بنفسج

المرابطة رائدة سعيد ونفَسٌ لا يملّ جوار الأقصى

الثلاثاء 29 نوفمبر

المرابطة المقدسية رائدة سعيد
المرابطة المقدسية رائدة سعيد

لم تعلّق المرابطة المقدسية رائدة سعيدة مبادئها وأحلامها على العمر، ولم تجعلهُ محدّدًا لمسارها في هذه الحياة؛ فهو بالنسبة لها مجرّد رقم لا يقدّم ولا يؤخر. وفي الوقت الذي يبدأ فيه المرءُ بالتراجع والسكون، والحدّ من الحركة عند بلوغ الأربعين، كان هذا السنّ منطلقًا لرائدة نحو الجهاد والرباط في المسجد الأقصى، وكان كذلك معلمًا لمختلف الاعتقالاتِ والمضايقات التي تعرضت لها من قبل جنود الاحتلال، التي تجاوزت السبع مرّات، خرجت منها في كل مرة منتصرةً مستهزئة باحتلالٍ يرهبه الحرفُ والرسمُ وترهبه النساء.

وتتزوّدُ رائدةٌ في معركتها هذه بسلاحين: صلابةُ الرّأي والكاميرا، فتصرّ على استكمال مسارها الذي اختارته رغم الصعاب، وتعكف على توثيق كلّ ما يجري أمام المسجد الأقصى وجواره؛ الأمرُ الذي أدّى إلى اعتقالها وإبعادها في العديد من المرات، مثلما حدث سنة 2020 عندما أُبعدت لمدة ستة أشهر كانت غصّةً على قلبها وفق تعبيرها. في هذا التقرير حوارٌ عفويّ مع صاحبة النفس العنيد، المرابطةُ المقدسية رائدة سعيد، ندرج فيه حديثًا عن السيرة والمسيرة، ونتحدّث عن حكاياتها مع الرباط والتوثيق ووقوفها في وجه الاحتلال.

 المرابطة المقدسية رائدة سعيد 

"رائدة سعيد الخليلي، مقدسية من مواليد ديسمبر 1973 بالقدس، وبيتي هو أحد البيوت العتيقة في القدس داخل سور القرمي ومدرستي كذلك كانت داخله وهي مدرسة النهضة". 
 
للقدس العتيقة جمالٌ خاصّ، متى تبصرها مرّةً، فسوف تراها في كلّ المرّات؛ ولا يعرفُ قدرها الحقيقيّ إلا من ذاق مرآها: "أنا دائمًا أفتخر أني ابنة القدس ومن مواليد هذه المدينة، أشعر بأني أشبهها وهي تشبهني".

"رائدة سعيد الخليلي، مقدسية من مواليد ديسمبر 1973 بالقدس، وبيتي هو أحد البيوت العتيقة في القدس داخل سور القرمي ومدرستي كذلك كانت داخله وهي مدرسة النهضة". تتحدّث رائدة سعيد عن مكان ولادتها ونشأتها، من دون أن تغفل عن ذكر تفصيلٍ طريف عن صغرها وهو أنّها كانت مدلّلةً أهل الحارة، تقول: "كان لي نصيب من دلال الجيران، قد يكون بسبب السمنة" وتضحك. تشعر رائدة بالفخر دومًا لكونها من مواليد هذه المدينة، وأهلها.

للقدس العتيقة جمالٌ خاصّ، متى تبصرها مرّةً، فسوف تراها في كلّ المرّات؛ ولا يعرفُ قدرها الحقيقيّ إلا من ذاق مرآها:"أنا دائمًا أفتخر أني ابنة القدس ومن مواليد هذه المدينة، أشعر بأني أشبهها وهي تشبهني"، ولعلّ ذلك كان من بين الدوافع التي شجعت رائدة على مباشرة الرباط في سنّ الأربعين، والتمرّد على كلّ قانون إبعادٍ يصدره الاحتلال في حقّها: "كل قانون إبعاد هو غصة في قلبي، ولكني أنا التي تربيتُ في هذه المدينة لم أتقبل أي إبعاد وكنت أقوم دومًا بخرقه وتعديه مهما سنحت الفرصة"، فتعتبرُ رباطها في الأقصى مكرمةً حباها الله بها ولن تتخلى عنها، وثمرةً لتعلّق غير عاديّ بجدران المسجدِ الشريف، وأركانه.


اقرأ أيضًا: مرابطات عن بعد: هنا القدس بتوقيت النساء


تقول: "وجودنا بالأقصى هو لأننا تعلقنا به، ونشعر بالراحة خلال وجودنا فيه، ولأن الحق لا يضيع إذا كان وراءه طالب، والجميلُ أن يختارنا الله لهذا المكان العظيم. مقامُك حيثُ أقامك!"، وهو ما تردّده دومًا على مسامع عائلتها حينما تلتمس منهم قلقًا عليها، أو خوفًا من اعتقالها أو أسرها.

"ماذا تعني لكِ مصاطبُ العلم في المسجد الأقصى؟"، نسأل، فتجيب فورًا بأن لديها ذكرياتٌ جميلة معها :"في بدايةِ الرباط، كنا نتدارسُ تلاوة القرءان بالقرب من المصلى المرواني، ولي هناكَ ذكريات مميزة، لكن للأسف لم يستمرّ الأمر إلا لوقت قصير، حيث بدأت المضايقاتُ على المرابطين". وتستحضر بعد ذلك صلاة الضحى التي استمرّت أكثر من خمس ساعاتٍ قبالة المصلى القبليّ في المسجد الأقصى، لتقف في وجه اعتداءات المستوطنين في بداية شهر أيار/مايو 2022، "كان صمود المرابطين ودعاؤهم مؤثرًّا يومها، وهو من المواقف التي لا أستطيع نسيانها".

 رائدة سعيد: أمًّا وابنةً ومرابطة

1-22.jpg
المرابطة المقدسية رائدة سعيد.. وصديقتها منتهى إمارة مع الشيخ رائد صلاح

لم نغفل عن سؤال رائدة عن أولادها، هي المرابطة التي تتكبدُ عناء كبيرًا في التوفيق بين دورها الأسريّ باعتبارها أمًا لستة أبناء "أكبرهم 26 عامًا، وأصغرهم 13 عامًا"، ودورها بوصفها مرابطة تقف في وجه احتلال ظالم، مع حقيقة صعوبة كلا الدورين واحتياجهما لطاقةٍ رهيبة، ونفَسٍ عنيدٍ لا يملّ. تعتبر رائدة حبّ أولادها للأقصى أمرًا طبيعيًّا، هو تحصيل حاصلٍ لحقيقة نشأتهم فيه وكبرهم بين ساحاته، تقول: "حب الأقصى لا يحتاج منّا أن نزرعه في قلوب أبنائنا، هو كالنباتِ البريّ ينمو لوحده"، غير أنّهم يتقفون أثر أمهم ويتبعون خطاها، فالولدُ في النهاية مرآةٌ لوالديه.

تقصّ رائدة إحدى المواقف التي حصلت مع ابنتيها أمام المسجد الأقصى عند ذهابها إليه، خلال فترة إبعادها عنه: "طلب جنديّ الاحتلال، عند باب الغوانمة، هويتي، أعطيته الهوية وقال لبناتي ادخلن أنتن، رفضن وقلن له: لن ندخل إلا معها؛ فنظر إليهن جنديّ الاحتلال وقال لهم جكرات مثل أمهن". تخبرنا رائدة أن إحدى ابنتيها صارت تقلّدها في اغتنام فرص التوثيق بالكاميرا عندما تندلع أي مواجهات بين المصلين والمستوطنين، وتعتبرُ توثيقها رسالة تحاول من خلالها إبراز ما يحدث في المسجد الأقصى، وإيصال صوته للعالَم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعيّ.

11-5.jpg

"إذا سألنا أولادك عن الصفة التي يحبونها فيك، فماذا سيقولون؟". تجيبُ رائدة، بخفة ظلّ، أنّها لا تعلم تحديدًا ما يحبون فيها "غير أنّي أمهم التي تميل للنكتة والدعابة معهم، ونحن نعيش أكثر باعتبارنا أصدقاء". كما تشرح لنا كيف وزّعت أعمال البيت على أطفالها في بداية رباطها "عندما بدأتُ الرباط أصبحتُ أوزع عمل البيت علينا جميعًا، فأنا أم مستغلة". تضحكُ، وتضيف: "أنا أطبخ وأجلي، وهم يتولون أعمال الغرف. هم يتمنون أن أرجع إلى عمل البيت كله، لكنهم يحلمون!".


اقرأ أيضًا: نهلة صيام: ابنة أبيها ووريثته في الرباط


نسألُ رائدة عن قدوتها في هذه الحياة منتظرين إحدى الأسماء المشهورة، صاحبة الزخم والأثر. لم تنتظر رائدة طويلًا لتجيبنا، فهي تعتبر والدها تاجر الخضار سعيد الخليلي قدوتها، تصفه بالرجل البسيط الطيّب الذي أحبّت ذكاءه ووطنيته "والدي ليس محاربًا، ولكنه إنسان ذكيّ، طيب وطنيّ، كان يشجع العلم كثيرًا ويشجّعنا على التعليم رغم أنه كان لا يجيد القراءة والكتابة"، تضيفُ بأنه كان تاجرًا ناجحًا وشخصًا وُهب محبة الآخرين له وتقديرهم، كان دائمًا يقول: العلم يبني بيوتًا لا عمادَ لها والجهلُ يهدم بيوت العز والشرف". تخبرنا رائدة بطريقة أو بأخرى أن القدوات لا تنحصر في الأسماء العظيمة، وأنّ العبرة بالأثر الذي يُترك لينير سبيل المقتدين، وأنّ الوالدين الصالحين منارة لا تنطفئ، لأولادهم.

 مواجهاتٌ مستمرة بين رائدة والاحتلال

يختلق الاحتلال حججًا واهية، وساذجة لاعتقال المرابطين، المهم عنده هو الوقوف في وجه أدنى تهديد بالخطر، تعطي رائدة بعض الأمثلة على ذلك، مثل التكبير ومضايقة المستوطنين.
 
تعترفُ رائدة في غضون حديثها عن الأقصى بفضل صديقاتها المرابطات، عليها، وبالكم الهائل من الفائدة التي تعلمتها منهنّ. وتخصّ بالذكر صديقتها المرابطة منتهى أمارة ابنة أختِ شيخ الأقصى رائد صلاح. تصفها بأنها رفيقة الرباط والكفاح.

تعرّضت المرابطة رائدة سعيد لمضايقات عديدة مارسها الاحتلال، كانت أولها بين سنتي 2015 و2016، ومنها ما تصفه بنفسها؛ فتقول: "في إحدى المرات، اعتقلوني مع مجموعة من المرابطات بعد الظهر، وكان عددنا سبعة، أخذونا بسيارة البوسطة، فضلنا نغني أغاني فلسطينية دون الاكتراث للاعتقال، وبقينا بسجن القشلة حتى الليل، ثمّ أخذونا إلى سجن الرملة حتى الصباح، ثمّ أعادونا إلى القشلة وخرجنا يومها". إلا أنّ رائدة بنفسها العنيد وشخصيتها التي تحبّ المواجهة لم تكن تكترثُ لهم: "كنتُ أجلس وأنا غير مبالية لهم، وأنظر لهم نظرة استحقار، حتى أني قمت بتصوير مباشر من القشلة".

22-4.jpg

يختلق الاحتلال حججًا واهية، وساذجة لاعتقال المرابطين، المهم عنده هو الوقوف في وجه أدنى تهديد بالخطر، تعطي رائدة بعض الأمثلة على ذلك، مثل التكبير ومضايقة المستوطنين. لا توفر أي جهدٍ في الاستهزاء بأسئلة المحققين أثناء التحقيق، والردّ عليها بلهجةٍ شديدة، والرفض الدائم للتوقيع على تحقيقاتهم.

"في آخر اعتقال، يسألني المحقّق عن المسافة بيني وبين المستوطنين، فقلتُ له لم أقسها، يمكن مترين، ويمكن عشر أمتار، ويمكن أكون أنا بالشرق وهم بالغرب، على العموم أنا ما بقرب منهم، مش خوفًا، بل قرفا، ريحتهم بتقرف". وقد تعمّدت رائدة أن تجيبهم بهذه الطريقة لأنّ كل كلامها كان يسجّله أحد الجنود هناك، فكانت تريد أن تبدي لهم مقدار احتقارها لهم، وعدم اكتراثها بهم، وأنّ سلاسلهم تلك لا تخيفها قيد أنملة.

تعترفُ رائدة في غضون حديثها عن الأقصى بفضل صديقاتها المرابطات، عليها، وبالكم الهائل من الفائدة التي تعلمتها منهنّ. وتخصّ بالذكر صديقتها المرابطة منتهى أمارة ابنة أختِ شيخ الأقصى رائد صلاح. تصفها بأنها رفيقة الرباط والكفاح: "نتفق غالبًا على يوم معين، ونلتقي معًا للرباط أو التوثيق؛ وقد عرفنا في وسط المرابطات بالمشاغبتين".

33-5.jpg

لم نرد أن نختم حوارنا مع رائدة إلّا بأصداء حلمٍ باقٍ، وأملٍ لا يزول. نسألها عن أمنيتها فتقول: "حلمي أن أرى هذا العالم يسوده العدل ويتوقف فيه الظلم، أكره الظلم أينما حلّ"، وتشيرُ إلى أن رباطها رد فعل على حقٍّ مغتصبٍ من أصحابه. "ورباطي ما هو إلا لأنني أتمنى عودة الحق لأصحابه، فأنا بهذه البقعة من الأرض، واختارني الله أن أكون هنا، فالحمد لله على هذا التكريم. مهما كانت إمكانياتنا قليلة، إلا أننا نستطيع أن نفعل شيئًا ما، مهما كان"؛ إذ أن المهم توفّر النية الصادقة وإخلاص العمل لوجه الله. وهي تضعُ أملًا كبيرًا في شباب اليوم، وتسعد بمن يميل منهم للمعرفة والعلم، والهمم العالية.


اقرأ أيضًا: أٌمُّنا عايدة الصِّيداوي: جارة الأقصى حين أُبعدت عنه


وتضيفُ بأنّ أقصى حلمها أن تكون من المجهولين في الأرض والمعروفين في السماء "وصدقًا، إن كنت أحسد أحدًا على هذه النعمة دون زوالها عنه، فإني أحسدُ هذه الفئة". في كلّ حوارٍ تجريه بنفسج مع إحدى مرابطات الأقصى، تتأكد بأنّ هذه الأرض كانت لتنتهب عن بكرة أبيها، لولا نساء فلسطين اللواتي بقين دومًا كحجر عثرة في سبيل الاحتلال، واللواتي يحفظن حب الوطن، وجوار المسجد الأقصى، رغم الفتن، والخيبات، ورائدة من دون شكّ واحدةٌ من جمع هؤلاء المرابطاتِ المكافحات.