بنفسج

للذاكرة: هو وصورة وابتسامة

الأحد 14 يونيو

صورة تجمع الأسير عبد الكريم الريماوي بزوجته بعد 18 عاما من الفراق.
صورة تجمع الأسير عبد الكريم الريماوي بزوجته بعد 18 عاما من الفراق.

لم تتحضر ليديا كأي امرأة تتنظر التقاط صورة جميلة لها، فلم تهتم بما ترتدي، وعلى أي شكل ستبدو، كل ما كان يتملّك قلبها وعقلها هي اللحظة التي ستحتضن فيها زوجها لأول مرة بعد أعوام عجاف، فقضت أيامها سابحة في ملكوت السماء تسأل متأملة غارقة في أحلام يقظتها، هل تراها تلتقي بعبد الكريم يومًا، أم أن هذا حلمًا صعب المنال، أم قريب يدنو. وهل تربطهما صورة التقطاها ذات يوم بحلم يدرج إلى الواقع، ربما!

هنا، حكاية الفلسطينية ليديا الريماوي، وزوجها الأسير عبد الكريم الريماوي، الذي فارقته منذ 18 عامًا، وجمعتهما صورة داخل أسوار السجن بعد كل هذا الفراق. لا يمكن لغير المفارق أن يعي هذه القصة، لأن الفراق مشاعر لا تترجمها الكلمات، وتخونها اللغة، ودموع لا تعبر عنها حروف متراصة، وحديث صامت في مكنونات الفاقد، ولكن قالوا قديمًا "مصير الحيّ مع الحيّ يتلاقى"، وهذا ما جسدته حكاية الحبيبان.

ليديا تحاول أن تمسك لسانها عن الحديث البريء الذي يعبر عن فرحتها بصورة جمعتها مع زوجها الذي اعتقله جيش الاحتلال "الإسرائيلي" بعد عام و4 أشهر فقط من زواجهما، وحتى اليوم، ليديا وعبد الكريم يفرقهما السجن ويجمعهما حب كبير.

تصف ليديا لـ بنفسج لحظة السماح لها بالدخول إلى غرفة التصوير في السجن لتلتقط صورة مع زوجها، وهذه المرة الأولى من 18 عامًا- أي منذ اعتقال زوجها-. لم تتحضر ليديا كأي امرأة تتنظر التقاط صورة جميلة لها، فلم تهتم بما ارتدته، وعلى أي شكل ستبدو، كل ما كان يتملّك قلبها وعقلها اللحظة التي ستحتضن فيها زوجها ولأول مرة بعد أعوام طويلة، فكان لقاء جزئيًا لأجل صورة داخل الأسر، على أمل يقيني بأنها ستلتقي به في صورة أخرى بعد نيله حريته، حيث لقاء يقسم فيه الزوجان ألا يعقبه فراق.

| تاريخ الصورة الأولى بعد الزواج [ 25-2-2018 ]

ليديا وعبد الكريم الريماوي، زوجان فلسطينيان حرمهما الاحتلال "الإسرائيلي" من حق العريش الطبيعي كأيّ أسرة أخرى.
 
إذ تم اعتقال الزوج بعد عام و4 أشهر فقط من الزواج، لتتمكن ليدا من معانقة زوجها للحظات فقط، بعد 18 عاما من الفراق، وذلك بعد أن سُمح لهما بالتقاط صورة مع بعضهما، لتكون هذه الصورة الأولى التي جمعتهما بعد الزواج. 

"منذ أن أخبرني زوجي الأسير عبد الكريم بأنه سيُسمح لنا بالتقاط صورة معًا، وأنا أفكر طويلًا كيف سألتقيه وجهًا لوجه، كيف سأضمه وأحتضنه، ماذا سأقول له، كانت فرحة لا يمكن التعبير عنها". وللقارئ أن يلمس الرجفة التي اعترت ليديا وهي تتحدث عن لحظات لا تتعدى الـ 5 دقائق جمعتها بزوجها، ثم أضافت: "25-2-2018" هو تاريخ لا يمكنني أن أنساه في حياتي، كيف أنسى يومًا جمعني بعبد الكريم بعد كل هذا الفراق المرّ، هذه الصورة كانت أول صورة تجمعنا بعد زواجنا".

عايشت ليديا كما الكثير من زوجات وأمهات الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، مرارة ما يُسمى "المنع الأمني" والذي يدرج من خلاله الاحتلال أسماء الكثير من الفلسطينيين، ويمنعهم من زيارة أسراهم ضمن الزيارات المقررة لهم، كما ويحرمهم من التقاط صور مع أسراهم مرة كل سنوات.

| ليديا بعفوية: عبد الكريم حبيبي

"أنني وعبد الكريم أحببنا بعضنا منذ الصغر، وأنهينا الثانوية العامة ومرحلة البكالوريس سويًا، ثم ارتبطنا بالزواج، إلا أن الاحتلال اعتقل عبد الكريم بعد عام وأشهر من زواجنا...
 
وحتى تاريخ الصورة أنا لم التقِ بعبد الكريم مثل هذا اللقاء الذي عجز لساني لحظته عن التحدث بأي شيء، كان كل همي أن أضع رأسي على صدر عبد الكريم، وأشعر بدفء حبنا الذي عمره أعوام وأعوام".

وتضيف في حديثها: "كان الزجاج فاصلًا بيني وبين زوجي في كل مرة أزوره فيها، كان تواصلنا خلال الزيارة عبر الهاتف، كنت أتمنى أن أسمع صوت عبد الكريم الحقيقي يناديني باسمي، هل تبدلت نبرته، هل أرهق السجن حنجرته، هل لفظ اسمي ظل على لسانه كما كان سابقًا، كنت متشوقة لأن أصافح يده ولو لمرة واحدة"، وبتعبير سقط سهوًا من فمها قالت: "عبد الكريم حبيبي"، وأردفتها ضحكة خجلة.

وعن سرّ إفصاحها عن حبها لزوجها وخجلها، وسر جمال بسمة عبد الكريم وليديا في الصورة، قالت لـ بنفسج: "بصراحة، أنا عادة لا أبتسم للصورة، ولكن صورتي مع عبد الكريم تبدو وكأني أضحك من أعماقي، والسرّ أنني وعبد الكريم أحببنا بعضنا منذ الصغر، وأنهينا الثانوية العامة ومرحلة البكالوريس سويًا، ثم ارتبطنا بالزواج، إلا أن الاحتلال اعتقل عبد الكريم بعد عام وأشهر من زواجنا، وحتى تاريخ الصورة أنا لم التقِ بعبد الكريم مثل هذا اللقاء الذي عجز لساني لحظته عن التحدث بأي شيء، كان كل همي أن أضع رأسي على صدر عبد الكريم، وأشعر بدفء حبنا الذي عمره أعوام وأعوام".

| بعض الخراب مفيد

بضحكة متوارية قالت ليديا خلال حديثها مع بنفسج: "عندما دخلت لأخذ الصورة مع عبد الكريم، كان كل جوفي يسألني كيف سأحتمل مثل هذه اللحظة، ومن حسن حظي أن الكاميرا أصابها خرابًا، فاضطر السجان "الإسرائيلي" للمكوث دقائق لإصلاحها، هذه الدقائق شعرت أنها كانت حياة أخرى مع عبد الكريم، احتضنته أكثر واحتضنني، حتى شعرت وكأنه يريد أن يدخلني في ضلوعه لشدة اشتياقنا".

| المجد يولد مجددًا

مدونة ليدا .JPG
صورة تجمع مجد مع أخته رند وأمه بعد أن أتم عامه السادس، ويلتحق بمقاعد الدراسة

نحن الفلسطينيون منحتنا الطبيعة خصوبة استثنائية على ما يبدو، تعويضًا عما نفقد بشكل استثنائي، ليديا كانت تحمل بطفلتها رند عندما اعتقل الاحتلال زوجها عبد الكريم عام 2000 وحكم عليه بالسجن 25 عامًا، ولكن الحب الذي جمع عبد الكريم وليديا جعل من آلامهم أملًا للحياة، فقررا إنجاب طفل عبر "النطف المهربة"، أو ما يسميهم الفلسطينيون "سفراء الحرية"، وكان عبد الكريم ثاني أسير يخوض هذه التجربة بعد مبتكرها الأسير عمار الزبن.

كان عام 2013، عام المجد الذي يولد من جديد بالنسبة لعائلة عبد الكريم، إذ أنجبت زوجته ليديا طفلها عبر "النطف المهربة" وأطلقوا عليه اسم "مجد" ليكون أسطورة المجد المتجدد رغم الألم والقهر الذي تحياه العائلة المشتتة ما بين الأسر والحرمان. كان مجد بصيص أمل جديد ترتعش فيه القلوب وتتيقن أن فجر حريتها يقترب، وأن لا بد من حرية جسدية يحياها كل أسير مكبل الجسد في سجون الاحتلال، وفكره ما زال يقاوم!