بنفسج

من يسرق قصص الحب في بلادنا؟! "ميرفت وسمير أصلان"

الأحد 02 ابريل

من اللحظة الأولى التي خرجتُ فيها من الأردن وأنا أرتدي فستانيَ الأبيض، وألوِّحُ لأهلي وداعًا، وقلبي ممتلئ بالشوق المؤجل، أدركتُ أن شيئًا واحدًا سيهوِّنُ عليَّ غربتي، لقد كانت يدي بيد شريكي "سمير". لم نكن نُصدِّق أنه وأخيرًا قد اجتمعنا معًا وانتقلنا إلى بيتنا في بلدة قلنديا في فلسطين.

كنتُ أشعر بجمال الحياةِ التي رزقني اللهُ إياها، فقلبي حظِيَ برجلٍ طيب ومحبوب، تعرفه كل البلدةِ بالكرم والشهامة. ولكَ أن تسألَ عند ناصية البلدة: من هو سمير أصلان؟ ليجيبوك بقصائدَ مدحٍ لا تنتهي، ثم يأتي أحدهم ويسأل: لما أحبَّت ميرفت زوجها سمير كل هذا الحب؟!

حين انقلبت الحياة

 
أمر جنود الاحتلال كل أفراد العائلة بالجلوس بغرفةٍ واحدة، ليُغلقوا عليهم الباب، ويبدأوا بضرب رمزي قبل اعتقاله، فهذا النَّهج الذي يعرفه كل فلسطيني قبل الاعتقال. رفض والد رمزي الدخول، فقد كان يدرك حينها أن الجنود سيلقون أيضًا قنابل الغاز -كما كانوا يهددون عندما اقتحموا المنزل-، وما كان من الجنود إلَّا تصويب أسلحتهم في وجه كل من في البيت، ليؤمِّنوا طريقًا لخروج الجنود وهم يخطفون رمزي.

كان الحب بين ميرفت وسمير وقودًا لتحمُّل الأيام الصعبة، وسنوات الانتظار، فقلبُ العاشِقين كان يتوقُ للصغار وهم يركضون في البيت. مضتْ السنواتِ الأربع الأولى والدعاءُ يرافقهما بهذه الأمنية، إلى أنْ أكرمهما الله بابنهما البكر "رمزي". كانت الفرحة في عيون العائلة أكبر من وصفِ الحروف، ليصبح رمزي مُدلل البيتِ، والصديق الأقرب لأبيه، والرفيق الذي يصطحبه في كل مجلس. كبُرتْ العائلة وتزيَّن البيت بأربع بناتٍ، وولدٍ آخر، وما بين ولادةٍ وولادة كان قلبُ ميرفتْ يقول لسمير: "قد جعلها ربي حقًّا".

هكذا كانت الحياة، في بدايةِ كلِّ صباح مع فنجان قهوة، ونهاية يومٍ مع جلسة عشاء برفقة الأبناء، وكلٌ يروي تفاصيل يومه، إلى أن طُرِقَ بابُ البيتِ في أحد الليالي: جنودٌ يُحاصِرون البيت، وآخرون يقتحمون الغرف، مُطالبين أفراد العائلة بعدم إبداء أي اعتراض وإلّا سيُطلقون الرصاص عليهم. "بدنا رمزي" هكذا بدأ جنودُ الاحتلال أوامرهم وهم يعيثون في البيتِ فسادًا، وما هي إلَّا ثوانٍ معدودة وجنديًّا آخر يمسك رمزي من يديه لاعتقاله. صرختْ ميرفتْ في وجههم "شو بدكم في الولد؟!".

2-6.jpg

كان هذا السؤال بمنزلة استفهامٍ حقيقي أمام ميرفتْ، وهي ترى ابنها وصديقها الأقرب يُعتقل، هذا "الولد" الذي أصبح رجُلًا يأخذ أمه في حضنها إذا ما بكتْ، ويجلس مع أبيه يتحدث في موضوع الرجال الكبار، وكأنَّ قلب ميرفت في تلك الليلة كان يتنبَّأُ بكل ما سيأتي لاحقًا.


اقرأ أيضًا: تهاني العويوي : الأسر ليس غصة قابلة للاعتياد


أمر جنود الاحتلال كل أفراد العائلة بالجلوس بغرفةٍ واحدة، ليُغلقوا عليهم الباب، ويبدأوا بضرب رمزي قبل اعتقاله، فهذا النَّهج الذي يعرفه كل فلسطيني قبل الاعتقال. رفض والد رمزي الدخول، فقد كان يدرك حينها أن الجنود سيلقون أيضًا قنابل الغاز -كما كانوا يهددون عندما اقتحموا المنزل-، وما كان من الجنود إلَّا تصويب أسلحتهم في وجه كل من في البيت، ليؤمِّنوا طريقًا لخروج الجنود وهم يخطفون رمزي، وفي الحقيقة هذا ما حدث. بلمحِ البصر التفَّتْ القيود حول يدي رمزي، دونِ تهمةٍ أو سببٍ واضح.

استشهاد سمير آصلان

 صعدت ميرفتْ وزوجها سمير إلى سطح المنزل، وهم ينادون على رمزي، يودعونه: "الله يقويك، الله يكون معك"، لكن يبدو أنَّ الحدث لم ينتهِ إلى هنا، فبمجرد أن سمع جنود الاحتلال صوت هذا الدعاء حتَّى بدأوا بإطلاق الرصاص بشكلٍ عشوائي نحو سطح المنزل، وما أن أخفضتْ ميرفت رأسها من سيل الرصاص، حتَّى رأتْ زوجها سمير مغمًى عليه.
 
أجل! لم يكن سهلًا على سمير أن يرى ابنه وحبيبه رمزي يُساق بهذه الوحشية بين أيدي الجنود. كانت تظنُّ ميرفت في تلك اللحظة أن الحزن قد بلغ في قلب سمير ما جعله يفقد وعيه "هكذا ظنَّت". بكتْ ميرفتْ وهي تحاول إيقاظ سمير من صدمته، وما أن وضعتْ يديها على صدره حتى رأتْ دماءه تسيل بغزارة.

لم تصدِّق العائلة ما يحدث أمامهم، فقبل ساعاتٍ بسيطة كان رمزي يُشاكس أمَّه، ويضحكُ برفقة أبيه، ويلعب مع أخوته. صعدت ميرفتْ وزوجها سمير إلى سطح المنزل، وهم ينادون على رمزي، يودعونه: "الله يقويك، الله يكون معك"، لكن يبدو أنَّ الحدث لم ينتهِ إلى هنا، فبمجرد أن سمع جنود الاحتلال صوت هذا الدعاء حتَّى بدأوا بإطلاق الرصاص بشكلٍ عشوائي نحو سطح المنزل، وما أن أخفضتْ ميرفت رأسها من سيل الرصاص، حتَّى رأتْ زوجها سمير مغمًى عليه.

1-5.jpg

أجل! لم يكن سهلًا على سمير أن يرى ابنه وحبيبه رمزي يُساق بهذه الوحشية بين أيدي الجنود. كانت تظنُّ ميرفت في تلك اللحظة أن الحزن قد بلغ في قلب سمير ما جعله يفقد وعيه "هكذا ظنَّت". بكتْ ميرفتْ وهي تحاول إيقاظ سمير من صدمته، وما أن وضعتْ يديها على صدره حتى رأتْ دماءه تسيل بغزارة.

"لا تخوفني عليك يا سمير، اصحى يا أبو رمزي"؛ صرختْ ميرفتْ طالبةً النجدة، حتَّى خرجت إلى الشارع تنادي على الإسعاف، لكنَّها تفاجأت بجنود الاحتلال الإسرائيلي يمنعونها من الخروج. كان صوتُ ميرفتْ وهي تصرخ "سمير اتصاوب" قد عمَّ كل أرجاء الحارة، ورغم وصول الإسعاف إلَّا أن الجنودَ رفضوا دخولها إلى الحارة وحاصروا البيت من كل الجهات.

3-3.jpg

كانت دماءُ سمير قد خضَّبتْ المكان، ولا حول ولا طاقة لميرفت إلَّا بالنَّداء على الإسعاف، وبعد ساعاتٍ من صوتِ هذا الوجع، وصل الإسعاف إلى سمير. الكلُّ يرتقب، ووحده قلب ميرفت يرتجف، فهذا سمير، حبيبُ القلب، وشريكُ الطريق، صديق الصغار وسندُ الكبار.


اقرأ أيضًا: ذاكرة مؤجلة ولمسة أصبع: برواية أم أحمد مناصرة


"سمير شهيد يا ميرفت"؛ كلمتان توقَّفَ عندهما كل الكون، وسقطتْ "رزمانة" التاريخ، كيف ذلك؟ لقد كان سمير قبل ساعتين بجانبي، نجلسُ معًا ونضحك، ونستغرب سرعة العشرين عامًا من زواجنا. لم أصدِّق ما أسمعه حتَّى رأيتُ الاسم كاملًا أمامي على ثلاجة الموتى: "الشهيد سمير أصلان".

هكذا إذن، بين ليلةٍ وضُحاها، تحوَّل بيتُ الحب إلى بيت عزاء، وأصبح سمير شهيدًا، ورمزي أسيرًا. هكذا تحوَّلت ذكرى زواجنا العشرين إلى بدايةٍ أعدُّ فيها أيام رحيل السَّند عن قلبي!

الصدمة الأولى

IMG-20230305-WA0025.jpg
الشهيد سمير أصلان برفقة عائلته

عادت ميرفت إلى البيت تجرُّ ذكرياتها على كتفها، تنظر إلى أطفالِها وهم يسألون عن "بابا"، لا تعرفُ كيف ستخبرهم بهذه النِّهاية السريعة، حتَّى جاءتْ أصغر البنات، تضعُ يديها على وجهِ أمِّها وتسألها: "عن جد بابا سبقنا على الجنة؟" تسمَّرت حينها ميرفت في مكانها، وهي تسمعُ حديث ابنتها التي لم تتجاوز الثلاث سنوات.

هذه الصغيرة التي كانت قريبةً إلى قلب الشهيد سمير لدرجة أنَّه أحب تسميتها (عمري) فكان لها حظَّ الحبِّ والطلبات الأوامر. لم يكن من ميرفت إلى أن احتضنتْ بناتها وهي تبكي: "بابا راح على الجنة يستنى فينا كلنا"، وأمَّا بالسؤال عن رمزي، فكانت تجيبهم بأنه سيأتي بعد ساعاتٍ ليحتضن رائحة المسك من أبيه.

5-2.jpg

مضتْ أيام العزاءِ، وكأنَّها حلمٌ طالت تفاصيله، لكن لم يكن أمام ميرفت خيارٌ سوى النهوض، والمُضي في المسير الذي بدأه الشهيد سمير، فأصبحت هي الأم والأب والصديق لأبنائها، تُقبِّلهم كلَّ صباحٍ قُبلتين؛ واحدةٌ عنها والأخرى عن الحبيب الراحل، تطبطبُ عليهم، وتروي لهم حكايات الصمود والصبر قبل النوم، وتُعلِّمهم كنز الدعاء لوالدهم وأخيهم عند كلِّ سجدة.


اقرأ أيضًا: خلاط في السجن: عن أمنيات شاب عشريني


كانت تعتقد ميرفت أن اعتقال رمزي سيكون مسألة أيامٍ وتنتهي، وربما هو اعتقالٌ "روتيني" كما يفعل الاحتلال بين فترةٍ وأخرى، لكن الحقيقة كانت خلافَ ذلك، فمنذ لحظةِ الاعتقال الأولى رفضتْ إدارة السجن دخول أي محامٍ لمقابلة رمزي أو النظر في قضيته، وتحوَّل ملفه إلى "اعتقال إداري". كانت أيام التحقيق الأولى بمنزلة تعذيبٍ نفسي لرمزي: "كيف حال أهلي؟!"

اعتقال الابن واستشهاد الزوج

"لستُ الأولى في هذا الطريق ولستُ الأخيرة أيضًا"، كانت هذه المواساة لا تنفكُّ عن لسان ميرفت من بداية الحديث إلى آخره، فبعد استشهاد سمير، واعتقال رمزي، تغيَّرت أمامها الكثير من المفاهيم، ففي كلِّ مرةٍ تسمع عن استشهاد زوجٍ أو اعتقال ابن، تتمنى لو تجري نحوهم جميعًا لتحتضنهم من جمر الشعور.
 
لم تنتهِ الحكاية بعد، فاليقين الذي يملأ قلب ميرفت يومًا بعد يوم بأنَّها تحملُ أمانةَ أبنائها أصبح مُلازمًا لها كعهدٍ متين بينها وبين الشهيد سمير.

 كان يُدرِك رمزي في تلك اللحظة أن أحدًا من أفراد عائلته قد أُصيبَ بالرصاص دون أن يعرف تفاصيل الحدث. استغل المحققون هذا "التخبُّط"، فمرةً يخبرونه باستشهاد والده، ومرةً ثانية يخبرونه باستشهاد عمه، ومرةً يساومونه على الاعتراف مقابل أن يخبرونه الحقيقة. لقد وُرِي جسدُ الشهيد سمير بالتراب، وذبُلَ جذع نخيل العزاء، ورمزي لا يعرف حقيقةَ استشهاد والده، إلى أن وصلهُ الخبر اليقين بعد أسابيع: "لقد استشهد والدك يا رمزي".

جاء ذلك الخبر في اليوم المُقرر فيه مُحاكمة رمزي، ذلك اليوم الذي كان يتمنى عجلته ليرى أمه وأباه من بعيد، يلوِّح لهما ويسمع دعاءهما ثانيةً. لكن لم يكن له من تلك الأمنية شيء، فبعد 35 يومٍ من الانتظار، أُجِّلتْ مُحاكمته، ليعيش في غياهبِ المجهول أيامًا أُخَر.

4-3.jpg

"كلّ شيءٍ تغيَّر، أعرفُ هذا ولا أنكره"، تقول لي ميرفت وهي تستذكرُ تفاصيل الحياة مع الشهيد سمير، فكانت بعادتها كلَّما استعصى عليها قرارٌ أو أمر، تذهب إلى زوجها تسأله، حتَّى في اليوم الذي عادتْ إلى أطفالها لتخبرهم باستشهاد والدهم، كانت تنتظر أن يأتي سمير ليخبرها ما يجب عليها فعله!


اقرأ أيضًا: سيما متولي: خلسة العيش بعيدًا عن قبضة السجان


"لستُ الأولى في هذا الطريق ولستُ الأخيرة أيضًا"، كانت هذه المواساة لا تنفكُّ عن لسان ميرفت من بداية الحديث إلى آخره، فبعد استشهاد سمير، واعتقال رمزي، تغيَّرت أمامها الكثير من المفاهيم، ففي كلِّ مرةٍ تسمع عن استشهاد زوجٍ أو اعتقال ابن، تتمنى لو تجري نحوهم جميعًا لتحتضنهم من جمر الشعور، تقرأ على قلوبهم آيات الصبر والسلوان، تخبرهم بجبر الله لقلوبهم.

لم تنتهِ الحكاية بعد، فاليقين الذي يملأ قلب ميرفت يومًا بعد يوم بأنَّها تحملُ أمانةَ أبنائها أصبح مُلازمًا لها كعهدٍ متين بينها وبين الشهيد سمير، تخبره به كل صباح وتكتبه له كقصيدةِ شوقٍ على صفحتها: "اشتقتُ إليكِ، وكلَّما فاضَ بيَ الحنين، احتضنتُ أبناءنا، وأخذتُ العهد عليَّ أن أجعلهم فخرًا وشرفًا لاسمك يا سيد الرجال".