بنفسج

قانون الأحوال الشخصية: مفهومه.. موضوعاته.. وبماذا يعنينا؟

الإثنين 21 نوفمبر

قانون الأحوال الشخصية
قانون الأحوال الشخصية

كان القضاء في العصور الأولى من تاريخ الدولة الإسلامية يعتمد على أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية، بالإضافة إلى فتاوى الصحابة واجتهاداتهم واجتهاد القضاة. ولم يكن القاضي في ذلك الوقت مُلزَمًا باجتهاد غيره إلّا إذا انعقد الإجماع على حكم معين في عصرٍ من العصور، مما أدى إلى اختلاف الحكم في المسألة الواحدة تبعًا لاختلاف أفهام القضاة والمجتهدين في بلاد المسلمين. وبقي الأمر على هذا الحال حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حيث أّلّفت الحكومة العثمانية لجنة لتدوين الأحكام الشرعية وفقًا للمذهب الحنفي، الذي كان مذهب القضاء السائد في الدولة العثمانية. هنا سنتحدث عن قانون الأحوال الشخصية.

قانون الأحوال الشخصية: التعريف والنشأة

قانون الأحوال الشخصية
ما هي الأحكام الشرعية التي تخضع لقانون الأحوال الشخصية؟

أتمّت اللجنة عملها في سنة 1876م، ونُشر تحت اسم "مجلّة الأحكام العدليّة"، غير أن المجلّة لم تتعرّض لمسائل الأحوال الشخصية (أي: المبادئ والأحكام الشاملة للأسرة ومتعلقاتها). وقد طُبّقت أحكام المجلّة في سائر البلاد الواقعة تحت سلطة الدولة العثمانية. وأمّا بالنسبة للأحوال الشخصية، فقد كان كتاب محمد قدري باشا "الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية" من أوائل مبادرات تقنين أحكام الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية على مذهب أبي حنيفة، ووضعها في صورة مواد قانونية بما يتواءم مع طبيعة العصر وروحه.

وفي مقدمة كتابه "الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية"، بيّن محمد قدري باشا بأنه يشتمل على الأحكام المختصة بذات الإنسان من حين نشأته إلى حين منيته وتقسيم ميراثه إلى ورثته. وعلى ذلك، فإن موضوعات "الأحوال الشخصية" تتضمّن ما يأتي: 

| أولًا: أحكام الزواج، وما يترتب عليه من مهر ونفقة ومسكن ونسب وحضانة ومعاشرة بالمعروف. 

| ثانيًا: أحكام الطلاق، وما يترتب عليه من نفقة وعدّة وغير ذلك. 

| ثالثًا: أحكام الأهلية والحَجْر والوصاية.

| رابعًا: أحكام الميراث والوصية وغيرهما من التصرفات المضافة إلى ما بعد الموت.

| خامسًا: أحكام الوقف.

1-31.jpg
تعريف قانون الأحوال الشخصية حسب محمد قدري باشا

وكان محمد قدري باشا أول من عُرف عنه استعمال مصطلح "الأحوال الشخصية" من المعاصرين، فقد كان هذا المصطلح حديث الاستعمال في مجال الفقه الإسلامي، حيث ظهر في أوروبا ونُقل إلى التشريع الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. وأمّا الفقهاء قديمًا، فكانوا يطلقون على كل باب من أبواب الفقه اسمًا خاصًا، مثل: كتاب النكاح، وكتاب الطلاق، وكتاب النفقات. ولعلّ السبب في ذلك أن القاضي المسلم كان يقضي بجميع المنازعات بين رعايا البلاد جميعهم دون تفريق بين دعوى وأخرى، حتى خُصّص القضاء، واقتصر القضاء الشرعي على الفصل في الخصومات المتعلقة بالأحوال الشخصية بين المسلمين.


اقرأ أيضًا: سيداو في فلسطين: سيادة شريعة مَن على مَن؟


فبعد سقوط الدولة العثمانية، انتُزِع من القضاء الإسلامي الكثير من اختصاصاته ووظائفه، وأُبقي على جزء من صلاحياته فيما يُسمّى بالقضاء الشرعي -الذي يستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية- تمييزًا له عن القضاء النظامي. وهكذا بات القضاء الشرعي مختصّ بفضّ المنازعات وتنظيم "الأحوال الشخصية"، وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، في قضايا الزواج والطلاق والوصاية والإرث وغيرها من قضايا الأحوال الشخصية. 

 قانون الأحوال الشخصية: الأسرة تحت حماية الأحكام الشرعية

قانون الأحوال الشخصية
محمد قدري باشا هو أول من وضع تعريف لقانون الأحوال الشخصية

ولقانون الأحوال الشخصيّة أهميّة خاصّة من بين القوانين الأخرى، لكونه يتناول بشكل جوهري ملفًّا حسّاسًا ألا وهو ملف الأسرة والعلاقات فيما بينها. ولو تأمّلنا أحوال معيشتنا من ناحية اجتماعية، لوجدنا كل امرئ يشغل -على الصعيد الأسري- موضعًا أو عدّة مواضع، يؤدّي من خلالها أدوارًا حيويّة ومؤثرة في تفاعلاته مع أفراد أسرته. فهذا الرجل، تولّد لأبوين؛ فهو ابنٌ وفقًا لموضعه في أسرته، وقد يكون ابنًا وأخًا في الوقت ذاته، فإذا ما اتخذ قرارًا بالزواج فإنه يتبوأ مكانة اجتماعية مختلفة، ومن ثم قد يصير والدًا من بعد ذلك.

وكذا حال المرأة بالنسبة لموضعها في الأسرة، وتعدُّد واختلاف الأدوار التي تؤديها بحسب كل مكانة اجتماعية تتبوّأها. لذا، كان لزامًا على أفراد المجتمع رجالًا ونساءً أن يمتلكوا جانبًا من الوعي والمعرفة بالأسس والقواعد النّاظمة للعلاقات الأسرية، التي تشكل جزءًا مهمًا من حياتهم، تأكيدًا للمقولة السائدة: "الإنسان كائن اجتماعي بطبعه". ولفهم طبيعة ما تتناوله التشريعات القانونية التابعة لقانون الأحوال الشخصية، يمكن تقسيمها إلى صنفين: تشريعات قانونية تحدد الحقوق والواجبات، وتشريعات قانونية تحكم مواقف التأزم والنزاع في الأسرة.  وسنلقي الضوء على هذين الصنفين بشيء من التوضيح وضرب الأمثلة في السطور التالية.

| قوانين تحدد الحقوق والواجبات: المفروضة على كل فرد من أفراد الأسرة، وإن قسمًا معتبرًا من التشريعات القانونية في الأحوال الشخصية مبنية على أحكام شرعية (معلومة من الدين بالضرورة)، الجهل بها مضرّ في صحة العلاقة بين أفراد الأسرة. فحقّ كلا الزوجين بمعاشرة صاحبه بالمعروف وعدم إيذائه والتضييق عليه بالقول والفعل، وحقوق الزوجة بالمهر والنفقة الزوجية وتأمين المسكن بمواصفاته الشرعية، وحقّ الابن على أبيه بالنفقة، وحق الأب على ابنه في أن يبرّه ولا يعقّه، كلها تشريعات تخاطب كل مسلم دون استثناء، من الواجب عليه أن يفقهها ويعمل وفقها في محيطه الأسري.

| قوانين متعلقة بمواقف الـتأزم داخل الأسرة: وثمة نوع آخر من المعرفة القانونية، وهو ما يتناول الإمكانات القانونية المتاحة في مواقف التأزّم داخل نطاق الأسرة. والتثقّف بهذا النوع من المعرفة بشكل إجماليّ يُعتبر بمثابة رصيد يعين النفس ويوجهها -حين يتم توظيفه عند الحاجة- لما هو خير. فعلى سبيل المثال، وعي المرأة بحقّها في طلب التفريق بينها وبين زوجها بواسطة القضاء الشرعي، وذلك في حال النزاع والشقاق الذي لا يصلح معه استمرار الحياة الزوجية، قد يُنقذها وأبناءها من عواقب مريرة للعيش في ظل زواجٍ فاشلٍ أطارت سقفه الرياح.

ووعي المرأة بحقّها في المطالبة بالنفقة الزوجية، وبنفقة الأبناء في حال امتناع الزوج عن الإنفاق عليهم، أو تركه لهم بلا نفقة، قد يختصر عليها مسافات من التخبّط عند الوقوع في مشكلة كهذه، مما يمكّنها من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، سيّما أنّ المحكمة الشرعية تحكم بالنفقة للزوجة وللأبناء من تاريخ رفع الدعوى، دون أن تدخل في الحكم تلك المدة التي لم يتم اللجوء فيها بعد للمحكمة.

قانون الأحوال الشخصية

| قانونين متعلقة بتحديد الحقوق والواجبات:  هناك حقوق تستقل بذاتها، وهناك أخرى تكون معلّقة على واجب مفروض على صاحب الحق، بحيث لا يكون له المطالبة بحقه أمام القضاء إلا إن أدّى قبلًا الحق الذي عليه. فحقّ الزوجة بالنفقة، مشروط حسب القانون باحتباسها في بيت الزوجية، أو بمعنى آخر: عدم تركها بيت الزوجيّة بغير مبرر شرعي. ويعتبر الإخلال بهذا الواجب سببًا لاعتبار الزوجة ناشزا، وبالتالي لا يكون لها إلزام الزوج بالإنفاق عليها.

وثمّة مبررات مشروعة لترك بيت الزوجية، منها على سبيل المثال: عدم أمان الزوجة على نفسها في بيت الزوجية لعدم شرعيته، أو لاعتداء الزوج عليها بالإساءة الجسدية أو النفسية، أو طرده لها من بيت الزوجية، أو عدم إنفاقه عليها. ففي تلك الأحوال تعتبر الزوجة "محتبسة حكمًا"، وإن كانت غير محتبسة حقيقةً، وبذلك ينتفي عنها كونها ناشزًا حسب القانون.

5-8.jpg

ومن الأمثلة أيضًا على الحقوق المعلّقة على واجب مفروض على صاحب الحقّ، حق الولد بالنفقة على والده. فإذا كان للولد المفتقر للمال حق على والده في أن ينفق عليه، فإن للوالد في الوقت ذاته حقًا على ولده، ثابتًا بالكتاب والسنّة والإجماع، في أن يبرّه ولا يعقّه. وعلى ذلك تبنّت المحكمة الشرعية في القدس ومناطق الداخل المحتل عام 1948م –من خلال القرارات الصادرة عنها- مبدًا يقضي بتحميل الولد البالغ شرعًا المسؤولية القضائية عن عقوقه لأبيه، بخفض أو قطع نفقته وفقًا لظروف الحال. ووفقًا للقرار الاستئنافي 213/2019، فإن هذا الإجراء يجب أن يكون الحلّ الأخير في علاج عقوق الولد لأبيه، وبعد استنفاذ كافّة الوسائل والطرق لذلك، وفقط بعد ذلك يُسار إلى معاقبة العاقّ بخفض أو قطع نفقته. 


اقرأ أيضًا: ماذا قال الإسلام عن المرأة؟ [4] كتب مقترحة


وخلاصة الأمر أن امتلاك المعرفة والدراية بما يخصّ الحقوق والواجبات المفروضة، بحكم العلاقات الأسرية، أمرٌ لا بدّ منه في التأسيس لدعائم كيان مجتمعي سويّ وسليم. وأمّا المعلومات القانونية المتعلّقة بحالات التأزّم والنزاع، فإنّ الوعي الإجمالي بها قد يكون منقذًا بطريقة ما –لنا أو لأحبائنا- من الوقوع في شراك واقع سيء، والتشوش بخصوصه بسبب معلومات منقوصة، أو افتراضات موهومة، أو توجيه مغلوط.

على أنّ التثقّف بالمعلومات والنصوص القانونية –مع فوائده الكثيرة- لا يغني بحال عن المشورة المهنية التي يقدّمها المحامي المختصّ. لأنّ عمل المحامي ليس فقط معرفة القانون، فالكثير يعرف نصوصه حتى من غير المحامين، ولكن حقيقة دور المحامي تكمن في دراسة الوقائع كدراسة القانون، والنظر في ما يمثّل هذه الوقائع في نصوص القانون، كما هي مقولة "أبي القانون وابن الشريعة"، الدكتور عبد الرزاق السنهوري رحمه الله. 


| المراجع

[1]  مثقال الناطور. المرعي في القانون الشرعي. مطبعة الأمل، القدس. ط3. 2005م

[2]  محمد قدري باشا. كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية. دار ابن حزم، بيروت. ط1. ط1. 2007م 

[3]  محمود علي السرطاوي. شرح قانون الأحوال الشخصية. دار الفكر، عمان. ط2. 2007