بنفسج

غرس يشبه صاحبه: لا يسقط قبل أن يكون ندًا

الأحد 16 أكتوبر

شجرة الزيتون لا تبكي ولا تضحك، هي سيدة السفوح المحتشمة بظلها تغطي ساقها ولا تخلع أوراقها أمام عاصفة. تقف كأنها جالسة، وتجلس كأنها واقفة. تحيا أختًا لأبدية أليفة وجارة لزمن يعيها على تخزين الزيت النوراني وعلى نسيان أسماء الغزاة، ما خلا الرومان الذين عاصروها واستعاروا بعض أغصانها لضفر الأكاليل. لم يعاملوها كأسيرة حرب، بل كجدة محترمة ينكسر السيف أمام وقارها النبيل. محمود درويش

لشهر أكتوبر من كل عام أهميته في فلسطين، وتكاد هذه الأهمية تغلب على كل الأعمال الأخرى في هذا الشهر، وذلك لأن أوله يكون تحضيرًا لموسم الزيتون؛ إذ يُنفض الغبار عن الأغطية، وأدوات الجدادة، وغيرها من المعدات التي تحتاج تحضيرات مسبقة. وعادة يفتتح أهل الشمال الفلسطيني في الموسم باكرًا، بينما يتأخر أهل الوسط والجنوب بسبب اختلاف درجات الحرارة، وعادة، ينتظر الفلاحون المطرة الأولى التي تغسل حبات الزيتون وشجره، وينمو الحَب فيها ويصبح ناضجًا كما يقول الأجداد والجدات.

| شجرة الزيتون الفلسطينية "جندية الأرض"

الزتزن.jpg
مواطن فلسطيني في أراضي "قصرة" التي اقتلع  المستوطنون أشجار الزيتون منها في نابلس "شبكة قدس الإخبارية"

ومن المهم كذلك للفلاحين تكثيف العمل في الأرض وتنظيف أسراب الزيتون من الأشواك والحشائش الجافة، وتقليم الأشجار بحسب الحاجة. وكلنا يعلم أن الاحتلال وجيشه وقطعان المستوطنين يعلمون أنهم يصيبون الفلسطيني في مكان ألمه عندما يعتدون على بساتين الزيتون ويقطعون الأشجار فيه، أو يهاجمون المزارع ويقطعون المياه عنها، إلى حد يخيف الفلاح من الوصول إلى أرضه بسبب إطلاق النار المفاجئ الذي قد يباغته في أي وقت.

وهكذا هي الزيتونة؛ جندية الحرب؛ ثباتها معلم، وصمودها لازم، ووجودها هوية. وإن أشجار الزيتون تقف اليوم إلى جانب أهالي نابلس، وحصار شعفاط، وهي موجودة في صور المقاومة، وموجهات الشبان في الهبة الأخيرة. وقطعان المستوطنين الذي يهاجمون حوارة اليوم، وجيش الاحتلال الذي يعلن مدن الشمال، مدنًا مغلقة. يمنع أهالي قصرة من الوصول إلى بساتينهم ومزارعهم وقطاف زيتونهم، يل ويهاجمونهم ويطلقون نيرانًا هائجة عليهم. وهم يدركون أن الزيتونة شريكة الميدان، وأن قتل الفلسطيني وقطع شجره سيّان، لا فرق بينهما.


اقرأ أيضًا: موسم الزيتون: كاسة شاي ولمة "عيلة"


ولطالما تغنى الشعراء والزجّالون، وكذلك قالت الأمثال الشعبية، توحّد تمثلات الفلسطيني حتى يهرم، ثابتًا واقفًا صلبًا كشجر الزيتون، هذا القائم منذ مرور جحافل الصليبيين؛ ولطالما أتذكر قول جدي يقول مشيرًا إلى زيتونة جذعها ضخم: هذه شجرة روميّة! ويعني أنها تعود على العصر الرماني، قديمة بقدم فلسطين ووجودها وحضارتها. 

منذ مساء أمس توردنا الفيديوهات والصور توثق لاجتياحات حوارة واقتحامات بيوتها، انتقامًا من المقاومين والشهداء وأهاليهم، وهم لا يكتفون بالاعتقالات والإطلاق العشوائي للنيران التي حصدت أروح أبنائنا في نابلس وجنين، بل يقتحمون أراضي قصرة والأراضي المحيطة، في الوقت الذي يسرق الفلاحون أنفسهم ويذهبون متسللين إلى أراضيهم، علهم يقطفون بعض الزيتونات فيها.


اقرأ أيضًا: حكايات تشرين: عن خير البلاد ومواسم الزيتون


ولكن، الاحتلال يخرب عامدًا هذا الموسم كما كل الحضرات والمواسم والمناسبات الأخرى، يحضر بكل أدواته التي تتعمد القتل والتنكيل والتخريب! فتظل الشجرة حاضرة في المشاهد كلها، شبان يواجهون عند النقاط، وآخرون يخرجون من تحت الأرض، ولا يجد المحتل طريقة للصدّ غير قطع الشجر، واقتحام البيوت وتخريبها، وشن اقتحامات عشوائية، وهم لا يدركون بأي طريقة يمكن أن يواجه الشجرة عندما تكون إنسانًا! فلا يقول لها أحد: كم أنت جميلة!لكنه يقول: كم أنت نبيلة وجليلة. وهي التي تدرّب الجنود على نزع البنادق، وتمرنهم على الحنين والتواضع: "عودوا إلى بيوتكم، وأضيئوا بزيتي القناديل". لكن هؤلاء الجنود، هؤلاء الجنود الجدد، يحاصرونها بالجرافات ويجتثونها من سلالة الأرض.. ينتصرون على جدتنا التي انقلبت. وصار فرعها في الأرض وجذورها في السماء.

لم تبك ولم تصرخ، إلا أن أحد أحفادها ممن شاهدوا عملية الإعدام، رمى جنديًا بحجر، واستشهد معها، وعندما مضى الجنود منتصرين، دفناه هناك: في الحفرة العميقة _مهد الجدة. ولسبب ما، كنا متأكدين من أنه سيصبح، بعد قليل، شجرة زيتون ... شجرة زيتون شائكة ...وخضراء! محمود دوريش