بنفسج

بعجلات كرسيها المتحرك: عبير الهركلي تعتلي خشبة المسرح

الأربعاء 17 يونيو

رمقت المدرسة عبير بنظرة تعجب، وأردفتها بإشارة من سبابتها من أسفل؛ حيث قدما عبير المتصلبتان، وقالت: "أنتِ؟! طيب بس تقدري تحركي حالك يا عبير، بعدين بتمثلي دور البطل!".

شرعت معلمة اللغة العربية، بتوزيع أدوار الاسكتش المسرحي على طالبات الصف الخامس الابتدائي لتأديته في طابور الصباح، وما إن جاء دور اختيار البطل، حتى رفعت عبير يدها بعد، أن أزاحت كرسيها المتحرك باتجاه الصوت، وأخذت تحاول مطّ قامتها رافعة صوتها أنا.. أنا يا مسّ!

رمقت المدرسة عبير بنظرة تعجب، وأردفتها بإشارة من سبابتها من أسفل؛ حيث قدما عبير المتصلبتان، وقالت: "أنتِ؟! طيب بس تقدري تحركي حالك يا عبير، بعدين بتمثلي دور البطل!". خيّم الحزن على قلب الصغيرة، بعدما باغتتها سهام كلمات مدرستها على مسامع زميلاتها، إلا أن شغفها بالمسرح دفعها لتكرار مطلبها من جديد: "بس جربيني مرة وحدة، وشوفي كيف أدائي".

على مضض، وافقت المدرسة، وهنا كانت المفاجأة عندما صعقت عبير معلمتها تلك، ببراعة الأداء، وسرعة البديهة، لتصبح منذ ذلك اليوم بطلة لكل الأعمال المسرحية داخل المدرسة.

عبير الهركلي (25عامًا)، عانت منذ ولادتها من شلل في أطرافها السفلية، إلا أنها لم تستسلم لقدرها؛ فعشقت المسرح، ومارست عدة رياضات، مثل: تنس الطاولة، والكاراتيه، وكرة السلة، حتى أصبحت عضو منتخب فلسطين لكرة السلة. أما اليوم، فتصعد الشابة، صاحبة الابتسامة المريحة، بعجلات كرسيها المتحرك على خشبة المسرح من جديد، لتعيد أمجاد البطولة المدرسية، وتحقق حلمًا ما انفك يلاحقها، وإن بعد حين.

من أين أتت عبير بتلك الجرأة؟ وهي التي تعيش تفاصيل الخوف منذ ولدت، في بيتٍ يلقي الرصاص تحية الصباح عليه يوميًا، قرب السياج الفاصل مع الاحتلال الإسرائيلي، شرقي حي الشجاعية بمدينة غزة، هذا ما سنسمع إجابته منها عبر الأسطر التالية:

 أمام المرآة

 
عبير الهركلي (25عامًا)، عانت منذ ولادتها من شلل في أطرافها السفلية، إلا أنها لم تستسلم لقدرها؛ فعشقت المسرح، ومارست عدة رياضات، مثل: تنس الطاولة، والكاراتيه، وكرة السلة، حتى أصبحت عضو منتخب فلسطين لكرة السلة. أما اليوم، فتصعد الشابة، صاحبة الابتسامة المريحة، بعجلات كرسيها المتحرك على خشبة المسرح من جديد، لتعيد أمجاد البطولة المدرسية، وتحقق حلمًا ما انفك يلاحقها، وإن بعد حين.

أمام مرآة غرفتها، كانت عبير تعيش ضمن كادر مشهدٍ دراميٍ كامل، تتقمص أدوارًا كانت تعجبها عبر التلفاز، وتقلّد من فيها بالصوت، والتعبيرات والملامح، تتخيل المخرج والمصوّر أمام عينيها، فإن أخطأت تعيد الكرة، هكذا حتى تتقنه. تقول: "لا أذكر أني اهتممت بضحكات إخوتي من حولي، تخيلوا، كنت أستعيض عن حركات الأقدام التي تتطلبها بعض المشاهد، بحركات اليدين والأصابع".

بدأت عبير في كتابة النصوص، والأدوار المسرحية، في الصف الأول الإعدادي، وحين كانت تعرضها على مديرة المدرسة، لعل طالبات ينفذنها على منصة الإذاعة، كانت توافق فورًا، وهذا كان بالنسبة لها حافزًا لا يمكن إغفاله.

بعبارات الثناء، تذكرت عبير تلك المديرة العطوفة: "الله يرحمها، كانت تغمرني بحبها، كان تحفيز الإبداع بالنسبة لها قناعة لا تتجزأ، ولا تفرق بين ذي إعاقة أو معافى"، متابعةً: "لم أتقوقع حول ذاتي، أو حالتي الخاصة في اختيار أفكار الاسكتشات، أو المشاهد التي كنت أقدمها للمسرحيات، فكانت الأفكار متنوعة، منها الوطنية ومنها التربوية التي تعالج السلوكيات الخاطئة، كنت أتلقى التشجيع والتحفيز، من مدرساتي، وزميلاتي على الدوام".

 قصف الكرسي وترميم الحلم

46443406_1471656432977941_6913645329233477632_n.jpg
عبير على خشبة المسرح

تطور أداء عبير شيئًا فشيئًا، حتى أنهت دراستها الثانوية، وخطت أولى خطواتها في قسم الإعلام بجامعة الأقصى بغزة، والذي كان يمثل ضمن تفكيرها، مفتاحًا لخوض مجال التمثيل المسرحي الذي تحبه.. لتوقف الحرب الحلم، "مع سبق إصرار وترصد".

نجت عبير من الموت بأعجوبةٍ خلال عام 2014م، عندما كانت القذائف تنهمر بالقرب من بيتهم طوال ساعات الليل، لتصحو العائلة على مشهد مجزرة، لا تنساه بطلتنا حتى يومها هذا.

"حاول الجميع الهرب، لكن والدي المسنّين أتيا وحملاني على كرسيي المتحرك، كي يخرجانني معهم، قبل أن تسقط قذيفة قريبة، فترفعني مع كرسيي نحو السماء ثم تسقطنا أرضًا، كان الموت قريبًا جدًا، لولا أنني ابتعدت عن الكرسي زحفًا بمساعدة أبي، قبل دقيقة فقط من سقوط قذيفة أخرى على كرسيي وتدميره"، تزيد.

وتعلق عبير بعد أن ذرفت دمعة: "لعل هذا المشهد هو الذي يحركني اليوم باتجاه تحقيق الحلم. بداية، بالكرسي المحطم، مرورًا بقدمي التي تنزف، وانتهاء بي في مدرسة إيواء بلا كرسي، ولا حتى عكاز".

هاتف أخرس!

عمو أنا بدي أسجل في الدورة، لكن أنا صاحبة احتياج خاص، هل تقبلون بي"، على الجانب الآخر من السماعة، كان المخرج الفلسطيني عصام شاهين يتحدث مع عبير، رد عليها: إنت عندك إحساس ومشاعر وعندك طموح؟ ردت عبير بالطبع، فرد عليها عصام بعبارات الترحيب والقبول: "يبقى شو المشكلة؟ وين الإعاقة في الموضوع؟".

بعد الحرب، عادت عبير إلى الحياة بكرسي جديد، ومعها الأمل بفنٍ جميل ستصنعه في فلسطين، طالما أن في العمر بقية، بدأت عبير تتواصل مع الفنانين والمخرجين في قطاع غزة، طالبة منهم الصعود على خشبة المسرح، وكانت الإجابات جميعًا تأتيها على نفس هيئة سهام تلك المعلمة التي درّستها في الصف الخامس.. "للأسف ما بقدر أعطيكي أي دور"!

بحسرة تضيف عبير: "في هذه الفترة كان جوالي أخرسَ طوال العام، لم يكن يدق جرسه إلا في يوم المعاق الفلسطيني في الثالث من ديسمبر، كان المتصل معروفًا والطلب محفوظ، ألو: عبير بدنا إياكي تمثلي دور المعاق في المسرحية، على مضض كنت أوافق، لقد كانوا يستغلون وضعي لإنجاح أنشطتهم، ثم يتركونني طوال أيام العام".

بدأت أرفض طلبات المتصلين، وكنت أجيب عن أي دور يتحدث عن الإعاقة بالقول: "أنا تركت الفن، وما إلي علاقة فيه بعد اليوم"، هكذا حتى صادفت عبير إعلانًا نشرته صفحة تحمل اسم "تياترو فلسطين" عبر الفيس بوك، تتحدث عن بدء التسجيل في دورة احتراف التمثيل المسرحي، وهذا أثار في قلبها الحنين والشجن من جديد، فقررت الاتصال.

"عمو أنا بدي أسجل في الدورة، لكن أنا صاحبة احتياج خاص، هل تقبلون بي"، على الجانب الآخر من السماعة، كان المخرج الفلسطيني عصام شاهين يتحدث مع عبير، رد عليها: إنت عندك إحساس ومشاعر وعندك طموح؟ ردت عبير بالطبع، فرد عليها عصام بعبارات الترحيب والقبول: "يبقى شو المشكلة؟ وين الإعاقة في الموضوع؟".

 |  24 درجة والحلم

44222686_2000212510034841_1359090672233086976_n.jpg
عبير تتوسط زملائها على خشبة المسرح

انطلقت عبير في رحلتها الأولى نحو تحقيق الحلم، لتعتلي خشبة المسرح بعجلات كرسيها المتحرك، إلا أن تلك العجلات قد غاصت في رمال شارع منزلها الوعر، قبل أن يساعدها شقيقها على اجتيازه، لم تكن هذه عقبة بقدر 24 درجة، كان على عبير صعودها وصولًا لقاعة المسرح، ليس ليوم واحد فقط، بل لثلاثة وثلاثين يومًا عدد أيام الدورة!

بابتسامة تضيف عبير: "تفاجأت بعد لحظات من حضوري للبناية التي يقع المسرح فيها، بعدم وجود مصعد كهربائي، وما هي إلا لحظات، حتى وجدت نفسي وكرسي المتحرك محمولين بكل لطف ومحبة، من قبل زملائي المتدربين، ليوصلوني نحو قاعة التدريب".

وتختم عبير: "منذ تلك اللحظة الجميلة، وأنا أتنقل على خشبة المسرح بخفة كفراشة مزركشة الألوان، ومع كل لقاء تدريبي جديد، بت أقترب من ملامسة حلمي في التحليق عاليًا، لأنثر فني الجميل فوق خشبات أكبر، وأشهر المسارح العربية والعالمية".