بنفسج

الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن

الثلاثاء 30 مايو

أتساءل بم أبدأ كتابتي بعد غياب أعوام لم أكتب فيها شيئًا، هل سيكون الحرف مقبولًا كما كان؟ هل زادني العمر تجربة فازددت وعيًا لأنقله لك عزيزي القاريء، أم أنني أبحث عما يريحني من ثقل حمولتي، أرغب بتفريغها وتعبئتها من جديد بأحداث أجمل وبأناس اخترتهم وسيرهم الله لطريقي فكانوا البوصلة لي اليوم، بهم استطعت لملمة نفسي ومعرفة حقي وحدودي ومطالبي في الحياة.

تزوجت وكنت صغيرة يومها، أعامل الناس بما تعلمته من قيم وأخلاق، اعتقدت أنني سأنجو من شرور العالم بطيبتي وعفويتي، كنت أترك أخذ حقي لله فلم يحدث يومًا، وأن رددت إساءة أحد لمشاعري بلفظ واضح، ربما كنت أنتقد فعل السوء ولا أنافق بمدح كل شيء، لكني أذكر جيدًا أنني تعاملت ببراءة خالصة!

براءة الأطفال حين يقابلون بعضهم فيطبعون قبلة بلا سبب، أو ابتسامة وحضنًا تعبيرًا عن شوقهم، أو فرحًا واحتفالًا لأمر خير أصاب غيرهم أو حتى مشاطرة البكاء معًا والتأثر بالوجع والتعاطف معه. كثيرًا ما لمت والديّ بحزن لأنهم لم يخبروني عن الحياة أكثر، لم يقولوا لي أن أخذ الحق واجب كيلا يستهان بقلبك، دفعوني نحو حياة لست أعرف كيف أواجهها، فاستغلها الآخر بقباحة ودناءة.

أما عن المجتمع فقد أحاطني بعبارات الحمد والصبر، ويكأني لا أعرفها ولا أُقِيمها في قلبي، لم يعلموا أنني بالصبر فقط نجوت. يأتيك أحدهم بلا طلب منك لينظّرَ لك عن معاناته وتعبه وصعوبات حياته في إشارة منه أنه لا خلاص لك سوى بالصبر، تصمت متعجبًا، كيف وصل الناس لاعتقادهم أنه يمكن لهم تقرير مصير حياتك وتمني ظاهرها والمدح عليه!


اقرأ أيضًا: وهل يبقى الأثر: التعافي من جروح الماضي


ثم بعد فترة اعتزلت الناس وقررت المكوث وحدي مع أطفالي، أعلّمهم ما أستطيع من قيم، ولكني لا أغفل أبدًا عن إظهار صعوبة الحياة واختلاف البشر وتوقع كل الاحتمالات، كيلا أفقد صحتهم النفسية يومًا ما. كانت التجارب كفيلة لأن تعلمني التعافيّ من الجروح وحدي، ولست أقول لك أن الأمر سهل ودَوِّن الوصفة السحرية بسرعة، إطلاقًا!

فقد استغرق الأمر مني سنوات من العمر ومن الكفاح كيلا أقع ضحية في اكتئاب حاد أو قلق دائم، ونحن بالطبع مختلفون بطباعنا وشخصياتنا وتحملنا للأمور، كل يختار طريقة تناسبه في معالجة جروحه، ولكنني سأكتب لكم ما أعانني وقواني لاجتياز محنتي.

إن حدثتني نفسي بطرح أسئلتي المعتادة "ليش أنا؟ ، يا رب ما بستاهل كل هاد الوجع؟". أحدثها أن الله لم يخلقها ليعذبها ويلحق الأذى والوجع بها فكما ورد في الحديث "الله أرحم بعباده من هذه بولدها" متفق عليه، فتسكن نفسي وتطمئن.

كان أول سلم لنجاتي إيماني المطلق أن كل ما حدث ويحدث لحكمة من الله، ربما سأذوق حلاوتها يومًا أو تظل خفية حتى ألقاه فأستسلم لأمره وأدعوه بالرضا، وإن حدثتني نفسي بطرح أسئلتي المعتادة "ليش أنا؟ ، يا رب ما بستاهل كل هاد الوجع؟". أحدثها أن الله لم يخلقها ليعذبها ويلحق الأذى والوجع بها فكما ورد في الحديث "الله أرحم بعباده من هذه بولدها" متفق عليه، فتسكن نفسي وتطمئن.

وهنا طرحت أفكاري وقناعاتي وعلاقاتي على الطاولة، غصت في ثناياها وقننت المطلق منها؛ رأفة بهذا القلب المتهالك ورحمة بتلك الروح المنهكة. فلم أعد أجلس مع شخص يشحنني بطاقة سلبية من شكواه فيزيدني همًا فوق همي مهما كان قريبًا مني، ولم أعد أعتذر وأبرر تغيبي وعدم حضوري لمناسبة ما بحرف واحد، ما دمت أدرك غايتي من عدم الذهاب، وتركت الضغط على نفسي في إصلاح أي علاقة والبحث فيها ما دمت لم أفعل الإساءة، واستحضرت إخوة سيدنا يوسف الذين كرهوه لمزاياه لا لعيوبه؛ فتنحيت عن التفسير والتحليل لكل الأمور والعلاقات حولي، واستبدلتها بالتركيز على هدفي اليومي المراد تحقيقه.


اقرأ أيضًا: رب الخير لا يأتي إلا بالخير


شغلتُ نفسي بما ينفعها وأحببتها بعيوبها ومزاياها، وتركت لها اختيار طبيعة أيامها. لم أضغط عليها وأرهقها بالخلاص والتخلي والنسيان فورًا، بل منحتها حقها الطبيعي في التجاوز والنجاة، إن أرادت حزنًا فحزنًا، وإن أرادت فرحًا كان لها ذلك وانتصرتْ على خوفها وحزنها ووجعها، لم أمنعها من البكاء أو الضعف في يوم من الأيام وحتى هذه اللحظة تمر بعض الأيام يتخللها البكاء والحزن، ولكن الفرق يكمن بالإدراك وجعل الحزن حالة عامة تمر وتذهب بدل السيطرة الكاملة على يومنا ومشاعرنا.

أمسكت بيدي، وقدرت نفسي بقيمتها الحقيقية وأكرمتُها بعلوم ومهارات نافعة، ونأيت بها عن هموم الدنيا وأكدارها. ونختم بنقطة انطلاقنا في رحلة التعافي ألا وهي الرضا بالقدر، يقول علقمة في قوله تعالى: "وَمَن يُؤْمِن بِاللَّـهِ يَهْدِ قَلْبَهُ" [التغابن:11]: "هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها ويرضى".