بنفسج

رغم إصابتها [7] مرات: قصة حب بين الحدود وسامية جابر

السبت 13 يونيو

- أُصبتِ سبع مراتْ! لمَ تُصرين على الذهاب مرة أخرى؟!
- " اللي بروح على الحدود، زي اللي بشرب ميّة زمزم، بقدرش يفارقها، لازم يضل يرجعلها مرة واثنين وثلاثة".


هكذا أجابت السيدة سامية جابر " أم بلال"، 54 عامًا، بحبّ ورضا كاملين، لتخطّ قصة حُب قوية الملامح بينها وبين الحدود الشرقية لمدينة غزة، رغم إصاباتها المتكررة، حيث أن عامًا كاملًا، لم يسلب من عزيمتها شيئًا، بل عظّم رغبتها في الذهاب للحدود مرةً بعد الأخرى.

تستيقظُ أم بلال والتي تسكن حي التفاح بغزة صباح كل جمعة، تُجهزُ لرباط يومها بتحفيز النساء والشباب من حولها، تُعدّ الطعام، وتحمله إلى حيثُ من كتب له القدر أن يُطعِمه، ترتدي كوفيتها، وفي يدها العلم الفلسطيني، ثم تنطلقُ لمخيم ملكة شرق مدينة غزة، والتي بات يحفظها كما يحفظها المشاركون، فلم يُشهد لها غيابًا سوى بضع مراتٍ لصعوبة إصابتها.

| إصابة للمرة السادسة

سامية1.jpg
سامية جابر  أثناء مشاركتها في إحدى مسيرات العودة 

كُلما طافت بمخيلتها زياراتها لبلدتها المحتلة "هربيا" وهي صغيرة مع والديها، يتملكها الحنين إليها، فتصحو على واقعٍ مر واحتلال بغيض سلبَ منهم الأرض والأمن والجمال، فينتفض بداخلها إصرارٌ أكبر للخروج في مسيرات العودة شرق وشمال مدينة غزة.

تقف على الحدود، يمتد أمام ناظريها أراضٍ مسلوبةٍ تكتسي بالخُضرة، كمغناطيسٍ يجذبها للتقدم إليها أكثر، علّها تنعم بهواءِ بلادها المسلوبة عند أقربِ نقطة منها، غير آبهة بأمطار قنابل الغاز التي تُقذف كالحمم فوق رؤوسهم منعًا لتقدمهم، فلا شيء باستطاعته ثني قلبٍ مليء بالإيمان وحب الوطن.

حيّت النساء، وهتفت باسم الوطن، رفعتْ العلم بيدها، ومضت في طريقها بثباتِ المقاوم، حتى باغتتها رصاصة في يدها، سببت لها كسورًا في العظم، وآلامًا كُلما أوجعتها، كُلما علا في داخلها صوتُ الانتفاضة ضد وجه الظلم والطغيان.

لم تكن هذه الإصابة رغم شدّتها الوحيدة التي أصابت جسد سامية، بل كانت المرة السابعة بعد ست إصابات سابقة بالقدم واليدين، لم تُشف منهم بعد، وعلى الرغم من كُل ذلك، ما زالت لا تقبل من المهنئين بسلامتها سوى كلمة "سلامتك"، أما محاولاتْ النقاش وإقناعها من أجل العدول عن المشاركة، فهذا أمرٌ غير مقبول لديها البتة.

 | عداوة القناص

سامية2.jpg
سامية برفقة صديقاتها على حدود غزة

تغيرت مراسم الجمعة عند سامية، وهي التي كانت تتحين العصر لتهدأ بعد يومٍ عاصف بالأشغال اليومية، لكن لم يعد عصر الجمعة يعني الراحة منذ اللحظة التي أعلنت فيها الهيئة العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار انطلاق مسيرات العودة والرباط في مخيمات العودة على حدود القطاع.

تعتذر سامية صاحبة العلاقات الوافرة في عائلتها من جميع الجلسات والمناسبات الاجتماعية الواقعة في يوم الجمعة، فقد وهبت روحها وخصصت جمعتها لخدمة المسيرات فقط، والتي لم تتخلف عنها إلا لسبب واحدٍ فقط هو "إصابتها".

علاقة العداوة بين سامية وقناص الاحتلال المقابل لها تتعاظم كلما همّت بالاقتراب خطوة أخرى من السلك الفاصل، لتؤدي التحية لعلمها الفلسطيني المثبت فوق الأسلاك الشائكة، وهي التي لا يهنأ لها بالًا إلا ببلوغ ذلك. بابتسامة ساخرة تقول: "لازم أوقع على آخر نقطة عند السلك، وبعدين أرجع بحسرتي، القناصة عرفوني حتى صرت نمرة محفوظة في عقولهم، رغم هيك، لازم أضل أغيظهم، حتى لو استشهدت".

لا تقتصر مشاركة سامية على الهتاف وحث المشاركين والمشاركات من حولها للتقدم أمامًا، بل تُشارك مع الشبان في قص السلك الفاصل، وقذف الجنود الإسرائيليين بالحجارة، وإشعال الإطارات، وإسعاف الجرحى وتقديم المياه لهم.

| مصدر القوة

 
عامٌ طويلٌ من الأحداث، إلا أنّ موقفًا لا زال محفورًا في ذاكرتها، حين احتجز الاحتلال الإسرائيلي لسبعة من الشبان قرب السلك الفاصل، ولم يستطع أحدٌ الاقتراب منهم، لخطورة الوضع، إلا أنّها استودعتْ نفسها عند خالقها وتسللت حتى وصلت إليهم من أجل إخراجهم، وبالفعل، تمكنت من ذلك رغم قنابل الغاز التي أمطروا بها.

عامٌ طويلٌ من الأحداث، إلا أنّ موقفًا لا زال محفورًا في ذاكرتها، حين احتجز الاحتلال الإسرائيلي لسبعة من الشبان قرب السلك الفاصل، ولم يستطع أحدٌ الاقتراب منهم، لخطورة الوضع، إلا أنّها استودعتْ نفسها عند خالقها وتسللت حتى وصلت إليهم من أجل إخراجهم، وبالفعل، تمكنت من ذلك رغم قنابل الغاز التي أمطروا بها.

وتقول: "لقد شعرت أنْ هؤلاء الشبان هم أبنائي، وعليّ أن أُضحي بروحي من أجلهم، فلم أفكر طويلًا، وبرعاية الله التي أحاطتنا نجونا بأعجوبة، ولا زال هؤلاء الشباب يُبادروني بالسؤال والامتنان، كُلما التقيتُ بهم".

وحين سألناها عن مصدر تلك القوة التي تمتلكها أجابت: "كُل ما أفعله أن أؤدي صلاتي وأستودع الله نفسي وأمري، وأستمرُ في ترتيل آياتٍ من القرآن الكريم، حينها أشعرُ، وأن هناكَ من انتزع من قلبي الخوف وأفرغ عليه قوةً وثباتًا وصبرًا".

وتؤكد سامية أن من تطأ قدماه الحدود، ويبدو لناظريه كُل تلك المساحات الشاسعة خلف السلك الفاصل، والتي يستظلُ بخيراتها محتلٍ بغيض، لا بدّ وأن تخترق صدره غصةً، ويعتريه شعورٌ بالثورة والانتقام من أجل استردادِ حقوقه المسلوبة، ولن يتوان لحظة عن فعل ذلك.

سامية التي تسأل الله أن تكون كُل إصابةٍ في جسدها بمثابةٍ موضعٍ للدفاع عن الوطن، تأمل أنْ تنتهي هذه المسيرات بعودتها وجميع اللاجئين إلى بلدانهم التي هُجرّوا منها قصرًا، وأنْ يُباد الظلم ويزول الاحتلال عمّا قريب.