بنفسج

مرح باكير: عين أمُها التي اعتُقِلتْ طفلة

الخميس 24 نوفمبر

الأسيرة المقدسية مرح باكير
الأسيرة المقدسية مرح باكير

كان الوعدُ بيننا أن يوم الغد سيكون بداية جديدة لمراجعة الدروس قبل بدء الامتحانات، فأمامنا هدف لا بُدَّ من بلوغه. هزَّتْ مرح رأسها وابتسامةٌ خفية تعلو  وجنتيها قائلة: "حسنًا يا أمي اتفقنا، لكن اسمحي لي بوداع التِّلفاز قبل بدء هذه المُعاهدة". بعد مساوماتٍ بين الأسيرة المقدسية مرح بكير وأمِّها، مدَّتْ لها جهاز التحكم وهي تقول: "ساعة واحدة يا مرح، وستُطفئين التَّلفاز وتذهبين إلى النَّوم، فقط ساعة واحدة".

السادسة والنِّصف صباحًا، بدأت مرح بتجهيز نفسِها للذهاب إلى المدرسة، وقد أخذتْ على نفسِها أن تكون على قدر الوعد الذي قطعتْهُ لأُمِّها، وأن تحصلَ على مُعدِّلٍ يملأ البيتَ بالزغاريد. كانت العائلة تلاحظ نشاط مرح والهمَّة الواضحة على سُرعتِها لئلَّا تتأخر، وصوتُها وهي تركضُ نحو يد أمِّها، بقبلةٍ وهمسةٍ برجاء الدعاء والبركة.

مضتْ الساعة التي اعتادت الأم على سماع صوتِ مرح وهي عائدة من المدرسة، لكن هذه المرَّة لم تسمع صوت ابنتِها، بل كان صوتُ الهاتف يرنّ في وقتٍ على غير عادة، رفعت السماعة ليأتيها صوت ضجيجٍ ومن خلفه أحدهم يصرخ: "مرح اتصاوبتْ". لم تدرك الأم إلَّا أنَّها مزحة "بايخة" من صديقة مرح، وهذا ما جعلها تغضب منها: "هذا مُزاح غير مقبول، أعطِ الهاتف لمرح فورًا". لم تُصدِّق أم مرح أي كلمة إلَّا عندما سمعتْ الفتاة وهي تجهش بالبكاء وتُقسمُ بالله أن الجنود "قد صفُّوا دم مرح".

 مرح بكير وحكاية الـــ 14 رصاصة

الأسيرة المقدسية مرح باكير
كانت مرح ابنة السادسة عشر عامًا، تحاول العبور من نقطة التَّفتيش للوصول إلى منزلِها في بيت حنينا بأسرع وقت. كان التوتر يظهر على ملامح مرح التي لا تحب الضوضاء، خاصةً مع اقترابِها من نقطة التَّفتيش وهي تلتفتُ يمنةً ويسرى ترقبُ المسافة المُتبقية وسط هذا الازدحام، فما كان من أحد الجنود إلَّا أن بدأ بإطلاق الرصاص عليها.
 
 لِيُصيبَ يدها اليسرى بـ 14 رصاصة، حتى سقطتْ أرضًا وسط بركةٍ من الدِّماء. التفَّ حولَها الجنود، وهم يشتمونها بأقبح الشتائم، ويضربونها بأحذيتهم وهم يصرخون عبر مكبرات الصوت بلغتهم الركيكة: "محاولة طعن من مخربة". تُرِكتْ مرح تنزف لوقتٍ طويل، ورغم قدوم الإسعاف ما كان لأحدٍ أن يقترب من مرح حتى إعطاء الأوامر.

من هذا الحدث بدأتْ الحكاية مع الأسيرة المقدسية مرح بكير (23 عامًا)، نعودُ بتفاصيل ذلك اليوم مع أمها سوسن المبيض (45 عامًا). صمتٌ تبادلَ بيني وبين سيِّدة الرواية، فأن تسرُدَ قصَّةً عنوانُها الوجع والظلم وبطلها "قطعةٌ من روحك" ليس بالأمر السِّهل، ولو مضى على الحدث سبعُ سنواتٍ وأكثر. في الثاني عشر من أكتوبر لعام 2015، حين اندلعتْ انتفاضةُ القدس، وتوتَّرتْ الأحداث وفُرِضتْ الحواجز في كل مكان.

كانت مرح ابنة السادسة عشر عامًا، تحاول العبور من نقطة التَّفتيش للوصول إلى منزلِها في بيت حنينا بأسرع وقت. كان التوتر يظهر على ملامح مرح التي لا تحب الضوضاء، خاصةً مع اقترابِها من نقطة التَّفتيش وهي تلتفتُ يمنةً ويسرى ترقبُ المسافة المُتبقية وسط هذا الازدحام، فما كان من أحد الجنود إلَّا أن بدأ بإطلاق الرصاص عليها، لِيُصيبَ يدها اليسرى بـ 14 رصاصة، حتى سقطتْ أرضًا وسط بركةٍ من الدِّماء. التفَّ حولَها الجنود، وهم يشتمونها بأقبح الشتائم، ويضربونها بأحذيتهم وهم يصرخون عبر مكبرات الصوت بلغتهم الركيكة: "محاولة طعن من مخربة". تُرِكتْ مرح تنزف لوقتٍ طويل، ورغم قدوم الإسعاف ما كان لأحدٍ أن يقترب من مرح حتى إعطاء الأوامر.

الأسيرة المقدسية مرح باكير

في هذه الأثناء كانت أمُّ مرح قد تأكدتْ من الخبر حتى وصلت قرب الحاجز، كانت الطرق مُزدحمة، وكلُّ المُشاة يصفون هذا الحدث. لم تستطعْ أم مرح الاقتراب من الحاجز وسط تشديدات الجنود ومنع العبور. وما هي إلَّا لحظات حتَّى رأت الإسعاف يتحرك نحو مشفى "هداسا". اتصلتْ حينها بزوجها الذي كان في طريقه إلى عمله في بيت لحم، وعاد مُسرعًا ليذهبا معًا إلى المشفى. وقفت السيدة سوسن وزوجها وبعضٌ من أفراد العائلة الذين جاؤوا من كلِّ حدبٍ وصوب بالإضافة إلى محاميةٍ من العائلة، فالجميع ينتظر أيّ إذن لدخول المشفى ومعرفة الوضع الصِّحي لمرح.

لكن عبثًا كلُّ تلك المحاولات، فالأوامر كانت صارمة بمنع دخول أيِّ أحدٍ من العائلة حتَّى أمر أحد الأطباء بضرورة الحصول على موافقة وليِّ الأمر لدخول مرح إلى غرفة العمليات. دخلت المحامية الموكَّلة، وبدأتْ تفهم تفاصيل الحدث، ورغم حالة مرح الحرجة إلا أنَّها بقيت أكثر من ثماني ساعاتٍ حتى وصل أمرٌ من الإدارة العسكرية بإجراء العملية. خلال هذه السَّاعات كانت أم مرح وأبوها قد استُدعيا للتحقيق القسري. لم تكن ساعات التحقيق هيِّنة أبدًا.


اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن


تقول سوسن: "كلُّ شيء كان مدروسًا، وكانوا يحاولون إثبات التُّهمة على مرح بالكثير من الأكاذيب، حتى أنَّهم أحضروا دفترًا به وصية مكتوبة بخطٍ سيء ولغةٍ عربيةٍ ضعيفة، وحاولوا إقناعي أنَّه لمرح، يا لسذاجتهم! وكيف أغفل عن دفاتر ابنتي اللواتي أشتريهن  لها أو حتَّى عن خطِّها الأجمل بين خطوط أخواتِها؟!". لم يكن الحدث سهلًا على قلبِ سوسن، فابنتُها البكر ترقدُ في المشفى بحالةٍ حرجة تحت حراسةٍ مُشددة، وأمامها مستقبل مجهول، ورغم هذا الوجع حاولتْ أن تبقى قويةً مُتماسكةً لأجل أبنائِها الذين ينتظرون أيَّ خبرٍ عن شقيقتهم.

 "بنتك بطلّت إلكم.. خلصت صارت إلنا"

الأسيرة المقدسية مرح باكير
الأسيرة مرح باكير مع والدتها ووالدها

عادتْ سوسن برفقة زوجها إلى المشفى، لكن تفاجأتْ برفض زيارتهم أو مُقابلتهم لمرح والاطمئنان عليها. والحقيقة لم يكن هناك أيّ إرهاصٍ لموعد مقابلةٍ لاحقة. مكثت مرح في المشفى مدة 21 يومًا تحت حراسةٍ أمنية مُشددة، ومنعٍ من مقابلةِ أي أحدٍ إلَّا من محاميها. وبعد أن أصبح جسد مرح قادرًا على الخضوع للتَّخدير من جديد، خضعتْ لعملية ثانية في يدِها اليُسرى.

بدأ التَّحقيق مع مرح بعد وقتٍ قصير من استيقاظها من التَّخدير، لم يكن هناك أيُّ اعتبارٍ لصغر سنها، أو حالتِها الصحية، كان تحقيقًا مُباشرًا للاعتراف بتهمة محاولة طعن أحد الجنود، كان التخويف والترهيب هو أسلوب الضغط الذي يتبعه المحقق مع مرح وعائلتها أيضًا. وهذا ما أخبر به المحقق أمَّها عندما طلبتْ منه مقابلة ابنتها: "بنتك بطلت إلكم، خلص صارت إلنا".

لم يكن الأمر على قدر قساوة التحقيق فحسب، بل تعمَّدوا وضع جنود حراسة داخل غرفة مرح، حتَّى أنَّ أحدهم كان يسخر من حالة مرح، ومن ملامح وجهها التي تأثرت بالرصاص، فالتقط له صورة سيلفي ومرح من خلفه تتألم وتبكي. وهذا ما أدى إلى انهيارها والشكوى لمُحاميتها التي أجبرت الجندي على حذف الصورة بعد تهديده قانونيًا.


اقرأ أيضًا: هيفاء أبو صبيح: في أن تكوني أمًا وأسيرة


لم تكن الحالة الصحية للأسيرة المقدسية مرح باكير تسمح لها بالخروج من المشفى، ورغم ذلك خرجت مرح بعد ساعاتٍ من إجرائها للعملية الثانية، لتنتقل إلى سجن عسقلان. مكثت هناك 15 يومًا مع مواصلة التحقيق، ليتمَّ تحويل قضيتها إلى المحكمة المركزية. وهذا ما دفع عائلتها إلى توكيل مُحامٍ آخر، فالكلُّ يعرف أنَّ الملفَ الذي يُحوَّل إلى المحكمة المركزية سيكون حكمه عاليًا. نُقلِت مرح بعدها إلى سجن الرملة وبقيتْ موقوفةً حتى بداية شهر يناير من عام 2017، لُيحكم عليها بالسجن لمدة 12 عامًا وغرامة مالية تُقدر بـ 30 ألف شيكلًا. 

الأسيرة المقدسية مرح باكير

بجهود المحامي وتقديمه الاستئناف، تحولت القضية من تهمة محاولة طعن إلى محاولة إيذاء ليتم تخفيف الحكم إلى 8 سنوات ونصف، وغرامة مالية تُقدَّر بـ 10 ألف شيكلًا. كان سماعُ الحكم صدمةً على قلب العائلة، فالصّغيرة مرح، صاحبة القلب الطيب والابتسامة الحنونة، أصبحت خلف هذه القضبان؟ كيف هذا، وقد رسمتْ برفقةِ أمِّها حلُمًا بالحصول على معدل "تحكي فيه كل البلد!".

بعد شهرٍ ونصف، سُمِحَ للعائلة بزيارة مرح، كانت أم مرح وقتئذٍ قد وضَّحت لأخوات مرح نور وحلا بعضًا من قوانين الزيارة، أخبرتهم أنَّهم لن يتمكَّنوا من احتضان مرح، وسيكون الحديث من خلال سماعة الهاتف فقط. أوصتهم أن يكن قويَّات، وألَّا يذرفن أي دمعة عند رؤيتهنَّ لمرح. لم تكن هذه النَّصائح من قلب سوسن، لكن كانت تحاول أن تشحذ همةَ عائلتها بقوتها وصرامة مواقِفها وغضبها عند بكاء إحداهن. دخلتْ مرح إلى غرفة الزيارة تنظر من خلف الزجاج وهي تعتقد أنَّها ستُقابل المحامي، حتى فوجئتْ برؤية أخواتها يلوحن لها. لم تتمالك نفسها وركضت بلهفة المُشتاق تتمنى لو يُكسرُ الجدار الزجاجي بينهنَّ لتحتضنهن بعاطفةِ كلِّ أهل الأرض.

 مرح بكير ممثلة للأسيرات في سجن الدامون

الأسيرة المقدسية مرح باكير
الأسيرة المقدسية مرح باكير

مضتْ الأشهر الأولى في السجن، حفظت خلالها الأسيرة المقدسية مرح باكير كلَّ القوانين، كانت قريبةً من قلبِ الكثير من الأسيرات، تجلس معهنَّ، يتبادلْنَ الأحاديث، ويصنعنَ أحلامهنَّ بعد الحرية. التحقتْ مرح بالثانوية العامة، واستعدتْ لهذه المرحلة بشكلٍ كامل، فخلفها كانتْ تقفُ أمَّها، تشدُّ عزيمتها، تُشجعها بكل قوتها. وما كان منها إلَّا أن قدَّمت طلبًا للسماح بإدخال كتب الثانوية العامة والقرطاسية اللازمة. والحقيقة أنَّها لم تتركْ دعمًا إلَا ووهبته لمرح، لئلَا تيأس أو تتراجع عن تحقيق الحلم الذي عقدتْ عزمها على تحقيقه. وبالفعل بدأت مرح في الدراسة، ووضعتْ وصايا أمِّها نصبَ عينيها، لتنجح في دورة الامتحانات التجريبية بمعدل 80%، وبالامتحانات النهائية بمعدل 68%.

إن التجربة التي عاشتها مرح داخل السجن، صقلتْ من شخصيتها بشكلٍ واضح، فصفات القيادة والذكاء في حل المشاكل، والقدرة على الحديث بجسارة، شجَّع رفيقاتِها في الأسر إلى اختيارها ممثلةً عن الأسيرات الفلسطينية في معتقل الدامون. حملتْ مرح هذه الأمانة بكلِّ ثقلِها، تتحدثُ باسم الأسيرات، وتُعبِّر عن مطالبهن، وتدافعُ عنهنَّ، وهذا ما أدى إلى الاعتداء عليها في نهاية ديسمبر من العام المنصرم، ونقلها إلى العزل الانفرادي، عندما رفضت أن يتم إفراغ الغرف من الأسيرات في ساعات الليل البارد.

الأسيرة المقدسية مرح باكير

سبعُ سنواتٍ ما بين زنزانةٍ وأخرى، قضتهم مرح وهي تعدُّ الأيام، تكتب الخطابات لأهلها، تبكي مرةً حياءً من وجع الشوق، وتبتسمُ مرةً وهي تتذكُّر بعض التفاصيل المُشاكسة قبل أن تكون أسيرة. كبُرت الطفلة، وكبُر معها وجعها، فما زالت عائلة مرح لهذه اللحظة تقدِّمُ طلبًا لإدارة السجون للسَّماح بإجراء عملية جراحية لازمة لإحياء أعصاب يدها اليُسرى. فالإهمال الطبي الذي عانت منه مرح طوال السنوات الماضية أثَّر سلبًا على 80% من أعصاب يدها التي أُصيبت بالرصاص.


اقرأ أيضًا: "عداد أيام" .. عن مرح بكير في ذكرى الـ 14رصاصة


حلمٌ كبير تعيشه مرح، ترسمُ فيه طريقها بعد الحرية، بدءًا من التخصص الذي ستلتحق به في الجامعة، والحقيقة أن هذا الحلم سيكون حقيقة، وهذا أمرٌ لا شكَّ فيه، فخلف الأسيرة المقدسية مرح باكير أمٌّ لم تهدأ ولم تستكنْ. حملتْ قضية ابنتِها وتحدَّثتْ عنها في كلِّ المنابر. كانت تضعُ يدها على قلبها في نهاية كل زيارة وتصدحُ بشموخ الصَّوت "أنتِ قوية يا مرح، ستخرجين قريبًا حرةً شامخة يا عينَ أُمِّك".