لرضا الله ومعيته، والمرور بهذه الدنيا عاملاً منتجاً قادراً على تحمل مسؤولية نفسه مهما كانت ظروفه.

وقبل هذا كله، عرفتها إنسانة تبحث عن التوازن في البذل والعطاء، في حظ نفسها بين الدنيا والآخرة. حريصة كل الحرص على إدخال البهجة والسرور على قلوب من حولها، والقيام بواجبها تجاه من تعرف من زوجات الأسرى وأبنائهم وأهليهم ووصلهم وتفقدهم. وبالرغم من لقاءاتي القليلة بها خلال الأعوام التسعة الماضية، ومعرفتي التي تمتد ما يقارب ثلاثة عشر عاماً بها؛ ما عرفتها إلا حريصة على وقتها ووقت غيرها، مترفعة عن القيل والقال، تخشى أذيّة أخواتها ولو بكلمة.

لا يفتر لسانها عن الذكر والدعاء، يرافقها مصحفها في حلها وترحالها. كانت دائماً مثالاً للعطاء، وحسن المعشر، وطيب التعامل، وجزيل البذل، مدرسة في المثابرة والتربية والهمة. لعل الذاكرة لا تسعف، والحروف لا تتمّم المعاني، وتنتقص الحق. ليس مهماً من أنا، ولكن المهم أنني أتحدث عن أم حور دينا السعيد، التي بذلت عمرها رجاء أن يستعملها الله في سنة التغيير نحو الأفضل وأن تكون قد أدت واجبها تجاه المجتمع.

لقد بذلت حظها من التضحية ونالت قدرها من الابتلاء؛ الذي كان السجن أحد أدواته، ولكنه لم يضع حداً لهمتها؛ فإني أراها بعيني قلبي وهي في سجنها تقرأ أورادها بعد الفجر، وتطوف على رفيقات القيد تسلي عنهنّ وترفع معنوياتهم، تجعل من محنة السجن منحة لها ولغيرها، متأكدة أنها وأخواتها مثلما غيروا خارج السجن سيغيرون داخله. والخير الذي حملوه بين أضلعهم لن تمنعه قضبان السجن ولا ظلم السجان من أن يورق في عتمة الزنازين وقسوة الظروف.