بنفسج

قطعة من العذاب: سفر الغزيّات.. من يدفع الثمن؟

الخميس 11 يونيو

لأول وهلة، ظننت أن الحافلة مخصصة فقط للنساء، لأنها تعج بأطفال صغار مع أمهاتهم وبدون آبائهم، حتى عرفت أنهن نساء تزوجن خارج القطاع وجئن لزيارة الأهل والأحباب، وجدتهن وفي حالة يرثى لها، الواحدة منهن لا تدري هل تتجه لتقديم جواز السفر، أم تعيد ترتيب الحقائب بعد التفتيش المخزي، أم تختار مكانًا ليقضي الصغار حاجتهم بعد طول انتظار، أم تبحث عن طعام لتسكت جوعهم حتى لو كان رديئًا.

هذا المشهد في معبر رفح البري على حدود قطاع غزة مع مصر، لنساء غزيات تزوجن برجال يقيمون خارج القطاع، ولكي يلتقين بأهلهن عليهن عيش المشهد مرتين، الأولى عند الحضور للقطاع، والثانية عند مغادرته، إنها "رحلة سفاري" على حد وصف سائق الحافلة عندما أراد تهدئة النساء بعدما سمع تنهيداتهن لمّا أخبرهن أنه يتوجب عليهن المكوث في تلك الحافلة يومين على الأقل كـ"بروتوكل" لمن أراد الخروج من قطاع غزة.

كأم، ستجعلني هذه المشاهد أفكر ألف مرة إذا نويت تزويج ابنتي خارج القطاع، لأنها ستتحمل عبئًا إضافيًا فوق عبء الغربة، فكلما أخذها الحنين لأحبتها، عليها أن تكابد مشقة السفر عبر معبر العذاب، وغالبًا ستفعل هذا بمفردها بدون زوجها، هذا طبعًا إذا كان المعبر مفتوحًا أصلًا.

 | "المعبر قفل يا إمي"

كأم، ستجعلني هذه المشاهد أفكر ألف مرة إذا نويت تزويج ابنتي خارج القطاع، لأنها ستتحمل عبئًا إضافيًا فوق عبء الغربة.
 
 فكلما أخذها الحنين لأحبتها، عليها أن تكابد مشقة السفر عبر معبر العذاب، وغالبًا ستفعل هذا بمفردها بدون زوجها، هذا طبعًا إذا كان المعبر مفتوحًا أصلًا.

من الطبيعي أن يتقدم للفتاة خاطبون كثر، حتى توافق على من ارتاح له قلبها واستقر عليه رأي والديها وكان فيه الصفات ما يهيئ لها السعادة، ومن الطبيعي أيضًا أن يكون هذا الرجل مقيمًا في بلد غير بلدها، لكن ربما لا يكون هذا طبيعيًا إن كانت العروس مقيمة في غزة والعريس خارجها، أو العكس.

قصة "أسماء" تلخص بعض أوجه المعاناة التي تمر فيها من تزوجت خارج القطاع. في البداية، ترددت أسماء كثيرًا قبل قبول الخاطب، ومما زاد من حيرتها أن أفراد عائلتها معجبون بالشاب، لكنهم غير مقتنعين بسفرها، حتى حسم الأب الأمر بقوله، إن العريس مناسب ومثلها مثل كثير من الفتيات، وخصوصًا أن البلد الذي ستسافر إليه قريب، وكل عام ستكون لها زيارة للقطاع.

وهنا اقتنعت الأم بالكلام، وبدأت تصبّر نفسها بأن العالم أصبح قرية صغيرة وأنها تستطيع الحديث مع ابنتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي في كل وقت وحين.

وأسماء حالها حال كثير من الفتيات كانت سعيدة، أولا لأنها ستجد شريك حياتها الذي فيه من المواصفات ما تمنت، وثانيًا لأنها تعدّ الزواج طوق النجاة لتخرج من القطاع نحو العالم الذي كانت تراه في أحلامها، فهي لم تخرج من غزة خلال سنوات عمرها الاثنين والعشرين، ولكنها تدخل في صراع عاطفي يدو حول تساؤل مهم: "كيف سأعيش بعيدًا عن أهلي؟".

من سافرت عروسًا، قررت أن تزور غزة لتروي قلبها برؤية من تحب، وفعلًا تذهب أسماء لغزة بعد توسلات للزوج ووعود بأنها لن تتأخر، وبدلًا من أن تطفئ نار الشوق للأهل تجدها تزداد.

تغلبت أسماء على عاطفتها وفكرت بعقلها، فتزوجت وسافرت وبدأت تستقر حياتها مع زوجها في سكنهما الجديد وفي بلد جديد، بعيدًا عن الأهل والأحباب، ولكن سرعان ما اشتعلت نار الشوق للأهل، ويزداد لهيب تلك النار في كل مناسبة سعيدة أو حتى حزينة، عندها أو عند أهلها، خاصة مع قدوم الطفل الأول ثم الثاني.

من سافرت عروسًا، قررت أن تزور غزة لتروي قلبها برؤية من تحب، وفعلًا تذهب أسماء لغزة بعد توسلات للزوج ووعود بأنها لن تتأخر، وبدلًا من أن تطفئ نار الشوق للأهل تجدها تزداد، فكلما ينتهي يوم من المدة المحددة لها في غزة تشعر بالألم، فهي لم تشبع من حضن والدها وحنان أمها واهتمام إخوتها.

حان موعد العودة، في ساعات الصباح الأولى ودّعت أسماء أحبابها بالدموع، وما إن كانت أم أسماء تستعد لصلاة العصر حتى تفاجأت برجوع ابنتها وطفليها، في حالة يرثى لها، ما جعل الأم أن تظن بأنهم تعرضوا لحادث في الطريق، وسرعان ما أجابت أسماء بقهر على التساؤلات في عيني والدتها: "المعبر قفل يا أمي".

معبر القهر، أضيق بوابة في العالم، تم إغلاقه في يوم سفرها بدون سبب، وسيفتح أبوابه بعد ثلاثة أيام، هنا ورغم المعاناة، فرحت أسماء لأنه لديها ثلاثة أيام إضافية تستمتع فيها برؤية أهلها، وقبل أن تنتهي هذه المهلة الإضافية، فوجئت أن اسمها غير موجود في كشف السفرـ فبدأ يساورها القلق، وقالت في نفسها: "لا بأس ثلاثة أيام أخرى برفقة أهلي".

وكأن أسماء لم يكن يكفيها إغلاق المعبر عليها، كان عليها امتصاص غضب زوجها الشديد والناتج عن تأخر سفرها، وتذكرت حينها صديقتها التي تعرضت لموقف مشابه، كان الطلاق هو النتيجة، لأن إغلاق المعبر استمر لسنة كاملة حينها.

تحول البيت لـ"سنترال"، والد أسماء ووالدتها وإخوتها يتصلون بين حين وآخر بزوجها يحاولون تهدئته وشرح الموقف له، وليقنعوه أن ليس بيد أسماء حيلة، فهذه هي ظروف كل الغزيين إذا أردوا السفر.

تغادر أسماء بعد الوداع للمرة الثانية بيت أهلها، وتركب الحافلة الرابعة، متوجهة لنفس المعبر، ومرة أخرى لم تستطع دخوله لأن إدارته أخبرت المسافرين أنها ستكتفي بثلاثة حافلات فقط في ذلك اليوم، وتعود أسماء هذه المرة وسط صمت يسود بيت أهلها، فأفراد أسرتها لا يجدون كلامًا يصبرون به ابنتهم التي تكبدت من عناء السفر المادي والمعنوي الكثير، ولا يجدون كلامًا يهدئون به غضب زوجها.

وفي صباح اليوم التالي، تتجه أسماء للمعبر بدون وداع ولا دموع، بل فقط دعوات من الأم بألا تعود أسماء هذه المرة حتى لا يغضب زوجها لأنه ربما لن يسمح لها بالحضور مرة أخرى لزيارتهم. وتستيقظ الأم بعد يومين من سفر ابنتها على رنات متتالية تأتي من كل برامج التواصل الموجودة على هاتفها، كلها رسائل من أسماء، ومضمونها واحد: "ماما اشتقتلك... رجعنا للنت تاني"، يتبعها "إيموجي" وجه حزن يعبّر عن حال كل فتاة بعيدة عن أهلها حتى وإن كانت في كنف زوجها.

هذه ليست قصة أسماء فقط، بل هي قصة كل فتاة كانت تعيش في قطاع غزة، تزوجت خارجه، قد يتحمل معها زوجها وأهلها ألم الفراق، ولكنها وحدها تدفع ثمن الغربة ألف مرة عندما تفكر بالسفر عبر معبر العذاب.