بنفسج

لماذا نتمسك بمشكلاتنا؟ إغراءات دور الضحية

الثلاثاء 06 يونيو

لو سألتكِ إن كنت تفضلين الصحة النفسية والعافية البدنية على المرض والاضطراب، فلا شك أنك ستعتبرين سؤالي غريبًا، فلا أحد سيختار المرض أو الاضطراب، عندما يُخيَر بينهما، وبين الصحة وراحة البال. هذه هي الإجابة المنطقية، لكنّ كثيرًا من أفكارنا البشرية مجانِبة للمنطق، وأنا هنا لأفنّدَ فكرةً جدلية تنفي جدّيةَ بعضنا في التعافي، خاصة التعافي من السلوكيات الخاطئة أو الاضطرابات النفسية.

لماذا يتحاشى البعضُ الكشفَ أو علاجَ مشكلاته النفسية؟

 
يعتبر تشخيص الاضطراب النفسي، بمختلف أشكاله، غير متقبل في مجتمعنا كالأمراض الجسدية الأخرى، بل إن البعض منا يعتبره مسًا من الجنون، أو أن مريضه ضعيف الإيمان، وتفسيرات أخرى تعبّر عن عدم تقبل المرض. 
 
 لكنّ هذا السبب _على أهميته_ ليس السبب الوحيد، فكثيرون تخطّوا عقدةَ نظرة المجتمع، وكثيرون لا يبالون بأحد، ومع ذلك نجدهم لا يقبلون على العلاج.

حقيقةً، لا يمكن التوسع في أسباب ذلك لأنني أعتبرها أسبابًا متشعّبة، لكنني سأذكر الأسباب التي أظنها جديدة ولم تتناولها المقالات؛ إذ يعتبر تشخيص الاضطراب النفسي، بمختلف أشكاله، غير متقبل في مجتمعنا كالأمراض الجسدية الأخرى، بل إن البعض منا يعتبره مسًا من الجنون، أو أن مريضه ضعيف الإيمان، وتفسيرات أخرى تعبّر عن عدم تقبل المرض. لكنّ هذا السبب _على أهميته_ ليس السبب الوحيد، فكثيرون تخطّوا عقدةَ نظرة المجتمع، وكثيرون لا يبالون بأحد، ومع ذلك نجدهم لا يقبلون على العلاج.

في الحقيقة، يتحاشى البعض العلاج لظنّهم أن بيئتهم يصعب تغييرها، وأنه ما من علاج حقيقي دون إصلاح البيئة، وبما أنها لن تتغير، فلا داعي لبذل الجهد والوقت والمال لتصحيح مشكلةٍ لن تتصلح من الجذور؛ فاليأس أشد وطأة من نظرة المجتمع. وعدم القدرة على الأخذ بنصائح العلاج هو ما قد يمنع البعض من الإقدام عليه.

سنتساءل: كيف يتابع هذا الصنف حياتهم؟ الأمر تابع لشدّة المشكلة ونوعها، فبعض المشكلات تنغص الحياة دون أن تستولي على وعي صاحبها وإدراكه، وعندها فإنه يتابع الحياة بأدنى مستويات الصحة النفسية مُجادلاً بأنه عمر قصير علينا إنهاءه والرحيل.

أما عندما تتفاقم المشكلة والاضطراب أو يتغير نوعهما ليؤثر على المناحي العقلية للمصاب بهما، فهو على الأغلب لن يكون قادرًا أصلًا على اتخاذ قرار العلاج، ويصبح ذلك الأمر بيد المعتنيين به. كما أن إنكار وجود المشكلة من أساسها ورميها على عاتق الظروف والآخرين، يؤخر التحاق المصاب بأيّ فعالية علاجية، لأنه لا يرى المشكلة أو لا يود رؤيتها. أما السبب الثاني العميق وراء رفض البعض للتعافي، فهو ما أود التركيز عليه بتفصيل أكبر.


اقرأ أيضًا: كيف أساعد نفسي لتخفيف أعراض الاكتئاب؟


قد يبدأ البعضُ علاجَهم، ويتوقفون فجأة لأسباب غير مادية وغير متعلقة بمرشديهم ومعالجيهم أو مَن حولهم، في هذه المرحلة الحاسمة يكون السبب أنهم أدركوا ما ينتظرهم بعدَ التعافي والعودة إلى مصافّ المسؤولية، فيتوقفون عن العلاج بسبب اعتيادهم على المشكلة، ولعجزهم عن متابعة حياتهم كأشخاص مسؤولين بعدما كانوا لمدة طويلة في خانة الضحايا والاعتماديين.

ما هو المُغري في دور الضحية؟

الضحية3.jpg
في العادة تمنح المشكلة صاحبها قدرة على الابتزاز العاطفي فيستفيد من وضعه النفسي ويتعود على الكسل 

ما الذي يجعل المشكلة النفسية رغم ضغوطاتها عزيزة على المصاب بها؟ ما يجعلها كذلك هو المكاسب التي تنتج عنها أو عن أي مرض نفسي أو جسدي، قد يكون هذا مفاجئًا، إلّا أن المشكلات لها مكاسبها وفوائدها.

| الابتزاز العاطفي: تمنح المشكلة صاحبَها مقدرةً على الابتزاز العاطفي وإثارة شفقة الآخرين والتحجج بالمشكلة للحصول على ما يرغب به. تعوّد المشكلة صاحبها على الكسل والراحة وعلى الاستفادة دون جهد، مما يجعله، وهو في وضعه النفسي والعقلي المتذبذب، زاهدًا بأي محاولة بذل جهد ما دام يستطيع تحقيق مكاسب مساوية تقريبًا بلا تعب.

| تحميل العمل للغير: ليس المعنى أنه لا يتعب على الإطلاق، لكن نوعية التعب تختلف، فهو لا يخطط ويضع أهدافًا ويكافح وينتظر، بل ينحصر تعبه في ترقيق قلب هذا ولفت نظر ذاك، ورمي حِمل العمل الفلاني على زميلٍ ما لأنه غير قادر على القيام به.


اقرأ أيضًا: الابتزاز العاطفي: ماذا إذا تلاعب بنا الأحبة؟


| الإرهاق النفسي: التنبيه المهم جدًا هو أن من يفعلون ذلك ليسوا أشراراً بالضرورة، وليسوا مُؤذين للآخرين، قد يحدث أن يكونوا كذلك، لكن ليس الجميع، إذ أن أغلبيتهم يكونون مُحطَمين ومحبطين ومكتئبين، ويظنون أن من حقهم تلقي الدعم بهذه الطريقة. وجزء من اعتقادهم صحيح بالفعل، فمن واجب المحيطين بأصحاب المشكلات أن يحتووهم ويمنحوهم الدعم الكافي، أما المعضلة فتبدأ عندما يستمر الاعتماد بحيث يصبح الدعم غاية لا وسيلة مؤقتة، ريثما يقف المضطرب على قدميه.

وعندها قد تتطور التماساتهم لتوصَف بأذية الآخرين وابتزازهم عاطفيًا، فلا تؤذي الاضطرابات النفسية صاحبها وحده، كما أن هذا النوع من الابتزاز لتسيير الحياة والحصول على المآرب بشكل متكرر ودائم يُعَد اضطرابًا بحد ذاته.

ما الذي يتغير عندما يتعافى المريض ويصبح وصف الضحية غير منطبق عليه؟ التعافي والعودة لمصافي الأسوياء نفسيًا يرتبط بعودة الشخص لأهليّته ومسؤوليته عن أفعاله، فلن يكون بمقدوره تبرير خطأ ما بقوله إنه فعله بسبب مشكلته أو مظلوميته، مما يعني أن قدرته على التملص من عواقب أفعاله لم تعد واردة، وعليه أن يكون جاداً في ما يفعل.
 

كما أنه سيفتقد لمّة حميمية مبالغ بها كانت تحوطه خوفًا عليه، ولم تعد لازمة الآن بنفس الدرجة لأنه تعافى، ولأن الآخرين أيضًا لديهم التزاماتهم ومشكلاتهم، وهو في بداية تعافيه يظلّ متعلّقاً بمن قدموا له الدعم ومطالِبُا به دون أي نقصان.

بناء على هذه المكاسب، ما الذي يتغير عندما يتعافى المريض ويصبح وصف الضحية غير منطبق عليه؟ التعافي والعودة لمصافي الأسوياء نفسيًا يرتبط بعودة الشخص لأهليّته ومسؤوليته عن أفعاله، فلن يكون بمقدوره تبرير خطأ ما بقوله إنه فعله بسبب مشكلته أو مظلوميته، مما يعني أن قدرته على التملص من عواقب أفعاله لم تعد واردة، وعليه أن يكون جادًا في ما يفعل، لأنه أصبح من جديد محاسبًا عليه أكثر من ذي قبل.

كما أنه سيفتقد لمّة حميمية مبالغ بها كانت تحوطه خوفاً عليه، ولم تعد لازمة الآن بنفس الدرجة لأنه تعافى، ولأن الآخرين أيضًا لديهم التزاماتهم ومشكلاتهم، وهو في بداية تعافيه يظلّ متعلّقًا بمن قدموا له الدعم ومطالِبًا به دون أي نقصان.

التعافي لا يسير صعوداً بخط مستقيم، بل تعتريه ذبذبات وانخفاضات، وهذا الشد والجذب ليس سهلًا، بل إنه تعب حقيقي يوازي إجهاد الاضطراب نفسه، ولأن رحلة التعافي مُرهقة، فقد يختار البعض مرضَهم الذي اعتادوا على خط سيره، بدلاً من التعافي الذي لا يألفونه ولا يعرفون متى سيكتمل.

وكذلك كما أسلفنا، فإنه سيصبح ملزمًا بالسعي والعودة لمضمار الحياة والكفاح والمحاولة والإنجاز الشخصي والمهني، وهو ما كان غائباً عنه خلال فترة مرضه. عندما يعي المضطرب هذه المسؤوليات، فإنه يهرب من التعافي ما لم يكن على قدر من النضج والثبات، وعندها يكون سؤالي في بداية حديثنا، سؤالًا واردًا لا ضربًا من الجنون، فالبعض قد يختار المرض دون قصد أو شعور منه أو حتى بقصدٍ وإرادة.

ولا ننسى الإشارة إلى أن التعافي لا يسير صعودًا بخط مستقيم، بل تعتريه ذبذبات وانخفاضات، وهذا الشد والجذب ليس سهلًا، بل إنه تعب حقيقي يوازي إجهاد الاضطراب نفسه، ولأن رحلة التعافي مُرهقة، فقد يختار البعض مرضَهم الذي اعتادوا على خط سيره، بدلاً من التعافي الذي لا يألفونه ولا يعرفون متى سيكتمل.

ماذا بعد التعافي؟

image-82.png
على المتعافي من أزمة أن يقيم علاقات مع من يشبهونه

| إقامة علاقات مع من يشبهونه: لكي يحصل المتعافي على نفس القدر من الدعم العاطفي بعد تعافيه مباشرة، ولمدة كافية، ريثما يتخلص من هذا الاحتياج أظن أنه من المفيد إقامته لعلاقات مع مَن يشبهونه ويوازونه في الحالة النفسية، فالخارجون من مشكلات حديثة والمتخلصون منها قادرون على فهمه أكثر من الملتصقين به، الذين ربما لشدة احتكاكهم به خلال فترة مرضه يُعدون في سويّة مقاربة له من الحاجة للتعاطف، وربّ مرافق مريض (نفسي أو جسدي) يحتاج هو أيضًا للتعاطف والمساعدة الجادّة لِما يطرأ عليه أثناء التماس مع المريض الأصلي.

| التسامح مع الذات وتقبل الانتكاس: والتغاضي عن العودة لبعض أخطاء المشكلة السابقة يساعد الشخص على إكمال تعافيه، ما يحدث غالباً هو أننا مع أول تراجع نعتبر أننا غير صالحين للمعافاة ونيأس، ونختار مرضنا مجددًا رغم أن الأميركيون بحاجة لبعض الصبر لا غير، فلا يدفعك تراجع أو نكسة واحدة إلى هدم بناء التشافي الذي ربما وصل إلى منتصفه.

| إشغال الذات: وترفيهها ومكافأتها ومنحها نقاهة مرحلية يفيد أيضًا، فبدلاً من النهوض لإنجاز فوري بعد انقطاع طويل، ستساهم النقاهة الخالية من التفكير والجهد في شحذ الهمة للبدء من جديد.


اقرأ أيضًا: عملية تهريب نفسية... فمن يكون المهرب؟


| التعبير عن المشاعر: وبالطبع فإن التعبير الصريح عن المشاعر وتوضيح ما يكابده المتعافي من صعوبات يُغنيه عن الاستناد الأعمى على الآخرين، إذا عبّر بوضوح عن استيائه فتقبّلوه وتفهموه سيمضي الأمر، أما إن وارب وفاجأهم برفضه للعلاج أو هاجمهم بدعوى قلة الاهتمام به فستأخذ مشكلته منحنى آخر، لذا فالبوح الواضح أفضل، وما لم يجد مستمعين، فتدوين المذكرات أو تسجيلها بأي طريقة يفضّلها الشخص هو الحل السحري البديل عن استماع الآخرين إن لم يتوفروا.

وبعد أن يعود أي مضطرب إلى صوابه سيدرك ألّا شيء يضاهي العافية أو يوازي المسؤولية، لأنّ تكريمنا الأساسي نحن البشريين واختلافنا عن سوانا يكمن في أننا مسؤولون وملزمون بالسعي والمحاولة.