بنفسج

طوفان الأقصى: هوامش على متن المعركة

الثلاثاء 12 ديسمبر

رغم مرور معظم الأيام بطريقة متشابهة إلّا أن في حياة الأشخاص والأوطان سنواتٌ فارقة تغيّر التاريخ، وكما كان ٢٠٢٠ عامًا فارقًا بعد كورونا وما غيّرته في العالم، فقد أتى عامنا هذا ٢٠٢٣ ليجعلَ التغيير هذه المرة متعلقًا بجهود بشرية لا بكوارث وأمراض خارجة عن إرادتهم فحسب.

بدأ عام ٢٠٢٣ بزلزال مُدمّر ضرب سوريا وتركيا، وما تزال مشاهده المؤلمة عالقة في الذاكرة، بل إن كثيرين غيّروا حياتهم وطريقة تفكيرهم بعد الزلزال، وعاهدوا أنفسهم على العيش بأسلوب جادّ مفعم بالتوبة والانتباه إلى أصغر النعم، وأدق تفاصيل هِباتِ الله اليومية بدلًا من الانتباه إليها بعد فقدانها كما حدث عندما ارتجّت الأرض، فذكّرتْنا أنها ليست ثابتة بإرادتنا بل بمنّة من الله تعالى.

في منتصف العام عانت ليبيا والمغرب العربي من كوارث مشابهة ما بين زلازل وطوفانات، فجرّبَ العرب والمسلمون الموتَ غرقًا والموت باهتزاز الأرض، أو النجاة والعيش بعد الخروج من تحت سقف سقط أو بيت غرق.لكنّ الحدث الأبرز في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام وقعَ في السابع من أكتوبر ولُقِّب بـ طوفان الأقصى

طوفان الأقصى: الحدث الأبرز لعام 2023

القدس.jpg
كاريكتور حول طوفان الأقصى للرسام والطبيب الفلسطيني علاء اللقطة 

إلا أنّه لم يكن خارجًا عن الإرادة هذه المرة كشأن الأحداث السابقة، بل ارتبطَ بتخطيط، وعزم على قلب موازين القوى واستعادة المبادرة لتحرير الأسيرات الفلسطينيات ووضع النقاط على الحروف في مسألة الحقّ ومن هم أصحابه.

ومع أنه حدثٌ وقع في نهاية السنة إلا أنه بالتأكيد تطلّب تخطيطًا حثيثًا لسنوات، وهذا يعلمنا درسًا بأنّ الأحداث العظيمة تبدو عند رؤيتها مفاجئة، لكنّها بعد دراستها والتعمق فيها تخبرنا كم احتاجت من جهود وعرق وتعب وربما دماء عندما يتعلق الأمر بفلطسين وأقصانا الغالي.مما يعني بتفصيلٍ أكثر أن المسافات الطويلة تُقطَع بخطوات قصيرة صغيرة، نبدأ اجتياز الطريق بأول خطوة نخطوها وذلك ينطبق على الحياة بكامل حكاياتها كما ينطبق على أمتنا وقضاياها.

وبالمقابل، لا يتعلق الأمر بالجهد المبذول قبل بدء الرحلة، بل بالثمن المدفوع بعدَ بدئها، وقد تجلّى ذلك في الحرب التي شنّها العدو الصهيوني على مدينة غزة في أكتوبر. وهنا تجدر الإشارة إلى عدة نقاط:

أولًا: الحكومات الغربية ليست متخاذلة بل هي جزء من العدوان

كاريكتور1.jpeg
كاريكتور حول طوفان الأقصى 


 

لا يصح أن نصف العالم بالمتخاذل عندما نشير للحكومات الغربية لأنهم مشاركون أساسيون في تقتيل إخوتنا وداعمون للصهيونية ليس منذ الآن فحسب بل منذ نشأتها، ولعل هذا الحدث أتى ليذكرنا بأن انجرارنا وراء شعاراتهم اللماعة آنَ له التوقف، فالإنسانية مصطلح ابتكروه هم، بينما من يطبقه في الحقيقة هم المسملون، وقد شهدنا ذلك بأعيننا عند المقارنة بين صور الأسرى العائدين من غزة والذين عوملوا أفضل معاملة، وصور أسرانا نساءً وأطفالًا ورجالًا من الذين أفرج عنهم الاحتلال وآثار الأمراض والتعب النفسي والأذية الجسدية واضحة عليهم.

علينا أن نكفّ عن الانبهار بحضارتهم خاصة إن بنينا انبهارنا على أسس حالمة غير موضوعية وغير متعمقة في دراسة الحالة وأسبابها، فالحضارة التي أُسست بالإجرام لا تُعتبر موضع إعجاب مهما استفدنا من تجاربهم الحديثة، لا يجب أن نغفل عن كون بعضهم مشجِعًا ومصفقًا لقتلنا وبعضهم الآخر مغيّبًا عن حقيقة حضارتهم وقد كشفت لهم حرب غزة من هم المجرمون الحقيقيون وكيف أن الإرهاب لم يكن في أي يوم تابع لنا، أقصد المسلمين.

ثانيًا: كون أغلب المسلمين خارج غزة لا يعني أنهم خارج المعركة

ولمّا كان من المستحيل أن يكون كل أبناء القضية مقيمين في البقاع الفلسطينية فهذا أوجبَ على من كُتبت له الولادة خارجها حربًا من نوع آخر.
 
يبدأ دورنا بإعادة فهم تاريخ قضيتنا وربطه بالحاضر ومن ثمّ المستقبل، ثم يمتد هذا الدور ليشمل الدعاء، وما بعد الدعاء من مقاطعة للمنتجات المعادية، ونُصرة للقضية كلٌّ بأسلوبه.
 

السواد العامّ من الناس قد يكونوا مغلوبين على أمرهم، وهم بالتأكيد يقفون في صف فلسطين والأقصى وأهالينا في غزة، فهم بوصفهم شعوبًا عربية مسلمة لم يريدوا أن يتخاذلوا، ولا أن يصمتوا عن الجرائم المُرتكَبة بحق إخوانهم.

ولمّا كان من المستحيل أن يكون كل أبناء القضية مقيمين في البقاع الفلسطينية فهذا أوجبَ على من كُتبت له الولادة خارجها حربًا من نوع آخر، يبدأ دورنا بتدبُّر ما يحدث والتعلم من الدروس التي نتجت عن الحرب الأخيرة، يبدأ دورنا بإعادة فهم تاريخ قضيتنا وربطه بالحاضر ومن ثمّ المستقبل، ثم يمتد هذا الدور ليشمل الدعاء، وما بعد الدعاء من مقاطعة للمنتجات المعادية، ونُصرة للقضية كلٌّ بأسلوبه، ويظل دورنا يمتدّ ليصل إلى ما يخص أعماق نفوسنا الإنسانية، فالمعارك تحدث الآن، إلا أن نتائجها تستمر طويلًا مثلما يتم الإعداد لها طويلًا كما سبق وأسلفنا، وحربنا لن تأخذ على الدوام شكلَها هذا، بل تتعدّد صورها، وإذا أُجبرنا أن نكون في موضع المتفرج اليوم فغدًا قد نكون في موضع الفاعل وهذا ما علينا الإعداد له، بإصلاح أنفسنا وتقويتها في مجالاتنا الخاصة لأنّ كل إنسان يُحارب على ثغره الذي كُتب له.

ثالثاً: أهل غزة الأبطال: كلمةُ حقّ لا يراد بها باطل لكنها تحتاج لشرح مطوَّل

المشاهد المحرِكة للقلوب التي تردنا وفيها آباء وأمهات صابرون محتسبون تعلّمنا الكثير حول الإيمان والصمود والتسليم بقدر الله تعالى، ومع ذلك يجب ألّا ننسى أن وقع الصدمة عليهم قد يدفعهم للتصرف بهدوء بدلًا من الانهيار والبكاء
 
وحين يحدث ذلك علينا أن نتوقع أنهم يضعفون وينهارون لاحقًا في وقت قد لا تتوفر فيه الكاميرات لتصويرهم ونقل معاناتهم لنا، وعدم وصول مقاطع وصور لانهيارهم لا يجب أن يُغفِلنا عن معاناتهم.

أثناء إعجابنا بصمود وصبر أهالينا الكرام في غزة يجب ألا ننجرف لاعتبار هذه البطولة واجبًا عليهم، وألا نظنّ بأن مجرد وصفهم بالأبطال ونحن جالسون في أمكنتنا يكفي ليشرح قصة الألم والدم الطويلة.

المشاهد المحرِكة للقلوب التي تردنا وفيها آباء وأمهات صابرون محتسبون تعلّمنا الكثير حول الإيمان والصمود والتسليم بقدر الله تعالى، ومع ذلك يجب ألّا ننسى أن وقع الصدمة عليهم قد يدفعهم للتصرف بهدوء بدلًا من الانهيار والبكاء وحين يحدث ذلك علينا أن نتوقع أنهم يضعفون وينهارون لاحقًا في وقت قد لا تتوفر فيه الكاميرات لتصويرهم ونقل معاناتهم لنا، وعدم وصول مقاطع وصور لانهيارهم لا يجب أن يُغفِلنا عن معاناتهم، من الضروري بل والواجب ألّا نغترّ بالمشهد الأول الذي نراه، لأنه يُلحَق بالكثير من الألم وليالي الأرق وربما الشعور بالحزن إذا كانوا قد نجوا وحدهم وفقدوا عائلاتهم.

نحن لا نقول بأنهم ليسوا أبطالًا، بل هم كذلك، لكننا لا يجب أن نقولها بإعجاب يخلو من الفهم، فلو طبّقنا الأمر على أنفسنا لاستدركنا كمْ مرة تلقينا فيها خبرَ فقدِ أحد الأحبة؛ فسلّمنا به في البداية وعجزنا عن الانهيار، ثم فجأة كشفت لنا الأيام صعوبة ما مررنا به ووجدنا أنفسنا ننهار بعد كبت وتراكم، هذا بالنسبة لحدث موت طبيعي، قيسوا الأمر على الموت الجماعي أثناء الحرب وما يصحبه من تنكيل وأذى نفسي وجسدي.

البطولة لا شكّ فيها، لكنّ الناظر من بعيد يغفل عن أعماق الفاجعة، كلّ الآباء والأمهات والأطفال الذين شاهدناهم هم بحاجة دائمة لمن يطمئن عليهم وقد لا يتوفر لهم ذلك في الحقيقة، كل هؤلاء بل كل من حضر الحرب ووثقها وعاش تفاصيلها المَهولة بحاجة للدعاء وللمساندة النفسية وقبل ذلك للمعيّة الإلهية كي لا يفقد توازنه إزاء الفظائع التي أرهقتنا ونحن وراء الشاشات فكيف بهم وهم يعيشونها؟

نحن لا نقول بأنهم ليسوا أبطالًا، بل هم كذلك، لكننا لا يجب أن نقولها بإعجاب يخلو من الفهم، فلو طبّقنا الأمر على أنفسنا لاستدركنا كمْ مرة تلقينا فيها خبرَ فقدِ أحد الأحبة؛ فسلّمنا به في البداية وعجزنا عن الانهيار، ثم فجأة كشفت لنا الأيام صعوبة ما مررنا به ووجدنا أنفسنا ننهار بعد كبت وتراكم، هذا بالنسبة لحدث موت طبيعي، قيسوا الأمر على الموت الجماعي أثناء الحرب وما يصحبه من تنكيل وأذى نفسي وجسدي.

تذكروا أن الحرب تضطرهم لكبت مشاعرهم لأنّ الحزن لحظة الحرب هو بحد ذاته رفاهية، ورغم أننا لا نتمنى لهم سوى الطمأنينة إلّا أن المتوقَع في الغالب أن لحظة توقف الحرب ستريهم كمَّ ما فقدوه جليًا وهذا ما حدث بشكل مُصغَر في الهدنة، عندها سينفضّ المصفقون لبطولتهم من وراء الشاشات وسيكون عليهم عيش بقية الحياة الطويلة ومشاهد فظيعة ترافقهم، فإن لم نستطع مرافقتهم فمن المؤكد أننا لن نعجز على الدعاء لهم بتخطي صعوبات الحرب وكذلك صعوبات ما بعد الحرب.

لقد فقدوا أنفسهم وقطعًا من أجسادهم وأحبتهم وبيوتهم وأعمالهم، لن يكون سهلًا النظر إلى مدينتهم الحبيبة بعد انتهاء الحرب وإدراك كل ما فقدوه، لذا وجب علينا ألا نبالغ في تحميلهم همَّ ومسؤولية البطولة، الأهمّ أن نساعدهم وندعو لهم ونهتم بشفاء جراح قلوبهم قبلَ ومع السعي لمداواة جراح أجسادهم.

الملخَص أنهم وإن كانوا أبطالًا فهذا لا يعني ألّا نخاف عليهم أو أن نتصورهم فوقَ البشر في تلقّيهم للفواجع، إنهم مثل أي إنسان فُجع في لحظة الزلزال أو الحريق أو الطوفان الذين سبق وأن ذكرناهم في البداية، الإنسان مفطور على الضعف والحزن والتشّكي، فعندما يُظهرون عكس ذلك يجب أن نقلقَ وننطلق للمعونة التي نستطيع تقديمها دون إثقالهم بلقب الأبطال بحيث يصبح عبئًا إضافيًا عليهم.نسأل الله ألّا ينتهي العام إلا وأمانهم مُحقق ومدينتهم آمنة، وأن يكون حدثَ عامِنا ممهدًا لعزة ونصر شاملين في السنوات القادمة.