بنفسج

حديث على أطلال أعياد مضت

الجمعة 21 ابريل

تسيرُ بالقرب من حديقةٍ وتشتم رائحة العشب المبتل بالندى، وفجأة! تتذكر صيف الطفولة الذي كنت تمضيه راكضًا تلهو خلف بائع الحلويات، غريب كيف تستطيع الروائح جلب المكان إلى الزمان. هذا ما يحصل معي دومًا عندما أشتمّ رائحة صفحات كتابٍ جديدٍ تمامًا، أتذكر مقتنياتي المدرسية الجديدة التي كنت أجهزها في نهاية الصيف عندما كنت طفلة صغيرة، يمكنني حتى أن أشعر بالنسيج الناعم على ذراع الكنبة المفضّلة عندي، وأشعر بهدوء منزلنا القديم الذي دمرته الحرب.

ليس هذا ما أشعر به أنا فقط بل كل البشر على حد سواء، وهذا ما يسمى باللحظة البروستية التي تحدث عنها الأديب مارسيل بروست Marcel Proust، فقال يحدثنا في أحد كتاباته عن الكعك الشعبي: أنه كان يشعر بالإحباط واليأس الشّديدين، فحظي ذات يوم بفنجان قهوةٍ مع قطعة من حلوى المادلين، وفجأة أخذه الطعم بعيدًا إلى سنوات صغره في الريف الفرنسي، ومن هنا جاء مصطلح اللحظة البروستية a Aproustian momemt، وهي لحظةٌ من المفاجأة غير الطّوعية، ومن التذكر الشديد ينبثق الماضي فيها فجأة دون استدعاء من رائحةٍ أو طعمٍ أو ملمس تعلمنا أنّ الحياة ليست تافهة بالضرورة، أو دون متعة نحن فقط ننسى أن ننظر إليها من الزاوية الصحيحة، ننسى معنى أن نكون أحياء، أن ندرك أن الحياة ليست رتيبة بقدر الصورة المتخذة عنها.

إن الانتماء الحقيقي للسوري هو انتماؤه إلى مدينته، حمص مدينتي، أحبّ أن أسميها عاصمة الكرة الأرضية، كل شيء في حياتي مرتبط بهذه المدينة طفولتي وذكرياتي ودراستي وأعيادي، مدينتي التي مزقتها الحرب، هي حمص العديّة التي في العيد كانت تتزاحم في أسواقها أقدام النساء والرجال والأطفال.

مهما تقلبت الظروف وتبدّلت الأحوال لايزال للأعياد طقوسها الخاصة في عالمنا العربي من شراء الملابس وصنع الحلويات وزيارة الأقارب، هنا في سورية حيث فعلت الحرب فعلتها، ففرّقت بين الأحبَة وهجّرت الملايين من السوررين، لا يزال الكثير من السوريين يحتالون بخفةٍ وبراعةٍ على الألم، فيحاولون قدر الإمكان الابتعاد عن أي سببب قد يعكر صفو ومزاج العائلة.

إن الانتماء الحقيقي للسوري هو انتماؤه إلى مدينته، حمص مدينتي، أحبّ أن أسميها عاصمة الكرة الأرضية، كل شيء في حياتي مرتبط بهذه المدينة طفولتي وذكرياتي ودراستي وأعيادي، مدينتي التي مزقتها الحرب، هي حمص العديّة التي في العيد كانت تتزاحم في أسواقها أقدام النساء والرجال والأطفال. اليوم أصبحت حمص مدينة الركام مع محاولاتٍ شعبية بائسة لإنارة شارعٍ أو تزيين آخر، ومئذناتٍ باكية تشتاق أن تكبر للعيد فتحيي نبض هذه المدينة.


اقرأ أيضًا: صانع البهجة: العيد أم نحن؟


اليوم لم يعد لمعمول العيد تلك البهجة، وأعتقد أن المعمول بريءٌ من أي اتهام، فلا زالت والدتي حفظها الله لنا تحضره بنفس المقادير، لكنها عربة الأيام التي مرت، فما أن أتناول أول كسرة منه حتى أتذكر العيد في الماضي، العيد الذي كان ينتظره الجميع بشغف ودهشة، وتجول بخاطري الأيام التي تسبق العيد فتلك حكايةٌ أخرى كان النوم يجافينا من شدة الفرح، فتصيبني نشوةٌ للاحتفاء بقيامة ما مضى.

وأما في هذه الأيام ومع هذا التطور التقني ووفرة وسائل الاتصال أصبح التواصل بين الناس إلكترونيًا في معظمه لا سيما الرسائل المنسوخة، ما أن يضغط أحدهم "عيد مبارك"، ثم تحديد الجميع ومن ثم إرسال، حتى يعتقد أنه قد قام بواجبه، وهذا ما أدى إلى إلغاء العديد من معالم العيد، والذي أعتقد أنه إذا لم يكن يُعنى بالمرتبة الأولى بالناس الوحيدين والمعزولين والمنسيين والعجزة، فهو غير سعيد حتى إشعار آخر.

وأظن أن القاسم المشترك بين طقوس العيد في الماضي والحاضر هو زيارة المقابر كجزء من استذكار الموتى. أعيادنا اليوم للأسف فقدت دهشتها، وصار الأولاد ينتظرونها فقط ليرتدوا الأثواب التي بالكاد استطاع أهاليهم شراءها لهم بسبب التضخم النقدي الحاصل في البلاد، بل حتى إن الأعياد أصبحت تشكل عبئًا اقتصاديًا على الأسر بسبب المبالغة والرغبة بإبهار الآخرين ومظاهر الترف. غريبة هي الحياة وغريبة هي البلاد مزيجٌ من الأضداد ابتداءً من وصل وقطع التيار الكهربائي، وانتهاءً بالرغبة بصنع المعمول بنصف ساعة كهرباء كل ست ساعات.

اقرأ أيضًا: "بدنا نروح ع العيد": عن الترويحة في المخيال الفلسطيني


لعلّ من أهم مقاصد العيد النبيلة والعظيمة كسر رتابة هذه الأيام، حيث أن النفس البشرية تتطلع دومًا على تغيير ما اعتادته من أعمال، بل وهو فرصة لتتعافى القلوب وتوصل الأرحام، فهل أصبح رمز العيد بعض المفرقعات النارية؟ ونشاطاتٍ دارجة غير مثمرة؟ وإيموشناتٍ تسخّف أعظم المشاعر الإنسانية؟

لا يمكننا أن نلوم بعضنا البعض على الحال التي آل إليها العيد، بل يجب أن ننظر إلى مجموعة الظروف والعلل التي جعلت منه عيدًا باهتًا مهما حاولنا تجميله بحذلقاتٍ لغوية، رهيبة هي قدرة الإنسان على التأقلم، لربما هي استجابة للتغيير في هذا العالم ذو الإيقاعات السريعة، المحاط بمختلف الأزمات.