بنفسج

عامٌ على المكتبة: تجربة أم

الجمعة 12 يونيو

مرّ عامنا الأول مع طفليّ شام وإبراهيم، حيث كنا نخصص يومًا واحدًا أسبوعيًا نزور فيه المكتبة، فنقضي وقتًا ماتعًا في رحابها، إلى جانب القراءة والتفاعل مع الأطفال. أحببت أن أشارككم التجربة، بتسليط الضوء على بعض جوانبها التي استفدت شخصيًا منها في مسيرتنا المتواصلة للقراءة، ونحن نقف على بداية خوض التجربة للعام الثاني على التوالي.

بدأت في حقيقة الأمر، أقرأ لطفلتي شام في عمرها الثالث، لم أكن حينها أعلم شيئًا عن موضوع القراءة للأطفال، وأذهلني أن هناك أمهات يقرأن لأبنائهنّ منذ اليوم الأول للولادة، عدا عن الدراسات التي تشجّع على موضوع القراءة للأطفال. وهنا، رغم أنه فاتتني 3 سنوات لم أقرأ فيها لطفلتي، قلت "أن أبدأ متأخرة خيرٌ من أن لا أبدأ"؛ وفعلًا بدأنا بقراءة القصص؛ وعندما أصبحت شام في عمرها الرابع قررنا الذهاب للمكتبة سويًّا، كأن نخصص يوم العطلة لذلك.

كما تقول ماريا منتسوري:"وظيفة الطفل هي اللعب"، فليس منطقيًا أن يجلس كما الكبار فقط يقرأ ويأخذ ما يشاء من القصص.

 في البداية، لم تكن شام تكترث للقراءة عند دخولها المكتبة، فقد كان كل ذهنها مرتبط باللعب، حيث كانت المكتبة توفر بعض الألعاب التعليمية الخاصة بالأطفال، وبهذا كان حبّ شام للمكتبة يرتبط بوجود الألعاب أكثر من فكرة القراءة بحد ذاتها. في الحقيقة كانت تقلقني هذه الفكرة، ولكن بعدما كنت ألحظ استمتاعها، وبحثتُ أكثر حول الموضوع، وجدت أنه من الطبيعي جدًا أن يتعامل الطفل مع المكتبة والقراءة على هذا النحو.

 فكما تقول ماريا منتسوري: "وظيفة الطفل هي اللعب"، فليس منطقيًا أن يجلس كما الكبار فقط يقرأ ويأخذ ما يشاء من القصص. فأحيانًا كثيرة كنا نذهب لمشاركة الأطفال الآخرين بالرسم واللعبّ، ولم نكن نقرأ شيئًا ما، وأحيانًا أخرى، نتصفح الصور ونجري حديثًا بعيدًا عن جو القصص، ونادرًا ماكنّا نقرأ فعليًا؛ وكلّ هذا بنظري كان يعزز خطواتنا إلى عالم القراءة.

جاءت فكرة الذهاب للمكتبة عندما كنت أواجه ارتفاعًا في أسعار قصص الأطفال، في ذات الوقت كنت أحرص على أن يطلع طفليّ على القصص المتنوعة، دون إنفاق المال بصورة مبالغ فيها، فوجدت أن المكتبة فرصة جميلة للحصول على ما شئنا من القصص برسوم رمزية جدًا على مدار العام، عدا عن الفوائد العظيمة التي حظينا بها بزيارتنا لهذا المكان.

والذهاب للمكتبة، علمّ طفلتي مهارات عديدة من بينها؛ التفاعل الاجتماعي مع الآخرين ويندرج في نطاقه إلقاء التحايا بلباقة، واللعب معهم بصورة ممتعة، ويصل إلى إقامة صداقات "مكتبية" لطيفة. عدا عن مهارة الاختيار؛ والتي تمنح الطفل ذكاءً لاختيار القصة ضمن عدد محدود من القصص، فقد كنّا نواجه دائمًا تحدي الاختيار إذ تحمل طفلتي ما يقارب الــ10 قصص والمسموح للاستعارة أربع، فنبدأ بعملية التقليص تدريجيّا بناء على مشاورات بيننا إلى أن نصل للعدد المسموح، وبعد مدة أصبحت شام تستطيع الاختيار ضمن المسموح دون الحاجة إلى "الغربلة" والفرز.

 الأكثر جمالًا، أن زيارة الكتبة توطّد علاقة الأم بطفلها، كما وينمّي هذه العلاقة الحميمية، لا سيما عندما يشعر الطفل بأن أمه تقيم وزنًا لاهتماماته، وتضع الذهاب للمكتبة بعين الاعتبار ضمن جدول يومها الأسبوعي، وبهذا يشعر الطفل بأن له اعتبار ومكانة وأنه مهمّ في أسرته. عدا عن الكثير من الأمور التي كنت شخصيًا أتحدث بها مع ابنتي في رحلتنا هذه، والتي قد لا نتطرق لها عند وجودنا في البيت، لكون الاختلاط بالمحيط قد يعلّم الطفل أكثر من أي كتاب. فالعديد من المواقف الصادرة عن الاخرين في المكتبة أو في الشارع كانت تسألني عن سبب ارتكابها، فكان تعلمها بصورة شبه ذاتية.

 كنّا نختار القصص بناء على عدة معايير من بينها الاستمتاع، وهذا بنظري أهم معيار، كأن تكون القصة ملفتة للطفل من حيث ألوانها وصورها وموضوعها، ففي أوقات كثيرة لم تكن طفلتي ترغب باقتناء قصة ما، وكنت فعلًا أحترم قرارها وأقوم باستبعادها. عدا عن معيار هدف القصة كالتركيز على فكرة السلوكيات، بحيث تحمل القصة مضمونًا هادفًا يقوم على فكرة تقويم سلوك، أو زرع فكرة ما في الطفل؛ لاسيما أنه كلما واجهتني مشكلة مع شام كنت ألجأ للقصة لحلّها، وكي تقتنع تمامًا بضرورة اجتناب تصرف ما أو تنميته.

بالإضافة إلى معيار التنوّع، فقد كان متاحًا لنا باختيار 4 قصص فنختار قصة ذات علاقة بالتصرفات والسلوكيات والتي كان آخرها "الأرنب العنيد"، وأخرى تفاعلية تقوم على الرسم والكتابة، والتي كان آخرها "قصة تحتوي الجانب الأول منها نصًا والأخر تركيب بازل" لذات الصورة. وقصة علمية متعلقة بجسم الإنسان أو شيء ذات صلة بالعلوم، وقصة عن الطبيعة كسلسة فراشة التعليمية التي استعرنا منها مؤخرًا عن موضوع " المطر" و"الخشب" في الطبيعة.

 بنظري ليس هناك قصة سيئة، بل سرد سيء، ففي بعض الأحيان كانت تختار طفلتي قصص تنتهي بزواج الأمير من الأميرة، وشخصيًا لا أحبذ هذا النوع من القصص، فكنت أثناء القراءة أغيرّ من نص القصة وأختلق آخر بشكل يتواءم مع الصورة وكنت أنهيها بفكرة جميلة ومفيدة. وتكون طفلتي في غاية الاستمتاع كذلك. وينطبق على اختيار قصة أكبر سنًا لم أقم بحجبها عن طفلتي، بل بمحاولة تبسيط فكرتها قدر الإمكان.

 أخيرًا، هناك نقطة أودّ الإِشارة لها في هذا السياق، لا تصدقوا من يقول لكم أن أمّة اقرأ لا تقرأ- ربما كان هذا قديمًا- ولا تستمعوا للحوارات التي تطعن شيئًا فينا لكون أفراد العالم الأوروبي الأكثر قراءة. نحن اليوم نتجه إلى مجموعة من التحولات في العالم العربي من بينها القراءة وإنتاج المعرفة. فعلى مدار الخمس سنوات لم أشهد مكتبة الأطفال بهذا الاكتظاظ من الأطفال القراء- تحديدًا- ولم ألحظ وجود أمهات يصطحبن أطفالهنّ للقراءة في مثل هذه السنوات. عدا عن الإنتاجات القصصية الرائعة والجميلة للأطفال بأيدٍ عربية، والتي أراها تتجدد في كل مرة أذهب فيها للمكتبة.

من شبّ على شيء شاب عليه، وليس هناك أعظم من أن يشيب أطفالنا على القراءة ولو كانت بصورة قليلة، فالمهم أن يكون ذلك موجود في حياتهم، لا تنظروا إلى الآباء الذين يختمون 500 قصة سنوية لأبنائهم، النور الحقيقي لعالم القراءة يكمن في البدايات، فتلك ولادة الفكرة وبعدها سيتكفلّ الله بالرعاية مادام الإخلاص لله موجودًا.