بنفسج

عندما نسيت النص بأكمله!

الثلاثاء 16 يونيو

إن الإنسان يمضي حياتهُ ضمن محطاٍت كُثُر، وفيها تُختزل تفاصيل عديدة، تظهر مدى نضجنا مع الأيام، ففي المدرسة، كانت أحلامنا صغيرة ومتواضعة جدًا، كبُرنا وباتت أحلامنا أكبر وأكثر تعقيدًا.

عزيزي/تي القارئ/ة هذه المادة أدناه ترصدُ تطور حياة شخٍص ما، وإن كنت مهتمًا ما عليك سوى القراءة!

سُئلت مرة: "ماذا أعطتكِ المدرسة؟"، أجبت وبكل بساطة: إن الإنسان يمضي حياتهُ ضمن محطاٍت كُثُر، وفيها تُختزل تفاصيل عديدة، تظهر مدى نضجنا مع الأيام، ففي المدرسة، كانت أحلامنا صغيرة ومتواضعة جدًا، كبُرنا وباتت أحلامنا أكبر وأكثر تعقيدًا، ولعل التجربة التي قد ألخص فيها مرحلة طفولتي؛ صعودي لأول مرة على الإذاعة الصباحية، كنت آنذاك في الصف الأول.

 أذكر وقتها أنّي كدت أسمع صوت دقات قلبي تتهافت شيئًا فشيئًا، أسابيع من التحضير والحفظ، على دفتري الصغير الملون كُتبت حروفًا لا تتجاوز نصف الصفحة، وما أدراكم ماذا فعلت بي هذه الصفحة!

إنه صباح "اليوم المفتوح" في مدرستي؛ حيث الجميع في حالة تأهب وانتظار للفقرات المتنوعة، وعلى رأسها كانت واحدة تخصني، خرجت، وقفت أمام هذا الجمع الغفير، وإذا بي أقف صامدة كما لوح خشب دون أن أهمس ببنت شفه، نسيت النص بأكمله!  

عدت إلى أدراجي وسمعت ضحكاتهم في الخلف، عندها لم أدرك أن اختياري لتخصص الصحافة كان قطعًا بالحُسبان، برائتي راقت لهم، وأنا لأجلها لم أكترث، وابنت الست سنوات أكملت يومها وكأن شيئًا لم يكن.

تمُر السنين، ونودع الطفولة التي نتمنى أن تعود، وغيداء أصبحت في الصف الثامن حيث مرحلة إثبات الذات تظهر وبشكل جلي عليّ وعلى بقية أقراني، نقرأ في المدرسة عن مرحلة المراهقة وما تلازمها من ملامحَ تكبُر فينا فجأة، ولأكون صريحة معكم، لم أعِش ولو للحظة كل ما كان يُحكى عن "المراهقة" وإن كان علمًا!

إذ لازمت المناظرات الشعرية، وكسرت حاجز الخوف وبات ظهوري مألوفًا على الإذاعة الصباحية، أما عن المشاعر التي تعتريني فهي ذاتها لم تتغير في كل مرة.  دخلت عالم المنافسة من أوسع أبوابه، وكنت الحريصة على الخروج بأقل الأضرار.

في حصة "التربية المدنية" تطلب منا أستاذتَنا أن نقدم عرضًا عن فكرة معينة من وَحي المجتمع، وفي نهاية الأمر، سوف يقع الاختيار على ثلاثة عروض ستتم مناقشتها، صدقًا لم أفكر في هذه الجزئية بقدر تفكيري المنهمك في تقديم أفضل ما عندي، وبهذا يكون عرضي المرفق بفلٍم قصير عن ذوي الإحتياجات الخاصة واحدًا من تلك التي ستُناقش، فرحت جدًا لأنني لم أكن أتوقع هذه النتيجة، وإن كانت مغايرة، فسوف أتقبلها بكل روٍح رياضية، ومنذ ذلك الحين باتت ثقتي بنفسي تزداد تجربة تلو الأخرى.

كم أتمنى أن أملك تلك الخبرة الكافية التي تخولني فيما بعد لأطور نظرية ما، لكنني فعلت! وكونت واحدة تخصني مفادها أن الإنسان لا يستطيع أن يكبر بعيدًا عن أحلامه؛ صغيرًة كانت أم كبيرة؛ ففي صغري تمينت أن أصبح عالمة آثار، أو محامية، إلا أنني وبعد اكتشافي لإحدى مواهبي الدفينة قررت أن اتجه إلى الصحافة والإعلام لأنني أدركت أن في الكتابة حيوات وعوالم بحاجة إلى أن تكتشف. وبما أننا تطرقنا لهذا الموضوع؛ يحدث وأن تلمح إحدى مخطوطاتك البديعة في صغرك لتدرك كم تغيرت؛ وأنا كما المعتاد تخيلت أن لي صديقة على هيئة فراشة إلا أنها أُكلت من قبل عصفور!

لا أدري أي جزئية نالت استحسان معلمتي؛ خيالي الواسع، أم صديقتي التي خسرتها بسبب هذا العصفور، لكن لا أخفي عليكم، شعرت بالفخر الشديد مثلما أي طفل يسلم واجبه، أما عن مغامراتي في الصف الثاني يا أحبائي، قيامي برسم جدي وجدتي، وها أنا ذا أعتذر لهم، لأن لوحتي شابهت كل شيء إلا هما، إلا أنها فاضت بالمشاعر.   

ومن الرسم، الكتابة، والوقوف على أطلال ذكريات الطفولة إلى واحدة من أكثر المراحل استفاضة بالتفاصيل، وهنا أتعجب من مقدرتنا العظيمة على التشبث بأدقها، وفيها نسير تاركين خلفنا جملة من الصور والأحداث التي بدت لنا صغيرة؛ كبرنا وما عادت تعني لنا شيئًا، إلا أنها في حقيقة الأمر أسهمت في صقل شخوصنا؛ أي، ما نحن عليه الآن، أنا نسيت الفراشة والعصفور، نسيت لوحتي الفنية في الصف الثاني، لأنني وبمجرد دخولي أسوار الجامعة لم أملك سوى ثِقتي، تواضعي وهدفًا واحدًا فقط؛ أن أثبت نفسي.

تحولت من تلك التي استطاعت أن تنهي تقريرها الصحفي الأول وهي في المدرسة، إلى تلك التي تكتب على أكثر من منصة إلكترونية وهذه إحداها، وإلى من تخرجت بدرجة جيد جدًا، ونالت احترام أساتذتها وأصدقائها، ونعم لُقبت بِ "نيرد الدائرة". لا تجعل من حياتك ذاكرة لا تفاصيل فيها، بل اجعلها تضج بالكثير منها!