بنفسج

محطات في طريق العلم: حين تجمعنا الاختلافات

الأحد 14 يونيو

جيسيكا، طالبة تدرس تخصص الكيمياء الحيوية، ذكية جدا، مسيحية الديانة، مساعدة تدريس في الجامعة منذ سنتها الجامعية الثانية، وهي كذلك في سنة التخرج من مرحلة البكالوريوس، نشرت ورقة بحثية والثانية على الطريق، نتفق أنا وجيسيكا في أمور كثيرة تهم المرأة ونتفق أنا وهي أيضا بكل ما يتعلق بالبحث العلمي، ونختلف أنا وإياها على أشياء لم تعد تعنيني بعد أن تعرفت عليها ورأيت حيويتها المتقدة.

جورج، طالب في الهندسة الكهربائية عاد إلى مقاعد الدراسة بعد أن خدم في الجيش الأمريكي كتقني محترف في تصليح أنظمة البرمجيات، يهودي الديانة، أمريكي الجنسية، أب متزوج من فتاة كورية مسيحية الديانة، ورزقا من الأبناء بنتًا جميلة جدًا وذكية جدًا تعرفت عليها شخصيًا. حدثني جورج كثيرا كيف تعلم اللغة الكورية من أجل زوجته، لقد سمعته مرارا يتكلم بالهاتف باللغة الكورية، وهو يتقنها تمامًا.

أشترك وجورج في مادة بحث في الكيمياء، كما يتطوع هو في تركيب جهاز يصدر موجات ضوئية لتسريع تفاعل في داخل الخلايا أعمل عليه في رسالتي. كما نشترك أنا وجورج في أمور أخرى كالأكل الحلال أو "الكوشِر" في الثقافة اليهودية، ونتفق في نظرتنا نحو الأسرة ودورها في المجتمع، كما أننا نتفق في كل ما يتعلق بالبحث العلمي، ونختلف في أشياء لم تعد تعنيني بعد أن تعرفت على جورج واختبرت إنسانيته وذكاءه.

ويل شاب رياضي جدًا، أراهن بأنه يحفظ أسماء كل اللاعبين منذ أن نشأت لعبة كرة القدم! كما يدفعني إلى الجنون عندما أسمع حديثه مع زملائه حول خطط كل فريق في كل دوري، وكيف لكل فريق أن يحسّن أداءه، إلى آخره من المعلومات الرياضية التي يستمتع الرجال في حفظها وسردها.

ويل في سنته الثالثة في الكيمياء الحيوية، مسيحي، يصغرني بأكثر من عشرة أعوام ويكبرني بأكثر من أربعة أضعاف طولي وحجمي. نتفق أنا وويل في أمور كثيرة منها: عشقه للأكل الفلسطيني، وحبه الشديد لملك الملاعب المصري محمد صلاح، ونتفق أيضا بكل ما يتعلق بالبحث العلمي والدراسة، ونختلف في أشياء لم أعد أرغب في معرفتها بعد أن رأيت كيف يضفي هدوؤه وقلبه الكبير الطمأنينة في المختبر.

نيناد، طالب دكتوراه هندي الأصل هندوسي الديانة. ذكي جدًا جدًا، حتى أني أغار من ذكائه ولا أفوت فرصة مرافقته في مختبره أثناء تصليحه لأحد الأجهزة المخبرية حتى أتعلم من خبرته، متزوج وأب لطفلة جميلة تبلغ من العمر خمس سنوات.

سيتخرج الفصل القادم من تخصص الكيمياء التحليلية وسيحصل بموجبها على شهادة الدكتوراه فيها. لا يمر يوم دون أن يعرض مساعدته علي في أي شأن، نجلس أحيانا في مختبري بانتظار عيناتي أن تجهز على كوب من الشاي لاستمتع بكلامه عن كتب يقرؤها وعن أفكار يعصفها، وكأني أزور الهند كل يوم يبدأ فيه نيناد بالكلام، نختلف أنا ونيناد في أمور لم تعد تعنيني مذ أن أحببت عقله المتزن، وعطاءه اللامحدود.

جيكوب طالب ماجستير في الكيمياء العضوية، عبقري جدًا جدًا وهوعلى وشك ابتكار مواد محفزة جديدة قد تجعله مليونير المستقبل، رياضي سابق، لكنه توقف عن الرياضة بسبب الإصابة. جايكوب طفل صغير بجسم ضخم. يقرأ عشرات كتب الشعر سنويًا، شاعر من الطراز الأول ، يتقن منح شعور الأخ بشكل عبقري كعقله الذي يحمله، لا أذكر أنني اختلفت معه في شيء ولا يستطيع عقلي استحضار الاختلاف معه.

أبو بكر قوياتيه، طالب ماجستير كيمياء، لقبه بكل الجامعة " أبو" مسلم أمريكي من أصول أفريقية، من دولة سيراليون، أكبره بأكثر من أربعة عشرة عاما. نتفق أنا وإياه في الديانة، وعشقه الشديد للطعام. "أبو"، لطيف يلقي نكاتًا لا حصر لها، ويردد حينها: " لا إله إلا الله " بلغة متكسرة جدًا، تجعلني أضحك في كل مرة يقولها كأنني أسمعها لأول مرة. أختلف أنا وأبو في أشياء كثيرة، ولكن لا يهمني أبدا بعد أن رأيت فيه أخا رائعا وصخرة صلبة، وكأننا تربينا في نفس المكان أو البيت.

وأخيرا أنا فاطمة باجس، مسلمة الديانة، طالبة الدكتوراه في سنتي الثانية، أدرس التغيرات التي تمر بها بعض البروتينات داخل الخلية والتي تسبب أمراضًا مزمنة مثل: الزهايمر. أحب الطعام والكلام كثيرا، أحب اختلافي هنا في غرفة مختبري، لأن اختلافي أمن لي مساحة كبيرة جدًا من الخبرة والتميز.

تقبلي للاختلاف من حولي يجذب الفضوليين لسؤالي ما يخجلون أن يسألوه لآخرين لا تجمعهم بهم سابق معرفة، ولكم أن تشعروا كم يسعدني الدخول في نقاشات سياسية، حيث أن تبادل الحديث مع أولئك الذين يتقنون فن النقاش أمر رائع جدًا، وشيء أفتقده جدًا خارج إطار المؤسسات التعليمية الأجنبية، وبالطبع هذا يسعدني لأنني أحب الكلام!

هكذا إذن! أنا وكل من ذكرت وغيرهم سبعة أو ما يزيد من الطلاب والطالبات، تجمعنا غرفة صغيرة ضيقة لا تزيد مساحتها عن مترين في ثلاث أمتار، تجمعنا الأرضية الصغيرة في مساحتها الرحبة في أجوائها.  

مختبرنا يا أعزائي يشبه سنغافورة صغيرة الحجم. ولسنغافورة تاريخ حافل بالمهاجرين؛ فسكانها الذين يصل تعدادهم إلى خمسة ملايين، هم خليط من الصينيين والملايويين والهنود وآسيويين والقوقازين من ثقافات مختلفة. كيف لكل هذا الخليط أن يجتمع في مساحة واحدة دون مشاكل؟ كيف لكل هذا الكم من الاختلاف في كل جوانب الحياة أن يصنع من أيامنا جمالًا ملونًا بكل ألوان الطيف؟ أعتقد أنه العلم! العلم يوجّه بصر الإنسان وبصيرته إلى الهدف الأسمى، إذ لا يلتفت المتعلم نحو ما قد يستنفد طاقته ويستنفد الجهد، وكثير من العقبات التي أودت بعقولنا أعواما إلى الوراء.

العلم يجمعنا ويوجهنا ويعيننا على البناء والتجاوز. ستتلاشى كثير من المصاعب والمشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا؛ عندما ندرك أننا لا بد من أن نقف على أرضية المعرفة العلمية التي تفتح لنا الطريق الأسهل والأقل وعورة، والغد الذي ننشده لأبنائنا وللأجيال القادمة. ما أجمل أن نجعل من اختلافنا طيفًا جميلًا يضفي سعادة على قلب كل من يعيش أجواء هذا النور، كطفل يرقص فرحًا برؤيته قوس قزح بعد يوم غائم وممطر.