بنفسج

سماح محاميد: مرابطة مقدسية برتبة "العنيدة"

الأحد 20 نوفمبر

سماح محاميد
سماح محاميد

كالحمامة تراها هناك، تحطُّ رحالَها عند كلِّ عتبةٍ من عتبات المسجد، "أتريدين الماءَ يا خالة؟  من منكن لم يأخذ التمر؟". بعد دقيقةٍ بالتَّمام سيُرفع آذان المغرب، سيلتفّ الجميع إلى حلقاتٍ ليبدأ الإفطار. ستسمعُ صوتَ الملاعق و"قلب" الطناجر كسمفونيةٍ بديعة مع كلمة "الله الله"، وبعدها ننتقل إلى اللحظة المُتوقعة، لقد بدأ تنافُس أي مقلوبةٍ أشهى؟ ومن حلقةٍ إلى حلَقة يبدأ النَّقاش المُعتاد، مقلوبةٌ بالباذنجان أم بالزَّهرة؟! كلٌّ له رأي يحاولُ فرضه، وعلى الجهة المُقابلة تحاولُ "سماح محاميد" أن تكونَ حياديةً بعض الشيء، تتذوقُ من كلِّ صنفٍ وتحكم بذات الجملة: "هذه المقلوبة هي الأفضل". والحقيقةُ من هذا، أنَّ كلَّ ما يُصنع من طعامٍ في ساحة الأقصى له مذاقٌ مختلف، حتَّى شُربة الماء في حضرة القبَّةِ الذَّهبية تصبح عسلًا مُصفّى وربَّما أحلى.

هذه سماح محاميد (33 عامًا) من مدينة أم الفحم (من مدن الداخل الفلسطيني المُحتل)، المرابِطة المقدسية العنيدة، التي كلَّما أُبعِدتْ عن المسجد الأقصى، زادتْ ثباتًا وإصرارًا لتدخلَ أبوابه من جديد، تكبيرًا وتهليلًا. فيستشيط الجندي غضبًا واستفزازًا، لِيحاولَ طردها والتضييق عليها، وقد يصل الأمر في أحيانٍ كثيرة إلى ضربِها. لم تكن سماح تُبالي في كلِّ هذا، فسجدةٌ في ساحةِ المسجد، تُنسيها كلَّ ما رأتْه وعانته من اعتداءاتٍ وتنكيلات.

كلُّ إبعادٍ عاشته المُرابطة سماح كان له حكاية، تجعلها تُدرِك نعمة الاصطفاء في الرِّباط بساحات الأقصى. بدءًا من أولِ إبعاد في عام 2018 حين أُبعدت ما يقارِب 15 يومًا بتهمة "الوطنية العنيدة"، بالإضافة إلى تهمة الانتماء للحركة الإسلامية. ومن بعدِها توالتْ الإبعادات، إلى أن اعتقلت رفقة 7 مرابطات من القدس والداخل المُحتل، بتهمة عرقلة حركة الشرطة والاعتداء على المستوطنين، حتَّى أُفرج عنَّها في اليوم التَّالي مع قرار إبعادها عن المسجد الأقصى لمدة 3 أشهر. 

| مواقف من القدس لا تُنسى

سماح محاميد
سماح محاميد (33 عامًا) من مدينة أم الفحم (من مدن الداخل الفلسطيني المُحتل)، المرابِطة المقدسية العنيدة، التي كلَّما أُبعِدتْ عن المسجد الأقصى، زادتْ ثباتًا وإصرارًا لتدخلَ أبوابه من جديد، تكبيرًا وتهليلًا. فيستشيط الجندي غضبًا واستفزازًا، لِيحاولَ طردها والتضييق عليها، وقد يصل الأمر في أحيانٍ كثيرة إلى ضربِها.
 
لم تكن سماح تُبالي في كلِّ هذا، فسجدةٌ في ساحةِ المسجد، تُنسيها كلَّ ما رأتْه وعانته من اعتداءاتٍ وتنكيلات. كلُّ إبعادٍ عاشته المُرابطة سماح كان له حكاية، تجعلها تُدرِك نعمة الاصطفاء في الرِّباط بساحات الأقصى. 

لقد كان حبُّ الأقصى في قلب سماح عقيدةً ثابتة، ففي كلِّ محاولات الاقتحامات المتكررة لساحات الأقصى، تجد هذه المرابطة في خطِّ الدِّفاع الأول، تصدح بالتَّكبيرات، وتصرخُ في وجه المستوطنين: "هذا مسجدُنا لا هيكلكم"، إلى أن ينهالَ عليها الجنود بالضربِ المُبرح. ليس هذا فحسب، بل كان جنود الاحتلال يتعمَّدون مداهمة بيت سماح الكائن في مدينة أمِّ الفحم والعبث في ممتلكاتِها، وتهديدهم لها بالاعتقال والإبعاد من جديد. 

تستذكر سماح محاميد أبرز المواقف التي عاشتها في المسجد الأقصى، بدءًا من أحداث شهر رمضان للعام المُنصرم، عندما توعَّد المستوطنون باقتحام الأقصى، ففي ذلك اليوم اجتمعت المقدسية سماح رفقة عددٍ كبير من المرابطين والمرابطات داخل المسجد، منعًا لدخول المستوطنين. كانت تحاول أن تشحذ همَّة جميع المقدسيين، وأن تكونَ صوتَ القدس أمام العالم، فما كان منها إلى أنْ رفعت هاتفها للبث المباشر، ودعوة الجميع للوجود العاجل داخل الأقصى.

كانت سماح تدافع بكل ما أُتيت من قوة، ما بين تكبيرٍ وتهليل، والوقوف بجانب المرابطات المُصابات، لم توقِف سماح البثَّ المُباشر، وبفضلِ الله وصمود جميع المقدسيين، فشل هذا الاقتحام، وخرج المستوطنون يجرَّون أذيال الخزي. ومن بعدِ هذه الأحداث، أخذت الصَّامدة سماح العهد على نفسِها أن تصبحَ صفحتِها على موقع الفيسبوك صوتًا وصورةً لنصرة المسجد الأقصى.

2-27.jpg
المرابطة سماح محاميد

تتابعُ سماح حديثها وهي تصف أحداث الثامن من ذي الحجة لهذا العام، عندما تمَّ إخلاء المسجد من المرابطين، ليفسح جنود الاحتلال ساحات الأقصى لدخول المستوطنين، فكانت سماح رفقة العديد من المرابطات بين كرٍّ وفر، حتى تمكَّنت من دخول المسجد والرباط داخله من خلال أداء الصَّلاة، وأثناء سجودِها اعتُدي عليها، وركلتها بساطير الجنود. ورغم ذلك، بقيت سماح صامدةً، لكنَّ الحقيقة أنَّ قلبَها حينئذٍ بكى ما بين وجع الخذلان وصمتِ العالم ووجع الضرب النجس.

| خدمة المسجد الأقصى

1-26.jpg
المرابطة سماح محاميد مع  زميلاتها المرابطات المقدسيات

إنَّ رباط سماح في المسجد الأقصى لا يقتصر على أوقات الاقتحامات، بل إنَّها توجد بشكلٍ مستمر، وتقوم بالكثير من المهمات ما بين تنظيف المسجد، ومُساندة المرابطين والمرابطات من إمدادات الطعام والأدوات اللازمة، إضافة إلى تصوير الكثير من مقاطع الفيديو التعريفية للمسجد الأقصى، وأجواء العبادة فيه.

وعن فترةِ الإبعاد تقول سماح: "إن إبعادي عن الأقصى هو إبعادٌ من بيتي وموطني، والحقيقة أن هذا العقاب هو أقسى ما يمكن أن يعيشه أيُّ مرابط، ولا أنكر حزني وبكائي في كلِّ إبعاد، لذلك أذهب أنا ورفيقات الرباط إلى طريق المجاهدين، أو أقرب مكانٍ يمكن أن يطلَّ على الأقصى ونؤدي شعائرَنا هناك". لم يكنْ سهلًا على عاشقة كسماح، أن تعيشَ بعيدةً ولو مسافات الأمتار عن أبواب الأقصى، كانت تجوب كل طريقٍ يمكن أن تؤدي نهايتُه إلى ساحة المسجد. وتبقى قريبةً بالروح والجسد، لئلَّا تُحرمَ من سماع الآذان من مئذنة الأقصى.


اقرأ أيضًا: أٌمُّنا عايدة الصِّيداوي: جارة الأقصى حين أُبعدت عنه


ذكرياتُ الأقصى لا يمكن أن تُنسى، فكلُّ من وهَبَ نفسه للرِّباط في ساحاته يُدركُ أنَّ المرابطين والمرابطات هم عائلته، ويلاحظ تلك البركة التي تحل في وقت المرابط  وصحته. كلُّ ما في الأقصى كفيلٌ أن تسجدَ ركعتي شُكرٍ لله على ما وهبكَ من رباطٍ وقرب. وفي هذه الخاطرة تستذكِرُ سماح الشِّق الآخر من الوطن، الأهل والأحبة الذين حُرِموا من دخول المسجد الأقصى والصَّلاة فيه، وتقول في هذا: "إنَّ هذا الحرمان صعب، وأعرفُ هذا جيِّدًا، لكنَّ الرِّباط لا يقتصر على الحضور في ساحة الأقصى فحسب، بل بإمكان كل فلسطيني الرِّباط بكلمتِه ودعائه، أن يجعل أحداث المسجد الأقصى عنوان كلِّ حديث، أنْ ينشرَ الوعي أمام الجيل الجديد، حول أهمية المسجد ومكانته".

بين تكبيرةٍ وهتاف، وقرآنٍ ودعاء، تقفُ المرابطة سماح محاميد وهي ترتل: "لا تحزن إنَّ الله معنا"، تواسي بها أمَّهاتِنا المرابطات وهن يبكين حزنًا على حال الأقصى. تربط على قلوب آبائنا المرابطين وهم يتعرَّضون للضرب والشتائم من جنودٍ أثيوبيين وروس جاؤوا لهذه البلاد من كلِّ حدبٍ وصوب مشتَّتين غاصبين. تصرخُ في وجههم وهي تُذكِّرهم بأصلهم، فيرمون الرصاص المطاطي وقنابلَ الغاز المسيل للدموع، فتُقابلهم بالتكبير المستمر إلى أن يبحَّ صوتها. فالإيمان في داخل كلِّ مقدسي، أنَّ الصمودَ هو المفتاح الذي سيُفتَحُ به النَّصرُ المبين للمسجد الأقصى ليغدو حرًّا طليقًا بريئًا من دنس أي احتلال.