بنفسج

قصة قصيرة: ولكن قلبي التفت

الأربعاء 12 أكتوبر

لطالما شعرُت بأنني أختلف قليلًا، ولكن ليس إلى هذا الحد، كانت قامتي أقصر بكثير من قامات زميلاتي في المدرسة، وربما رقبتي غريبة الشكل أيضًا. لم أكن جميلة بالقدر الكافي إلى جانب اختلاف كبير في أُذناي وأظافري وجُفوني، وأكثر ما كان يؤذيني أصابعي القصيرة. لكن الطبيب أجاب عن تساؤلاتي بكلمتين عندما قال لأمي "متلازمة تيرنر". لكن ما هي متلازمة تيرنر يا أمي؟ كانت الكلمات توحي لي بكرتون "تلتبيز" هل أنا من عائله تلتبيز؟ أقد أظهر على التلفاز أخيرًا وأحقق حلمي وأصبح مشهورة وتشاهدني ماري وسارة اللتان تسخران باستمرار على شكلي وتقولان لي بأنني قبيحة!

  أمي ماذا قال لك الطبيب؟ هل التلتبيز سوف ... - اصمتي. لماذا أنت غاضبة؟! – - اصمتي زهرة. طوال الطريق لم تنبس أمي ببنت شفة. كانت غاضبة جدًا ومتغيرة اللون، وربما كانت تتعمد عدم النظر لي حتى، ترى ماذا قال لها الطبيب؟ أهي تعارض انضمامي التمثيل مع تلتبيز؟

لن تكوني أمًا يومًا …يا زهرة. اختفت الحروف المخنوقة من صوت أمي بعد أن رأت النور، بعد أن وجدت طريقها إليّ، إلى ذاتي المنكسرة.. بكيت، وبكت أمي …كانت قاسيةٌ كلماتُها، لكن ربما القسوة فرضت ذاتها، ربما أرادت أن تقذف الحقائق أمامي بإكراه منها، فخرجتْ الكلمات ثقيلةً على الأذن وعلى اللسان. كأنها أخبرتني حينها بأنني لست زهرة، لم أكن ولن أكون يومًا.

في المساء سمعت شجارًا يدور بين والدايّ، لم أفهم شيئًا، ولكن كنت أسمع اسمي يتكرر على لسان والدي بغضب. سحبتُ نفسي إلى الفراش حزينة لمعارضة والداي التمثيل مع تلتبيز، ربما هذه خيبة كبيرة في حياتي. شعرت بأنها مأساة، ولم أدر بأنها الطريق إلى خيباتِ أكبر وأكثر إيلامًا. جاءتني أمي قبل انعقاد النوم في عيني ودموعها تلمع بانعكاس ضوء القمر الذي يسكن فوق شباك غرفتي، حينها بدأت الكلمات المخنوقة تخرج الحرف، فالذي يليه من جوف أمي. كانت تلك المرة الأولى التي أسمع بها أمي تتحدث بصوتٍ أثقلهُ كُلُّ هذا الحزن. قالت لي أمي حينها بأنني لست أنثى كاملة، ولن أكون يومًا، أخبرتني أنني افتقد كرموسومًا يدعىX الأمر الذي نجم عنه إصابتي بمتلازمة جينية يقولون لها تيرنر.

مهلًا، أليس لذلك علاقة بتلتبيز أبدًا؟ أجابت أمي بأنه له علاقة فقط بقصر قامتي والاختلافات الشكلية في أذني وأطرافي ورقبتي وقصر أصابعي، وأردفت لن تكوني أمًا يومًا …يا زهرة. اختفت الحروف المخنوقة من صوت أمي بعد أن رأت النور، بعد أن وجدت طريقها إليّ، إلى ذاتي المنكسرة.. بكيت، وبكت أمي …كانت قاسيةٌ كلماتُها، لكن ربما القسوة فرضت ذاتها، ربما أرادت أن تقذف الحقائق أمامي بإكراه منها، فخرجتْ الكلمات ثقيلةً على الأذن وعلى اللسان. كأنها أخبرتني حينها بأنني لست زهرة، لم أكن ولن أكون يومًا... لم يكن التعايش بمتلازمة تلتبيز-أقصد تيرنر- بالشيء الهين. كان مؤذيًا في المدرسة والشارع والبيت أيضًا.


اقرأ أيضًا: "حب نفسك تتحب": كيف ألهمتنا نسمة يحيى؟


كنت نموذجًا مثاليًا لما يسمى بمتلازمة تيرنر في درس الاضطرابات الجينية، كم كنت أمقت نظرة الشفقة تلك. ربما أصابت أمي حين قالت بأنني لست أنثى كاملة، ينقصني كرموسوم x ، ولكنني حملت قلب أنثى دومًا، مع كل كلمة جارحة من سارة وماري كان قلب الأنثى موجودًا. في كل شجار أسري يتكرر فيه اسمي كان قلب الأنثى موجودًا، في حصة العلوم والاضطرابات الجينية كان قلب الأنثى موجودًا، منذ أن أخبرني الطبيب عن متلازمة تيرنر كان قلب الأنثى موجودًا. منذ سنين عديدة كان قلب الأنثى موجودًا ثابتًا في مكانه يحترق وبشدة.

هذا لأنهم لم يعلمونا في حصة العلوم، ولم يكتبوا في الكتب الطبية، ولم يتثقف الناس هنا على أن بنات تلتبيز-أقصد تيرنر مجددًا- يحملن قلوبًا تضجُ بكل معاني الأنوثة، ولهن مشاعر… مشاعر صادقة. فليس من يحدد إنسانيتنا بعض الاختلافات، فالاختلاف جزء من الحياة، والحياة الحقيقية عندما نتعلم أنْ نتجرّع كأس الاختلاف ونتقبله في كل نواحي حياتنا، وإن كان ما يحدد جنس الأنثى حقًا كروموسومان من X، ففقدان واحد منهما لا يعني فقدان روح الأنثى التي تسكن الجسد قصير القامة بأعراض شكلية وعقم الإنجاب.

 فقادتني سذاجتي يومًا إلى إرسال ورقة إلى مكتبه مضمونها "هل تتزوج من متلازمة تيرنر؟". أرسلتها بدون اسم وغفلت عن كوني الوحيدة المصابة بمتلازمة تيرنر في المركز، في اليوم التالي وجدت رسالة على مكتبي كتب فيها بلون وردي "زهرة .. أتمنى أن أتزوج بفتاه طويلة وجميلة وأنجب أطفالًا". كان رده بغاية التهذيب.

توالت الخيبات طوال سنوات عديدة، ولعل أشد خيبة كانت خلال عملي في مركز لتعزيز مواهب ذوي الاحتياجات الخاصة، كنت معجبة بمدير المركز. كان شابًا في غاية الإنسانية والنبالة، متعاطفًا مع زوار المركز، ويحتوي إبداعاتهم ويطور مهاراتهم ويرفعُ سقف طموحاتهم، حتى إنني أطرب بصدى كلماته عن مفهوم الإعاقة، فكما يقول دومًا "العقول لا الأجساد"، كلماته عن النفس البشرية ملهمة جدًا. فقادتني سذاجتي يومًا إلى إرسال ورقة إلى مكتبه مضمونها "هل تتزوج من متلازمة تيرنر؟". أرسلتها بدون اسم وغفلت عن كوني الوحيدة المصابة بمتلازمة تيرنر في المركز، في اليوم التالي وجدت رسالة على مكتبي كتب فيها بلون وردي "زهرة .. أتمنى أن أتزوج بفتاه طويلة وجميلة وأنجب أطفالًا". 

بالطبع، لكل إنسان أمنيات وهذا حقه الشخصي ورغبته التي لا يمكن الخوض بالحديث فيها. لكنني منذ ذلك اليوم همست لقلبي وأخبرته أن لا تلتفت، لا تلتف لمن جسد الحب بالمادة…لا تلتفت لكلمات الإنسانية إذا أُذيعت من منبرٍ خالٍ من الصدق… لا تلتفت لمن نظر لطول القامة كونها استحقاق للحياة… ولإنجاب الأطفال جواب مقنع للرفض. أخبرت قلبي أن لا يلتفت لطريقٍ تم تمهيده بالشفقة، بل فليختر التحليق في سماءٍ لا حدود لها. ومضى قلبي لا يلتفت، ومضى يصارع أخذ حقه من الحياة عنوةً، مضى قلبي الذي سُحبت منه هويته بحجة فقدان كروموسوم x يُعطي الحياة ما أخذتْ منه. فتألق في إدارة مراكز الأيتام، والتطوع في مراكز تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، وتعزيز دور ذوي الهمم والأمراض الوراثية.

وفي صباح يومٍ من أيام يناير الباردة، كانت الشمس تعلو شيئًا فشيئًا، كأنها تبحث عن كل من أرهقَه ليلُه، فتبعث فيه شيئًا من الأمل، شيئًا من الحياة. قررت ترك مكتبي وأتمشى قليلًا تحت أشعة الشمس الذهبية في حديقة إحدى المراكز التي بدأتُ أديرها مؤخرا، فلمحت شابة بشكل غريب كما يقولون، لكنه مألوف جدًا بالنسبة لي، إنها فتاة تلتبيز تتبادل الابتسامات الخجولة مع شاب متطوع في المركز ذاته، اقتربت أكثر من غير أن يلحظا وجودي، لأسمع صوت الفتاة الرقيق وهي تقول: ألا تريد أطفالًا؟ ألا تتمنى فتاة جميلة؟ أتتزوج مني؟ من متلازمة تيرنر؟ فاضطربت كأنما شرارة أعادت ذاكرة القلب إلى العمل… وصوت الشب يرن في أذني وهو يقول: من متلازمة تيرنر، من متلازمة الحب أتزوج. وهنا، رغم غصة العمر فإن قلبي التفت.