بنفسج

الشيخ يوسف القرضاوي: إرث فقهي ينصف المرأة

الخميس 29 سبتمبر

لم يرحل الشيخ العلامة يوسف القرضاوي - رحمه الله- يوم الإثنين في السادس والعشرين من شهر أيلول عن عمر ناهز 96 عامًا إلا وقد خلف وراءه مدرسةً إسلاميةً إصلاحيةً ضمّت جميع الميادين، ومنهجًا وسطيًّا ميسّرًا جمع بين روح الشريعة ومتغيرات العصر، وبين الفكر النظريّ والتطبيق العمليّ، وأكثر من مئة كتابٍ في مجالاتٍ متنوعةٍ، شملت علوم القرءان والفقه والحديث والفكر والتزكية، والكثير من الخطب والدروس المنبرية، ونصرةً ثابتة لفلسطين والمقاومة، وآلاف الشباب الذين تشرّبوا فكره وتكوّنوا في مدرسته، ونشروا رؤيته ومنهجه.

وهو على غرار كل ما سبق لم يغفل عن نصرة قضايا المرأة، والاهتمام بشؤونها ومسح الغبار عن الكثير من الأمور المتعلّقة بها، في وقتٍ تفشّى فيه الجهل بحقوقها، وكثر فيه اللغطُ حدّ التهميش شبه الكامل لدور المرأة والتقليل من شأنها؛ فأمر بضرورة تعليمها، وساند عملها ضمن الأطر الشرعية، وأيّد مشاركتها في الحياة السياسية والاجتماعية ثائرًا بذلك على الكثير من الأعراف والفتاوى الظالمة، ومؤسّسًا لمنهج مجدّدٍ يحفظ المرأة، وما لها وما عليها من خلال مقاصد الشريعة وعلى ضوء الكتاب والسنة، دون إفراطٍ ولا تفريط، ومن غير تمييع لحضورها وشؤونها.|

| القرضاوي: المرأة ليست فتنةً للرجال 

6.jpg
الشيخ يوسف القرضاوي

 ولعلّ أبرز المفاهيم التي أُحدثت حولها جدالاتٌ عدّة عن مكانة المرأة في الإسلام والمجتمع هو لفظ الفتنة ومعناه الحقيقيّ ومدى ارتباطه بالمرأة، ومدى حقيقة أن تكون هذه الأخيرة مجرّد جسدٍ يحرك شهواتِ الرجال، ويجذب انتباههم. والواقع أن هذا المفهوم كان - وما يزال- منتشرًا في الأوساط الجمعية التقليدية التي يغيب فيها الوعي، مؤثرًا على نظرتهم للأمور وطريقة وزنهم لها بميزان الشرع، ومتحكمّا في كيفية تعاملهم مع مسائل المرأة.

في برنامج الشريعة والحياة الذي يبثّ بشكل دوريّ على قناة الجزيرة، شرح الدكتور القرضاوي في حلقة بعنوان "فتنة النساء في الإسلام" سنة 2008، باستفاضة وتفصيل، المعنى الحقيقيّ وراء مصطلح الفتنة، الذي يعني الابتلاء والاختبار، وعلاقته بالمرأة قائلًا: "المرأةُ في ذاتها ليست فتنة" نافيًا أن تكون المرأة المعتدلة الملتزمة بأخلاقها فتنة للرجل بطبيعتها، ومؤكدًا على أنّ الفتنة إنما تبدر من الأشياء المضافة الخارجة على الفطرة كالمبالغة في التجمل، والعري، والتميع في الحديث، وما إلى ذلك، محمّلًا الرجل بدوره مسؤولية انتشار مثل هذه المفاهيم المنبطحة "الرجل الذي لا يرى في المرأة إلا الجانب الجنسي اختصر الإنسان في شيء واحد. المرأة مخلوق كالرجل تمامًا، القرآن يقول: (بعضكم من بعض)، يعني الرجل من المرأة، والمرأة من الرجل… فاختزال المرأة إلى الجانب الجنسيّ إساءة إلى المرأة والرجل، لأن معناه أن الرجل لم يفهم ما خلق الله. المرأة مثله تمامًا مستخلفة في الأرض".


اقرأ أيضًا: المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام: قراءة في كتاب


كما وضّح الشيخ رحمه الله مسألة علاقة الفتنة بالاختلاط؛ فنفى ورود مصطلح "الاختلاط" في التراث الفقهيّ الإسلامي، واصفًا إياه بالدخيل، وأحال ظهوره إلى العصور الأخيرة من الإسلام المعروفة بعصور الانحطاط، لأنّ الاختلاط يعني الامتزاج، وأشار إلى وجود مئات الوقائع عن مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية ولقائها بالرجال، "في عصر الصحابة، مكانش في أن المرأة تنحبس في بيتها، فحبس المرأة في البيت القرآن جعله عقوبة للمرأة التي تأتي بالفاحشة، قبل أن تشرع الحدود". فالمرأة كما قال القرضاويّ تلتقي بالرجل ضمن الحدود الشرعية، وفقًا لما تقتضيه ظروف الحياة، ولا تختلط به، وأن تقييد حرية المرأة وحبسها في البيت بحجة الفتنة ليس من الإسلام في شيء، ولم يكن له وجود في عصر الصحابة، بل انتشر مفهومه الضيق في عصور الضعف.

| مركز المرأة في الحياة الإسلامية

تحدث القرضاوي عن المساواة بين الرجل والمرأة في التكليف والعبادة والتديّن، والمسؤولية والعقاب والثواب، والمسائل الاجتماعية الأساسية، والمسائل التي تخصّ الفرد المسلم بشكلٍ عام. مستشهدًا بذلك بآياتٍ قرآنية كثيرة، وأحاديث نبوية. يقول تعالى في سورة التوبة: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)". 
 
 كما يردّ على الكثير من الشبهاتِ المثارة حول الميراث ومسألة شهادة المرأة مقابل شهادة الرجل، "ومثل ذلك ما ذهب إليه كثير من الفقهاء الذين لم يعتبروا شهادة النساء في الحدود والقصاص، بعدًا بالمرأة عن مجالات الاحتكاك، ومواطن الجرائم، والعدوان على النفس والأموال" (ص 9). 

لم تخلُ مؤلفات الشيخ القرضاوي رحمه الله، ومقابلاته ودروسه من الاهتمام بشؤون المرأة والإعلاء من قدرها، والحرص على إنصافها متى جاءت فرصة ذلك، ومن بين المؤلفات التي ناقشت مسائل المرأة في ميادين متنوعة رسالة "مركز المرأة في الحياة الإسلامية" الذي جاء ردًّا على مؤتمر حقوق المرأة المنعقد سنة في بكين 1995، وفق منهجيةٍ وسطية تبتعد عن تفريط المتميعين، وإفراط المُغالين.  ومن بين أبرز النقاط التي وردت في الرسالة، بهدف تصحيح النظرة العامة للمرأة بمنهج شرعي معتدل.


اقرأ أيضًا: خارج السرب: الترابي حين أنصف المرأة


|  المساواة بين الرجل والمرأة: في التكليف والعبادة والتديّن، والمسؤولية والعقاب والثواب، والمسائل الاجتماعية الأساسية، والمسائل التي تخصّ الفرد المسلم بشكلٍ عام، مستشهدًا بذلك بآياتٍ قرآنية كثيرة، وأحاديث نبوية. يقول تعالى في سورة التوبة: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)". وما بينهما من اختلاف في المسؤولية إنما يرجع إلى الحقيقة المتعلقة بفطرة كل واحد منهما، وخصوصيته الجنسية والخَلْقية.

44.jpg

"للمرأة حق طلب العلم كالرجل، بل الواقع أنه اعتبر طلب العلم فريضةً عليها…ومن حقّها أن تجير من استجار بها، وأن تحترم إجارتها" (ص 7). كما يردّ على الكثير من الشبهاتِ المثارة حول الميراث ومسألة شهادة المرأة مقابل شهادة الرجل، "ومثل ذلك ما ذهب إليه كثير من الفقهاء الذين لم يعتبروا بشهادة النساء في الحدود والقصاص، بعدًا بالمرأة عن مجالات الاحتكاك، ومواطن الجرائم، والعدوان على النفس والأموال" (ص 9). ويشرح سياقاتها وظروف نزولها ويورد آراء المخالفين من المتقدمين. كما يذكر حالات جواز شهادة المرأة وحدها في المسائل المتعلقة بالجنايات التي تقع في أوساط غير رجالية، كالأعراس والحمامات وغيرها.

________-____________.jpg
المنهج الفقهي الذي اعتمده القرضاوي في تناول قضايا المرأة المسلمة في العصر الحالي

| حرية المرأة المسلمة: فالمرأة المسلمة كما يرى القرضاويّ كانت تتمتع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بحريةٍ كبيرة جعلتها تشارك في الغزواتِ، وتحضر مجالس العلم عند النبيّ مع الرجال، وتقيم صلاة الجماعة، وتعلم غيرها من النسوة، وتذهب إلى السوق، وتتمتع بالكثير من الميزاتِ التي نراها في عصرنا الحاليّ بصفةٍ شرعية وفي وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، على عكس ما يحدث في الأوساط الجاهلة من حرمان المرأة حتى من زيارة بيت أهلها "ولم يشبع ذلك نهمهنّ لمزاحمة الرجال واستئثارهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبن أن يجعل لهنّ يومًا يكون لهنّ خاصة". (ص 28).

| المرأة الأم: يذكّر الشيخُ القرّاء بجميع الحقوق التي تتمتع بها المرأة الأم على زوجها وأولادها، ويضرب في حقها مثالًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي طلق امرأته الأنصارية، وأراد أن يأخذ ولده عاصم منها، حينما رآه معها في طريقٍ بين السوق والمدينة، فقضى لها أبو بكر به.

66.jpg

| المرأة البنت: يؤكد الشيخ رحمه الله في هذا الجزء على وجوب استئذان الأب لابنته قبل تزويجها، ثيبًا كانت أو بكرًا، ويذكر الأدلة التي جاءت حول استشارة أمّها كذلك، واستئذانها، لأنّها الأعلمُ بمشاعر ابنتها وأسرارها، وهذا ممّا لا يفقهه الكثيرون في أوساطٍ أبوية لا تستطيع المرأة فيها أن تقول شيئًا، ولا أن تبدي رأيها "ونريدُ هنا أنّ الأم قد تعلم من أسرار ابنتها أنّ قلبها مع شخصٍ آخر، فإذا تقدّم لها هذا الشخصُ وكان كفؤًا، فهو أولى بالتقديم والترجيح، كما جاء في الحديث (لم يرَ للمتحابين مثل الزواج)". (ص 53)

2.jpg

| استقلال الزوجة: فالإسلام، كما يقول القرضاوي، لم يلغِ شخصية المرأة ولم يذبها في شخصية زوجها واسمه كما في الغرب، بل حافظ على كينونتها واستقلالها ونسبها، فالمرأة في الإسلام تُعرف باسمها واسم عائلتها، ولا تُعرف باسم زوجها. وبفضل ذلك، وصلنا من أسماء الصحابيات ما وصل، فهذه خديجة، وتلك زينبٌ، وهذه أم سليم، وإن كان لها من مالٍ تجنيه من عملها، أو إرثها فهو لها وحدها ولا يحقّ لزوجها أن يأخذه منها، بل الواجب عليه النفقة والمعاشرةُ بالمعروف، وهذه مفاهيم أساسية في الدين، لكنّها مغيبةٌ بين تقاليد بالية وفهمٍ أعوج، وهو ما جاهد الشيخ رحمه الله طيلة حياته لمقاومته، وتصحيحه.

| القرضاوي ومشاركة المرأة في الحياة السياسية

كان الرأي الدارج في المجتمعات العربية عدم جواز تولي المرأة للافتاء، فجاء القرضاويّ رحمه الله ليجيز حقها في ذلك إذا كانت عالمةً ملمة بالأحكام الفقهية، وضرب أمثلة عديدة على نساءٍ متقدماتٍ تولين الافتاء أبرزهنّ السيدة عائشة رضي الله عنها. كانت الأمة في تشدّد كبير، وفهمٍ غير مستبصرٍ لحقوق النساء.
 
 وكان أصحاب العقول الضيقة والأعراف البالية يحصرون دور المرأة في الخدمةِ المنزلية والامتاع، بل ويمنعون حقها في التعليم والميراث، حتى بزغ نجم الشيخ - رحمه الله- وسط ظروفٍ منغلقة، فسعى جاهدًا لتغيير هذه النظرة، وترسيخ معاني الإسلام الوسطيّ المعتدل. 

اعتبر الشيخ القرضاوي - رحمه الله -، في حوار مع مجلة الغد، مشاركة المرأة في الحياة السياسية، وتوليها لرئاسة الدولة، وحقّ التصويت، وعضوية البرلمان حقا مشروعًا ينطلق من خلفية كونها شخصًا كامل الأهلية في الإسلام، فالقول بغلبة الجانب العاطفيّ للمرأة لا يعني فقدانها لآليات التفكير، والعقل والمنطق، وإذا كان لا بدّ من اختيار رجل أو امرأة في وظيفة ما، فالأولوية يجب أن تكون على حسب الكفاءة والخبرة لا غير.

كما أجاز -رحمه الله- تولي المرأة القضاء، لكن بشكل متدرّج، فلا تباشر ذلك مع قسم الجنايات لأول مرة مثلًا، بل تبدأ بالأقسام الأقل وطأة وضررًا كالأحوال الشخصية وشؤون الأسرة في المحاكم الابتدائية، وهو يميل في ذلك إلى رأي الطبراني وابن حزم، ويشترط أن يكون المجتمع واعيًا ومؤهلًا لذلك. كما يقدم مصلحة الأمة على مصلحة الفرد في حال منع الرجل لزوجته أو ابنته من الاقتراع شرط ألا يقود ذلك إلى تضرر المرأة أو انشقاق في الأسرة.

33-1.jpg

وكان الرأي الدارج في المجتمعات العربية عدم جواز تولي المرأة للافتاء، فجاء القرضاويّ رحمه الله ليجيز حقها في ذلك إذا كانت عالمةً ملمة بالأحكام الفقهية، وضرب أمثلة عديدة على نساءٍ متقدماتٍ تولين الافتاء أبرزهنّ السيدة عائشة رضي الله عنها. كانت الأمة في تشدّد كبير، وفهمٍ غير مستبصرٍ لحقوق النساء، وكان أصحاب العقول الضيقة والأعراف البالية يحصرون دور المرأة في الخدمةِ المنزلية والامتاع، بل ويمنعون حقها في التعليم والميراث، حتى بزغ نجم الشيخ - رحمه الله- وسط ظروفٍ منغلقة، فسعى جاهدًا لتغيير هذه النظرة، وترسيخ معاني الإسلام الوسطيّ المعتدل. روي عن أحد السلف أنه قال: "إذا مات عالمٌ، ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها إلا خلف منه"، رحم الله شيخنا القرضاوي، وأحسن مثواه، وجزاه عن الأمة خير الجزاء.