بنفسج

أمهات عصر "السوشال ميديا": وهم النجاحات العابرة للسياق

الأحد 07 يونيو

 

| مشهد [1]: يا لها من صورة مبهجة!

بعد خروج زوجها إلى العمل وقبل أن تستيقظ الصغيرة، انتهزت الفرصة ككل يوم للاطلاع على آخر مستجدات العالم الرقمي والمجتمع الافتراضي. فتحت صفحتها تنظر إلى منشورات الشخصيات التي تتابعها. شخصية مشهورة لسيدة تعيش في الغرب وتتابع دراساتها العليا في إحدى أرقى جامعات العالم، وهي أم لطفل لطيف، تسكن في بيت جميل، تنشر صورها كل يوم وهي محاطة بهذه الطبيعة الغناء.

وتنشر صورها مع ابنها وهي تأخذه إلى نادي الفروسية ونادي الريبوتات وحديقة الحيوانات. تضع صورا لهما وهما يتدربان معا على الجيتار في معهد بجانب المنزل، وتترك تعليق: "أعظم هدية نقدمها لأطفالنا هي تعريضهم لأكبر قدر ممكن من التجارب". وفي المساء تضع صورها وهي في الجامعة مع زملائها وأمامها كومة كتب تدرسها وتستعد لليوم التالي، تاركة تعليق ثان نصه: " الأمومة لا تعني أن نتخلى عن أحلامنا". تترك الشخصية المشهورة تلك التعليقات على صفحتها، ولكن تلك التعليقات لا تترك صاحبتنا التي لم تستيقظ طفلتها بعد من النوم.

| مشهد 2 .. بين نضالات وتحديات

ض12.png
 

تستعد بهمة وتقرر أن تأخذ صغيرتها لجولة في مدينتها، للأسف العربة لا تصلح في الشوارع ولا حتى على الأرصفة المتكسرة المليئة ببضائع المحلات. "لا يهم سأحملها بالحمالة" تقول لنفسها، تخرج مع ابنتها لتركب المواصلات، لكن رائحة السجائر التي تحيط بها تجعلها تنزل عند أول محطة.

تذهب لمكتبة علّها تجد قصصا جميلة كتلك التي تقرأها فلانة على الفيسبوك لطفلها، "سعرها غال جدا" سيغضب زوجها إن اشترتها وهم بالكاد يدفعون أقساط شهور المتراكمة. حسنا لن تستسلم ستذهب للقرطاسية لشراء أدوات فنية لتصنع لها قصة تفاعلية كما فعلت فلانة الأخرى، تبحث عن مواد بسعر مقبول، لم تجد كل الأشياء المطلوبة لكنها استحسنت بعضها، قررت أن تسير إلى البيت مع طفلتها، لكن ظهرها يصرخ ألما.

فقد مرت ساعتان وهي تحمل الصغيرة بواسطة حمّالة الظهر. تسير بخطى متثاقلة وتخاطب نفسها "لا يهم سأحاول على الأقل أن أستمتع بالطريق إلى المنزل"، لكن أكوام النفايات ورائحة حرقها، وأزمة السيارات والناس التي تسير وهي لا ترى من أمامها تجعلها لا تفكر بشيء إلا بالعودة إلى المنزل بأمان، تعود مرهقة متعبة. تحاول أن ترتاح قليلا لكن ابنتها قد تعكر مزاجها من التعب والإرهاق أيضا. تقضي ساعتين في محاولة تهدئتها وإطعامها وتغيير ملابسها، وما إن تخلد الصغيرة للنوم، حتى تفتح الأم الإنترنت لتشاهد طريقة صنع كتاب تفاعلي لابنتها.

حتى لو امتلكت كل الأمهات أجهزة S7 او iPhone لن يستطعن التملص أو الهروب من السياق الذي يعشن فيه. والنجاح والإنجاز الحقيقي هو أن تنجحي كأم في سياقك وضمن ظروفك. إن استسلام أمهات العصر الرقمي للـ"ترند" والأكثر مشاهدة ومتابعة، ومن ثم الوقوع في مقارنة غير عادلة، ما هو إلا ظلم لنفسها وأسرتها قبل أي شيء.

لا تعرف كيف مر الوقت، لتتفاجأ أن زوجها عاد من العمل جائعا ومرهقا، ويسألها "أين الغداء؟ ماذا تفعلين طوال اليوم؟ فتخطر ببالها كل النضالات النسوية التي تقرأ عنها على الفيسبوك والتويتر وتحديات الحياة في المجتمع الذكوري الذي يطالب المرأة بعمل كل شيء! والرجال الذي ينتظرون من المرأة الخدمة فقط دون أي مساعدة أو حتى مراعاة لوضعها. تكتم غيظها وتحضر وجبة سريعة، يأكلها زوجها غاضبا ويذهب هو الآخر لينام، وفي تلك اللحظة تستيقظ طفلتها، لا تعرف ماذا تفعل لتشغل ابنتها فتجلسها على إحدى قنوات الأطفال، وتتصفح هي على "جوجل" تبحث وتقرأ عن "كيف تقضي وقتا مفيدا مع أطفالك"؟ تشاهد مرة أخرى الصور والإنجازات والنجاحات لأمهات من كل بلاد الدنيا، "لماذا أنا فقط من لا تنجز مع طفلتها؟"

تشعر بقدر لا يوصف من الإحساس بالذنب والتقصير في حق طفلتها وزوجها، وتشعر أن يومها كله ضاع بلا فائدة، تشعر بضيق وحزن وحسرة. "كيف تستطيع فلانة أن تكمل تعليمها ومعها طفلة مثلي؟" "كيف يستطيع طفلها أن يتقن السباحة والعزف وهو لم يتجاوز الثامنة؟" "كيف أستطيع أن أعرض ابنتي لتجارب غنية؟" "كيف تنجز كل تلك الأمور؟" "كيف وكيف وكيف؟؟". تنظر إلى إحدى عبارات التنمية البشرية الشهيرة التي علقتها أمام جهازها: "فكر أفكارا إيجابية العالم كل سيأتي اليك". يمنحها ذلك شحنة من الأمل، فتظل تردد عبارة: "غدا أفضل غدا أفضل غدا أفضل" حتى تخلد الى النوم.

| ما الذي يحدث لأمهات العصر الرقمي خلف الشاشات؟

ض11.png
 

تستيقظ اليوم ملايين الأمهات والنساء في العالم على اختلاف ظروفهن وسياقتهن ومجتمعاتهن؛ ليشاركن عبر وسائل التواصل الاجتماعي تجاربهن وإنجازاتهن كسيدات وأمهات، وكل يقدم خبرته وتجربته. إلى هنا تبدو الأمور مبشرة بالخير، فما الضير من أن نستفيد من بعضنا البعض ونتشارك الأفكار والإنجازات. لكن ما يحدث خلف الشاشات أمور أخرى لا ترصدها وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كاف، لا يسلط عليها الضوء، ولكنها تظهر في تعليقات من هنا وهناك، تكشف خبايا النفس الإنسانية التي مهما تجملت فلا بد أن تطفو على السطح.

إن لم تستطع أمهات العصر الرقمي أن يرحمن أنفسهن وأسرهن من وطأة هذه المقارنة الظالمة فإن الحل الوحيد المتبقي هو الانسحاب من العالم الرقمي بسلام، لأنه ما لا يمكن أن يحدث، ولن يحدث، هو توقف الناس عن مشاركة تجاربهم ونجاحاتهم وإنجازاتهم. ولكن ما يمكن أن يحدث هو أن نغير قناعتنا بأن الإنجازات هي ابنة سياقها، ولا يوجد نجاحات عابرة للسياقات، وأن نسعد ونثق بإنجازاتنا ما دمنا بذلنا غاية الجهد والعمل.

مشاعر متراكمة ومركبة، خليط من الإحباط أو الشعور بالنقص والعجز والتقصير أو الذنب والانبهار، مصحوب بمختلف أشكال التساؤل والأمنيات، وأحيانا الحسد والغبطة والألم. هذه المشاعر تظهر في التعليقات الساخرة والمنبهرة أو الطاعنة والمستخفة أو المنتقدة أو المؤيدة لإنجازات ونجاحات الأمهات اللواتي يجرأن على مشاركة تجاربهن وإنجازاتهن ونجاحاتهن. والسيناريو الأسواء هو أن تتحول هذه المشاعر إلى موجات من اللوم والعتاب أو الضيق والسخط الذي يضغط جو الاسرة ككل.

لا يوجد نجاحات منفصلة عن الظروف والسياق 

يوميات ام 4.jpg
 

هل الخلل في نشر تلك الإنجازات أو النجاحات أم في تلك المشاعر المركبة؟ هل نطالب الأمهات أو السيدات بأن لا ينشرن تجاربهن ونجاحاتهن لأن الإمكانيات والظروف في سياقهن لا تناسب سياقات وإمكانيات عدد لا بأس به من القارئات؟ أم أننا بحاجة إلى أن نراجع أنفسنا قليلا ونفكر لماذا تنتابنا هذه المشاعر، ولماذا أصبحت بارزة ومنتشرة بكثرة في هذا الزمن الرقمي، ولماذا علينا أن نراقبها ونتتبع عميقا لجذورها لنعرف إن كانت صائبة أو مبررة؟

تنسى الكثير من أمهات العصر الرقمي أنه لا يوجد نجاحات أو إنجازات منفصلة عن الظروف التي خلقت فيها. وتنسى الكثير من أمهات العصر الرقمي أنه لا يوجد نجاحات أو إنجازات عابرة للسياق (إلا بشكل محدود جدًا جدًا، هذا إن وجدت). فأم تعيش في قرية لا يوجد بها ماء ولا وقود، أعظم إنجاز يمكن أن تفعله في اليوم هو الاحتطاب وجلب الماء وغليه لأطفالها لشرب ماء معقم يقيهم المرض (أترك لكم تخيل الوقت الذي تحتاجه هذه العملية).

إنجاز هذه الأم الكبير، من الظلم أن يقارن مع إنجاز أم تعيش في مدينة أوروبية بذلت جهدها ليتقن أولادها 3 أنواع رياضات مائية من سباحة حرة وتزلج على الماء وغطس. وأم تعيش في مدينة محاصرة محتلة ممنوعة هي وأولادها من السفر، وفي ظل نظام تعليمي مهترئ، لكنها تستطيع أن تجالس وتناقش وتحادث أولادها عن تاريخ بلادهم وأسباب نكبتهم وسبل التحرر والتخلص من الاحتلال، نجاحها في رفع سقف وعي أبنائها بقضيتهم، لا يجوز بأي حال أن يقارن مع أم تعيش في الغرب تحمل وأولادها جواز سفر يمكنهم من زيارة أي بلد يشاؤون، وينشؤون قناة يوتيوب ومدونة تصف رحلاتهم وتجاربهم المليئة بالمتعة والمعرفة.

حتى لو امتلكت كل الأمهات أجهزة S7 او iPhone لن يستطعن التملص أو الهروب من السياق الذي يعشن فيه. والنجاح والإنجاز الحقيقي هو أن تنجحي كأم في سياقك وضمن ظروفك. إن استسلام أمهات العصر الرقمي للـ"ترند" والأكثر مشاهدة ومتابعة، ومن ثم الوقوع في مقارنة غير عادلة، ما هو إلا ظلم لنفسها وأسرتها قبل أي شيء.

إن لم تستطع أمهات العصر الرقمي أن يرحمن أنفسهن وأسرهن من وطأة هذه المقارنة الظالمة فإن الحل الوحيد المتبقي هو الانسحاب من العالم الرقمي بسلام، لأنه ما لا يمكن أن يحدث، ولن يحدث، هو توقف الناس عن مشاركة تجاربهم ونجاحاتهم وإنجازاتهم. ولكن ما يمكن أن يحدث هو أن نغير قناعتنا بأن الإنجازات هي ابنة سياقها، ولا يوجد نجاحات عابرة للسياقات، وأن نسعد ونثق بإنجازاتنا ما دمنا بذلنا غاية الجهد والعمل. وأن تبقى تلك النماذج الرقمية البعيدة عنا وعن واقعنا مجرد إلهام وحافز لبناء نموذجنا الخاص من النجاح المناسب لنا ولظروفنا.