لو دخلنا مطعمًا أو حفلة بغرض المراقبة لا المشاركة وأحصينا مَن يلتقطون الصور، فسنجد أن المعظم يرفعون جوالاتهم ليصوروا أنفسهم أو يخفضونها ليصوروا طبقًا لذيذًا، هل أنا بصدد انتقاد الظاهرة؟ كلا، فلستُ ممن لا يلتقطون الصور، لكنني أحلل أسبابها وأتعمّق فيها، فلو بدأنا حديثنا بالسؤال عن سبب انتشار التصوير في السنوات الأخيرة لفضّلت الإجابةَ بأن عصرنا يفرض ذلك.
عصرنا عصر المرئيات
بعد تعدد تطبيقات التواصل التي تتيح رفع الصور والفيديوهات أصبحت حياتنا معتمدة على الصورة بشكل رئيس، لا يمكن أن تقدمي إعلانًا بدون صورة للمنتَج وبدون تصميم إبداعي يجذب المستهدَفين بمنتجك، ولأن الاحتفاء بالأعمال اليدوية وسيلة ذاتية لكسب الرزق ظهر مجددًا في زماننا الحالي، فإن حاجة المبدِعَة لتصوير أعمالها بشكل احترافي ومرغِّبٍ ساهمت في زيادة حاجتنا وإقبالنا على التصوير.
اقرأ أيضًا: المرأة الفلسطينية: حكاية ترويها الصورة
فالمثل المعروف "العين بتاكل قبل الفم" يطبَق الآن على نطاق أوسع، إن شئتِ لفتْ النظر سواءً بالسلب أو الإيجاب ، عليك إتقان أبسط أساسيات التأثيرِ عبر الصورة، هواتفنا الذكية لا تقصر في هذه الناحية، وإن أضفنا لبراعة الهاتف عينًا فنية تعرف كيف تنتقي اللونَ والجو واللحظة جيدًا، فقد قطعنا مسافة لا بأس بها في طريق النجاح في التسويق لمعظم أعمالنا.
"العين بتاكل" مثل يشرح الرغبة الإنسانية في تجميل الطبق الذي نقبِل عليه،و كلما ارتقى الإنسان في سلمه الحضاري ازداد حبًا لمظهر الطعام قبل نكهته نظرًا لأهمية العامل النفسي في الإقبال على الأشياء، ولهذا فالمثل ينطبق اليوم على كل شيء، لا على أطباق الطعام فحسب.
الجميع مصورون
كثيرًا ما نتصفح مواقع التواصل لتصادفنا انتقادات لتهافُتِ الجميع على التصوير، فكما يتساءلون: لماذا أصبح الجميع كُتابًا يتساءلون لماذا أصبح الكل مصورين، والحقيقة أن الثقافة الفنية والبصرية ارتفعت سويتها لدى الأكثرية وباكتساب هذا النوع من المعرفة وسهولة التصوير الشخصي -إلى حد ما- لم يعد هناك من يجد مانعًا في أن يطرح صورًا التقطها بنفسه معلِقًا عليها: بعدستي، وذلك ليس عيبًا بحد ذاته، فقد سبق وأن أوضحنا الاهتمام المتزايد بتجميل الأشياء وحب معظم الناس لتوثيق لحظاتهم بأنفسهم.
فقلّما أخرج وتخرجين دون أن يمتلئ الهاتف بعد عودتنا بصورٍ للسماء أو غروب الشمس أو البحر أو أيادي الصديقات المتشابكة، وبالطبع تفوز فناجين القهوة والكتب المجاورة لها مع اقتباسات منها بأكثر الصور إلتقاطًَا، لا أرى هذه مشكلة بحد ذاتها، ففنجان القهوة الصباحي والحلوى التي نتناولها في المساء أشياء جمالية تستحق الإلتقاط، بالذات للمهتمين بكتابة مذكراتهم وتنسيقها باضافة الصور إليها سواء ورقيًا أو إلكترونيًا.
ولو تمعنّا في هذه العادات فلن نعدها عادات حديثة أو غريبة بالكلية، فتزيين الرسائل بالطوابع وإرسال الصور لبعضنا وحتى الرسائل نفسها كانت سائدة سابقًا أيضًا، لكن الفارق الآن هو أنها أصبحت ركيزة أساسية في الجذب والتوثيق، وأن سهولتها وضعتها في متناول عدد أكبر.
ما المشكلة في التصوير إذن؟
السلبيات في النشاطات البشرية جوانب طبيعية، بل هي من تجعل النشاط بشريًا وإنسانيًا، فلا بد من ثغرة أو قصر والكمال هو المستغرَب.
| الغرور والإفراط في إظهار تفاصيل معينة: السلبية المعروفة لموضوع انتشار التصوير الذاتي والتي بوسع الجميع تخمينُها هي مشكلة التشاوف والغرور والإفراط في إظهار تفاصيل معينة إغاظةً لفلان أو إثباتًا لمثالية مزيفة، المشكلة تبرز عندما يزيف الناس حياتهم ليظهروا صورًا توحي بحالة مادية مترفة ،بحيث يصرفون الكثير لالتقاط صورة فحسب، فيعيشون ليصوروا بدلًا من أن يصوروا ما يعيشونه بشكل تلقائي.
| كآبة مواقع التواصل الاجتماعي: الافتعال مشكلة كبيرة والمشكلة الأكبر هي الكآبة التي قد تصيب متابعيهم من ذوي الأحوال المادية والإجتماعية الأقل حظاً، فقد أفرزَ لنا التصوير كآبة تدعى كآبة مواقع التواصل، ومحاولاتٍ عبثية لرفع مستوى حياتنا إلى مستوى حياة المشاهير والرحالة، وهنا لا بد من التوضيح أن الحياة التي نراها في صور مواقع التواصل ليست بالضرورة أنها الحياة الحقيقية لأصحابها. وثانيهما أنه ولو كانت حياتهم كذلك فلا بد من أثمان أخرى يدفعونها كضريبة على رفاهيتهم وتلك قاعدة دنيوية بديهية .
اقرأ أيضًا: بعيدًا عن الصورة النمطية للجمال.. استمتعي بتفاصيلك الخاصة
| الاطلاع على ما لا يشبهنا والمقارنة المفرطة: ومن مساوئ هذه المواقع أنها تعرض علينا كل شيء في العالم ومن كل الثقافات رغم أنه قد لا يناسبنا أو يشبهنا، فلعلّ الوعي والمقدرة على النظر إليهم بشكل منفصل عن ذواتنا الخاصة ومتابعتهم، ونحن مدركون لاستقلال حياتنا عن حياتهم هي شروط السلامة لمن يود الاطلاع على عوالم كهذه دون المعاناة من فجوة بين الكائن والمتوقَع.
تلك مشكلة أظنها معروفة، أما الثانية، فهي أنني أخشى أننا لم نعد نستطيع إمضاء حياتنا بشكل طبيعي، ولم يعد بمقدرونا تصور لحظاتنا الجميلة وحتى الحزينة دون توثيق وتصوير.
ما دوافعنا النفسية وراء إدمان التصوير؟
هل هو حب الجمال الذي يتنامى داخلنا؟ أظن الأمر أعمق وله جذور نفسية متعلقة بصدماتنا وقسوة السنوات الأخيرة على معظمنا.
| الخوف من الفقد: توثيق اللحظات هو خوف من هروبها ومحاولةٌ لتثبيتها في صورة لإثبات أنها حدثت، مما يعني أننا نعاني خوفًا من الفقد، نصور بكثرة لإدراكنا أن الحياة لا تُبقي علينا وعلى الأشخاص والأشياء كما هي، فالواحد منا لم يعد يصور مشهدًا جماليًا فحسب، بل يحاول أن يجعل من الصور ذاكرة حية ووسيلة للرجوع بالزمن عندما تتغير المراحل وتنفضّ الجموع، هي وسيلة تأمين، حتى لو لم نرجع للصور التي التقطناها نودّ أن نطمئن لحظةَ حدوثها أنها محفوظة ومصونة.
اقرأ أيضًا: لماذا عليك تدوين جملة واحدة يوميًا؟
هل من حل؟ في الحقيقة لا، رغم أن جمالية الحياة أحيانًا تكمن في أن نُطلِقَها ونتركها تمضي، لكننا نخشى أن ذاكرتنا وحدها لن تكفي للاحتفاظ بالحدث فنندفع لنصور، ورغم ذلك، دعينا ولو لمرة نخرج إلى نزهةٍ ما دون القلق من توثيق اللحظة، دعينا لمرة ننحّي الهاتف جانبًا لأننا صرنا نصور اللحظة لنعيشها لاحقًا بدلًا من أن نعيشها الآن، والنتيجة أننا لا نعيشها الآن ولا لاحقًا، فلا بأس من ترك العقل والقلب يتذكران أحيانًا، لا بأس من الثقة بهما وتركهما يشعران ويختبران المواقف مع إراحة ذاكرة الهاتف لمرة واحدة.
