بنفسج

لم يكن هينًا: قالت زوجات الأسرى

الإثنين 17 أكتوبر

زوجات الأسرى الفلسطينيين
زوجات الأسرى الفلسطينيين

كانت لحظات وكأنها سرمدية لا تنقضي ولا تنتهي، متجددة، مستمرة، لها وقع على القلب كقصف الرعود يهزها هزًا، ويتركها في ذهول من شدة طول الانتظار، وبعد المراد. هكذا انقضت سنوات عمرنا في البعد التي تجاوزت العشرين عامًا. ياااااااه عشرون عامًا مرت يا أيها العمر الذي جُذبت آماله فما طرح إلا التمني بلقاء ولو كان سرابًا. كنت قد أنجبت بكري وأنتظر مولودنا الثاني، وقبل أن يتنفس عبير الحياة قادمًا جديدًا إلى بيتنا الذي نسجنا أركانه بالحب وسيجناه بعشق هذا الوطن وأرضه السمراء. نزع من بيننا قنديل البيت وعموده، سيد القلب وسلطانه، نزع الكتف الذي نتكئ عليه في الملمات، وهذا لسان حال زوجات الأسرى. 

 نُزع الجبل الأشم الذي نأوي إليه محتمين منه هول النائبات لنغدو وكأننا في العراء بلا سقف يقينا حر الشمس وزمهرير البرد، فنلقى مما يلقى عماد بيتنا وهو منفي في مدافن الأحياء، متنقلًا بين عزله الانفرادي وغرف سجن، يقتات على شباب من فيه، فينهش أعمارهم الغضة ويفترس أحلامهم، وحينما أقول أحلامهم فإني أقصد تلك البسيطة العفوية التي يعيشها كل بيت فلسطيني، مهما كانت عادية وتعتبر من الرتابة المملة في نظر الكثيرين ممن يعيشونها.

من شدة ما اعتادوها فقدوا رونقها وما عادت تمثل نعيمًا في مقياسهم، كما هي في مقياس من يعيشون في تلك السجون المقيتة، ومن يشاطرونهم المصاب وأجر الصبر من أسرهم، الثابتون على ثغور العمر ينتظرون الفرج من رب كريم، ما انقطع فيه الرجاء وما وهن القلب عن التوجه إليه بصدق الدعاء بأن يردهم من مدافنهم إليهم ردًا جميلًا، ليمسح بعودتهم ما اعتلا الروح من لوعة وأسى في سنين البعد التي ما كانت إلا جزاء برهم بهذا الوطن وضريبة حبهم الصادق لثراه. وواقع لا بد أن تعيشه من كانت لهن رباط أبدي والأسرى الفلسطينيون، زوجات الأسرى! 


اقرأ أيضًا: خارج أسوار السجن: ماذا عن زوجات الأسرى؟


لا يعلم أحد إلا من عاش هذا البعد كم صعب وشاق أن تحيا الواحدة منا أمًا وأبًا! أن تمضي بأبنائها في دروب الحياة لاهثة ليكونوا في مأمن، تمضي بأقصى ما فيها من جهد تسابق خطواتها وقع عقارب الساعة لتنجز ما عليها ما واجبات، أصبحت مضاعفة بغياب الأب، تذود عن بيتها وأهله شر الناس وتسلط القاسية قلوبهم، تجابه على جبهات متعددة، وتقف بصمود أمام محن الحياة وابتلاءاتها، وإن كانت متعبة، وإن كانت مبتورة القدمين من شدة الأحمال التي حُملتها، وإن كانت ضعيفة تهفو ليوم تتنفس به بعمق؛ أن قد فرجت بعد ما اشتدت وضاقت عليها الدنيا بما رحُبت.

 فبالرغم من كل هذا وذاك، رابطت وصبرت وتقدمت صفوف الحياة والإنجاز، شأنها شأن الكثيرات من زوجات الأسرى. تعلمت وعلمت وأنتجت، ما استسلمت لليأس ولا كسرتها سنين البعد. كانت شريكة العمر الوفية التي قاسمت الزوج المحنة والأجر والثبات والصبر. لاقت نصيبها من وجع هذا الابتلاء وما ثنيت عزيمتها وما تراجعت خطواتها. ربّت جيلًا زرعت فيه ثوابت راسخة ليكمل المسير ويمضي بذات الطريق الذي كان ثمنه أن تحييا بلا معينها، ورفيق دربها الغائب الحاضر رغم طول البعد. لم يكن هينًا عليها ولا عليهن جميعًا أن تنقضي الأيام والسنون، وزوجات الأسرى يتنقلن من حال لحال، والرضا يزين كل أحوالهن وإن قست.

ولا كان هينًا أن ترى الواحدة منهن كيف تتسرب الرجولة إلى ملامح ابنها الذي تركه والده طفلًا، وحُرِم أن يحظى بسعادة رفقته في مسيره وتربيته وتكوين ذاته التي غدى عليها بعد مرور السنين، التي كانت فيها هي المربية والأم، ينالها الخوف عليه وهي تصحح وتعدل سلوكه في مجتمع أصبحت مهمة التربية الصحيحة فيه تكاد تكون معجزة!

ولا كان هينًا أن ترى الواحدة منهن كيف تتسرب الرجولة إلى ملامح ابنها الذي تركه والده طفلًا، وحُرِم أن يحظى بسعادة رفقته في مسيره وتربيته وتكوين ذاته التي غدى عليها بعد مرور السنين، التي كانت فيها هي المربية والأم، ينالها الخوف عليه وهي تصحح وتعدل سلوكه في مجتمع أصبحت مهمة التربية الصحيحة فيه تكاد تكون معجزة! ولا كان هينًا أن تربي هذه الماجدات، زوجات الأسرى، سيدات الصبر وعنوان التضحية، الابنة الرقيقة، لتغدو نسخة جديدة تستعد لتأخذ دورها في رحلة حياة الفلسطيني التي ما هي إلا طريق نحو التحرير، يسلم فيها الآباء الراية للأبناء لتبقى شعلة قضيتنا متقدة حية نابضة، تفاصيل كثيرة هي ذاتها تفاصيل عيشنا التي لا نلاحظها حتى لكنها كانت أضعافًا مضاعفة في المعاني والمشقة لكل زوجة أو أم أسير وأحداث عظيمة.

كانت اختباراتهن التي اجتزنها بمزيد من الجهد والصبر والثبات بسبب غياب الزوج، كل هذا كان هو العمر لهن الذي مر ويمر، والذي لم يكن هينًا يومًا ما وإن بدا لنا من صبرهن وجميل رضاهن بأنه هين، ولكنه كان مرًا في ثنايا القلب تلدغ مرارته حنايا الروح، وتفيض مرارته لتغرق العين بدمعة مشتاقة وأخرى متعبة وأخرى منهكة.  لم يكن كل ذلك هينًا كما نتوهم نحن المتنعمون بعيدًا عن مدافن الأحياء وزيارة الأحبة فيها، ومقاساة الشوق لهم واحتمال عناء الحياة ببعدهم، وحتى أفراحها التي لا تكتمل وتبقى مغصوصة بفراقهم وغيابهم عنها الخطوات الأولى لأطفالهم الكلمة الأولى لهم اليوم الدراسي الأول العيد تلو العيد التخرج من الثانوية، ومن ثم الجامعة فرحة زواجهم واكتمالهم ليبدأوا مشوار عمر جديد.


اقرأ أيضًا: في غياب الأب الأسير: كيف تغدو الأمومة؟


كل تلك اللحظات التي يستحيل الإحاطة بها ما كانت هينة ولكنها مرت وتمر بلطف الله بهم، ويقينهم بأن الأعمار التي بذلت خلف قضبان السجون للأسرى، وما كان على ثغورها من انتظار، وصبر لزوجات الأسرى وأمهاتهم وتضحية، واستكمال لمسيرة الحياة بالرغم من قلة النصير والمعين، كل ذلك لن يذهب سدى ولن ينساه الله حاشاه سيكون مر طعمه حين المسير، ليغدو كالشهد حينما يحصدون أجر صبرهم ويوفون أجرهم بغير حساب، جزاء ما رابطوا على ثغور الصبر الذي كان صبرًا على عمر ما كان هين ولكنه مر وسيمر.