بنفسج

نور وطاهر عطوة: حُبٌّ أُعلِن في "رسالة ماجستير"

الأحد 18 يونيو

كان الأمر يرتبط بقلبي مباشرةً، ركعتان من صلاة الاستخارة، وحلمٌ جميل بعد دعاءٍ طويل دفعني لأقول: "نعم قبلتُ بطاهر زوجًا، وبيني وبين نفسي أقول: زوجًا وحبيبًا وشريكًا لحياتي الوردية". من اللحظة الأولى التي جلستُ مستمعةً لحديث الطاهر، أدركتُ حينها أنه خير الزوج ونعم الصديق.

كانت كلُّ العيون تتراقصُ نحو تلك العروس التي ظفِرت بأحنِّ الرجال، ويا حظَّها من ملكت قلب الطاهر. إنَّها نور اسليم، فتاةٌ لم تتم عمر العشرين عامًا، فتحتْ عيونها وهي تضمُّ فراغات أصابعها بيد شريكها طاهر عطوة، يرسمان بيتًا دافئًا يضجُّه صوت الكثير من الأطفال، ويحميه صوت تراتيل القرآن بكرةً وعشيًا.

اعتقال طاهر

بدأتْ الأحلام تتحقق رويدًا رويدًا، فها هي العائلة تكبُر، وأصبحتْ نور العروس أمًّا تُكحِّل عينيها بابنها البكر محمد، تتأمُّل ملامحه وهي تغمز لطاهر: نسخةٌ طبق الأصلِ منك يا طاهر، ما هذا الحب كله؟! لم تتغير الحياة كثيرًا بعد قدوم محمد، بل على العكسِ من التوقُّع فقد كان طاهر يشدُّ على يد نور لاستكمال دراستها. 

كانت هذه العائلة هي كل ما ينتظره طاهر في كل مساء بعد عودته من العمل، كان يكفيه من الدنيا ضحكةٌ من مبسمِ نور، وطرقُ أصابع الصغار على حافة الباب ينتظرون قدوم بابا طاهر.

بدأتْ الأحلام تتحقق رويدًا رويدًا، فها هي العائلة تكبُر، وأصبحتْ نور العروس أمًّا تُكحِّل عينيها بابنها البكر محمد، تتأمُّل ملامحه وهي تغمز لطاهر: نسخةٌ طبق الأصلِ منك يا طاهر، ما هذا الحب كله؟! لم تتغير الحياة كثيرًا بعد قدوم محمد، بل على العكسِ من التوقُّع فقد كان طاهر يشدُّ على يد نور لاستكمال دراستها في قسم التعليم الأساسي. مضتْ السنة الأولى وصوت ضحكاتِ محمد تملأُ البيت سعادة إلى أنْ جاء وليُّ العهد الثاني مُعتز، وكأنَّ أمنيةُ العاشقين في تكوين عائلةٍ كبيرة بدأت تتحقق كفلقِ الصبح.

كانت هذه العائلة هي كل ما ينتظره طاهر في كل مساء بعد عودته من العمل، كان يكفيه من الدنيا ضحكةٌ من مبسمِ نور، وطرقُ أصابع الصغار على حافة الباب ينتظرون قدوم بابا طاهر. يركضُ إليهم، يُلاعبهم، يُطعمهم بيديه، يبدِّلُ لهم لباسهم. يمارسُ دورَ الأب والحبيب دون أن يشكو تعبًا أو مللًا. ولم يكن له أن يترك نور تحملُ أيَّ مهمةٍ وحدها، فقد كان يراها "المُدللة الكبيرة الصغيرة" فبمجرد أن تقترب موعد الامتحانات الجامعية، يُعلن حالة التأهب في البيت، ليأخذ دور نور في الطهي والترتيب والاهتمام بالأطفال، وتهيئة الجو المناسب لنور لِتتخطى فترة الامتحانات بنجاح دون التفكير بأي مسؤوليةٍ أخرى.

1-19.jpg

هكذا سارت الحياة حتى ذلك التاريخ، 8/12/2011، كانت نور حينها بعمر الواحد والعشرين عامًا تجلسُ تترقبُ طاهر بعدما أخبرها عن مهمة عملٍ سريعة، سينجزها ويعود إلى بيته. كان هناك حدسًا داخليًا في قلبِ نور يخبرها بشيءٍ غير عادي، لكنها كانت تحاول بعثرة هذا الحدس بالانتظار الذي امتد لساعات إلى أن جاءها الخبر: اعتقلوا طاهر يا نور. خبرٌ كهذا بين لحظةٍ وأخرى اقتحم حياة نور المُدللة عنوةً دون استئذان أو حتى أي إرهاصٍ خافت. كلُّ شيءٍ مضى ككابوسٍ خانق، دون تفسير أصبحتْ نور اسليم زوجة الأسير طاهر عطوة، وتحوَّلتْ مُناغاة محمد ومعتز إلى نحيبٍ مفاده السؤال عن حبيبٍ كان يهرول إليهم كل مساء يلاعبهم ويحتضنهم.

فارس مغوار بحكم 17 عامًا

وماذا عنكِ يا نور؟ ماذا بعد؟ كان هذا السؤال يخنقُ نور كلَّ ليلة وهي ترى الصغير محمد ابن العامين، ومعتز الرضيع الذي أتمَّ عمر العام قبل أيامٍ قليلة. تسألُ نفسها كيف لها أن تواصلَ هذا الطريق دون طاهر؟! لم يصرف نور عن هذه الأسئلة إلا خوفها من الآلام التي تصاحبها في بطنها منذ أيام، وفسرتها أنها آلام عادية.
 
ثم  كانت المفاجأة بعد إجراء الفحوصات اللازمة. "مبروك، أنتِ حامل في شهرك الثالث يا نور!". توقَّف الكون حينها في عيون نور، فهي التي كانت تسأل نفسها قبل أيام كيف لها أن تهتم بصغيريها دون وجود الطاهر، ليأتي أمامها الآن خبرُ حملها بطفلٍ ثالث!

كل شيءٍ جرى سريعًا، لقد كان وقعُ الخبر على قلب نور أكبر من طاقة تحملها حينها، تبدَّلت ساعة انتظار طاهر من العمل لتصبح لحظة انتظار تتمثَّلُ في يوم المُحاكمة، وأصبح معارفُ نور وأصدقائها مجموعة من المحامين والحقوقيين وأصحاب خبراتٍ سابقة في قضايا الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

حُكِم على طاهر بالسجن لمدة 40 عامًا، إلى قبِلتْ المحكمة طلب الاستئناف بجهودٍ حثيثة من المحامين لِيُخفف الحكم إلى 17 عامًا. كان يوم المُحاكمة يومًا فيصليًا في حياة نور، فها هو الفارس المغوار أصبح أسيرًا، الكتف الحنون الذي كان يحتضن حزن نور، ويحمل تعبَ أيامها، ويشدُّ عزيمتها لمتابعة دراستها، هكذا بكل بساطة وبجلسة مُحاكمة جائرة قُرر فيها أن يغيبَ بشمسه عن بيتهِ وعائلته.


اقرأ أيضًا: "ياسمين شعبان" .. أم الأسيرات ودرعهن المتين


وماذا عنكِ يا نور؟ ماذا بعد؟ كان هذا السؤال يخنقُ نور كلَّ ليلة وهي ترى الصغير محمد ابن العامين، ومعتز الرضيع الذي أتمَّ عمر العام قبل أيامٍ قليلة. تسألُ نفسها كيف لها أن تواصلَ هذا الطريق دون طاهر؟! لم يصرف نور عن هذه الأسئلة إلا خوفها من الآلام التي تصاحبها في بطنها منذ أيام. "أشعر أنَّ شيئًا يتحركُ في بطني" كانت هذه شكوى نور التي فُسِّرتْ في لحظتها الأولى أنَّها آلام عادية نتيجة الضغوط التي تعيشها، إلى أن كانت المفاجأة بعد إجراء الفحوصات اللازمة. "مبروك، أنتِ حامل في شهرك الثالث يا نور!". توقَّف الكون حينها في عيون نور، فهي التي كانت تسأل نفسها قبل أيام كيف لها أن تهتم بصغيريها دون وجود الطاهر، ليأتي أمامها الآن خبرُ حملها بطفلٍ ثالث!

رسالة ماجستير عن الأسرى الفلسطينيين

IMG-20230612-WA0004.jpg
زوجة الأسير طاهر عطوة السيدة نور اسليم برفقة أولادهم في مناقشة الماجستير الخاصة بها

عادت نور إلى بيتِها تتأملُ وجه طاهر في صورته المُعلَّقة على الحائط، تتحسسُ بطنها، وتسأل الله عن الحكمة في هذا الاختبار الكبير. لقد كانت هذه اللحظة فارقةً في حياة نور، وكأنَّ خبر حملها قد أنجب نورًا جديدة: "إذن سأًصبح الآن أمًا وأبًا، سأُسجَّل في دفاتر الناس "زوجة قيد الانتظار". باحتْ نور لنفسها بهذه الحقائق، وأبصرتْ جوابها أيضًا: "حسنًا، وأنا قبلتُ هذا الاختبار، فارزقني القوة يا الله، وأنا أُشهدُك بصبري واحتسابي وتوكلي عليك".

كان أول ما فعلتُه نور أن تابعتْ دراستها رغم كل الاعتراضات التي تحيطها، فتلك السيدة التي كانت ترمي بكلماتِها: "أولادك صغار، اجلسي في البيت واهتمي بأمورهم"، وأخرى تتهامس: "ما فائدة التعليم الآن ولديك ثلاثة أبناء صغار؟!". كانت هذه الكلمات بمثابة سهام تمسكها نور وتحرقها بعزيمتها وقوتها، إلى أن تخرَّجتْ من الجامعة عام 2013.

2-14.jpg

كانت عيون طاهر لا ترى إلا الفخر العظيم بنور وإنجازاتِها، فكان دعمه لها بتشجيعها على استكمال دراستها للحصول على درجة الماجستير. تشجّعتْ نور لهذا القرار، لكنَّ الفكرة التي أرادت استكمال دراستها بها لم تكن سهلة أبدًا، بل لم يكن لها مراجع أو مصادر سابقة للاستعانة بها، فكيف لها أن تختار موضوعًا جديدًا لهذا الحد؟!

اختارتْ نور موضوعًا يرتبط بنظام التعليم الذي يُطبَّق على الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، فكانت محطَّتها الأولى في الذهاب إلى المؤسسات المُختصة بقضايا الأسرى، لمساعدتها في دراستها، لكن النتيجةَ عكس ما رسمته نور: "لا يمكنكِ إجراء هذه الدراسة، فهذه معلومات سرية، ولا يمكن لكِ المُضي في بحث ليس له من مراجع من الأساس!". كان هذا الأمر تحدِّيًا أمام نور وطاهر، كي تبصرَ هذه الرسالة النور الحقيقي أمام المجتمعات أجمع. بدأ طاهر في الاستعانة بأصدقائه داخل الأسر وإعطائهم الأسئلة اللازمة لدراسة نور، وكلَّما حصل على المعلومات المهمة والتي من شأنها أن تُسنِد الرسالة كان يتواصل مع نور ويُبشِّرها بما ظفر به من بيانات ومعلومات.

في ميدان الدفاع عن الأسرى

3-9.jpg
 

لقد نجحتْ نور، والأصح من هذا أن نجاحَ الرسالة كان مشدودًا بسواعد طاهر وهو يسعى ويبحث ويسأل ويُشجِّع نور، وينشدُ لها أناشيد النجاح قبل أن تولدَ هذه الرسالة. ليكونَ يوم المُناقشة أشبه بعرسٍ وطني تحتفي فيه نور انتصارَها برفقة الطاهر، لتوسم هذه الرسالة بالأولى من نوعها في مكتبات الأبحاث الفلسطينية عام 2016، كانت هذه الخطوة بدايةً فعلية أمام نور لتعمل في ميدان الدفاع عن قضية الأسرى الفلسطينية، فأصبحتْ تجلسُ رفقة الباحثين الدوليين وهي تساعدهم للحصول على المعلومات اللازمة، وتدقيق دراساتهم المرتبطة بقضية الأسرى، وتشارك في برامجَ خاصة بها عبر فضائية الأقصى لتوصلَ صوت الأسرى وذويهم.

لم يكن سعي نور مقتصرًا على المؤسسات الخارجية فحسب، فرغم كل الجهود التي بذلتها ونجحتْ فيها، كانتُ عيونها الأولى ترنو نحو أبنائها ليحملوا معها أيضًا أمانة الدفاع عن الأسرى، وأن يكونوا نموذجًا يفتخر فيه والدهم، ومن هنا حققتْ نور الأمنية التي سطَّرتْها مع طاهر في أيام زواجهما الأولى، ليتمَّ محمد ومعتز حفظ كتاب الله الكريم، وهم في عمر الـ 14، والـ 13عامًا، وها هو معاذ يسير على الطريق نفسه.


اقرأ أيضًا: صفاء أبو سنينة: خشونة الزنزانة أبعد من حدود الرواية


ماذا يصنعُ الغياب في نور وعائلتها؟ سألتُ هذا السؤال وأنا أُقلِّب الصور الكثيرة التي أرسلتْها نور قبل بدء الحوار، فرأيتُ صور الكثير من الهدايا وقصائد الحب وبعضًا من الورود الحنونة، أجابتني دون تفكير: "غاب طاهر عنَّا جسدًا فقط، لكنَّه حاضر في كل وقت ومناسبة، ربما سيشعر البعض أنَّي أُبالِغ أو أُداري شوقيَ الكبير، لكنَّ الحقيقةَ في وجود طاهر الروحي أكبر من أن أراه أمامي فقط، فلا يمكن له أن يتركَ عيدًا أو ذكرى دون أن يرسلَ لنا الهدايا والرسائل".

منع من الزيارة

ماذا عن الصغار؟! تجيبني نور وهي ترسلُ لي صور أطفالِها الذين أصبحوا يقربون بطولهم لرأس أمهم نور: "عندما اعتقل طاهر كان محمد بعمر العامين، ومُعتز بعمر العام، وكنتُ حينها حاملًا بمُعاذ، وهذا يعني أنَّ أطفالي لا يتذكرون أيًا من طفولتهم مع والدهم، خاصةً أننا حُرمنا من زيارة طاهر منذ عام 2014، لأسباب أمنية غير معروفة".

تتابع نور قائلة: "لقد صنعتُ كلَّ شيء ليبقى طاهر حاضر في نفوس أطفالنا، أخبرتهم عن أكثر الأكلات التي يحبُّها، وسردتُّ لهم تفاصيل عديدة، ربطتُّ الكثير من الأشياء بفرح وغضب والدهم، حتَّى أنهم أصبحوا يفعلون كل ما يمكن أن يُقرَّبهم من قلب أبيهم".

ماذا عن الصغار؟! تجيبني نور وهي ترسلُ لي صور أطفالِها الذين أصبحوا يقربون بطولهم لرأس أمهم نور: "عندما اعتقل طاهر كان محمد بعمر العامين، ومُعتز بعمر العام، وكنتُ حينها حاملًا بمُعاذ، وهذا يعني أنَّ أطفالي لا يتذكرون أيًا من طفولتهم مع والدهم، خاصةً أننا حُرمنا من زيارة طاهر منذ عام 2014، لأسباب أمنية غير معروفة، إلَّا أنه لا يمكن لأحد أن يصدق غياب والدهم عنهم".

تتابع نور قائلة: "لقد صنعتُ كلَّ شيء ليبقى طاهر حاضر في نفوس أطفالنا، أخبرتهم عن أكثر الأكلات التي يحبُّها، وسردتُّ لهم تفاصيل ولادتهم وفرحة أبيهم بقدومهم، ربطتُّ الكثير من الأشياء بفرح وغضب والدهم، حتَّى أنهم أصبحوا يفعلون كل ما يمكن أن يُقرَّبهم من قلب أبيهم".

4-6.jpg

"ابتسمتْ لي الأيام بعائلتي"، هذا ما كانتْ تردده نور منذ بداية حديث "بنفسج" معها، فالقوة التي تتمسكُ نور بحبالها تتمثل في دفء العائلة ومتانة أواصرها، فطبيعة العلاقة بين نور وأبنائها قائمة على الحب والقرب الروحي، ورغم صعوبةِ الاختبار الذي تقفُ نور أمامه، خاصةً بعد إصابة ابنها البكر محمد بنقص الصفائح الدموية، الأمر الذي يستوجب رعايةً طبية خاصة ومتواصلة. فلا يمكن أن تخفي نور تغيُّر الكثير من ملامح الحياة أمامها، إلَّا أنَّها ما زالتْ بنفسِ المُحارب، تسعى في دهاليز الحياةِ الطويلة.


اقرأ أيضًا: ذاكرة مؤجلة ولمسة أصبع: برواية أم أحمد مناصرة


تستيقظُ صباحًا لِتجهز حقيبة السفر لـ "محمد" ليذهب إلى جلسة علاجه في أراضي الداخل المحتل، وتعود لتحتضنَ معتز ومُعاذ، تُتابِع لهم الدروس، وتعدُّ لهم الطعام، تذهب لدفع الفواتير، وتصلح عطبًا دخيلًا بأحد الأجهزة. تمزِّق رزمانةَ الأمس، وتكتبُ مهمات اليوم الذي بزغ فجره، تُجهز حلقةً جديدة من برنامجها المختص في قضايا الأسرى، تمسكُ هاتفها، تتحدثُ مع رفيقاتِ النضال الفلسطينيات، إلى أن تسرقَ عيناها لحظةً من الهدوء تحلمُ فيها بيوم اللقاء بالطاهر الحبيب.