بنفسج

الدين والفن.. كيف يجتمعان؟

الخميس 18 يونيو

في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" يوضح رئيس البوسنة والهرسك الأسبق، والمفكر والفيلسوف الراحل علي عزت بيجوفتش في معرض حديثه عن ظاهرة الفن؛ إنّ الفن والدّين والأخلاق فرع سلالة واحدة انبثقت بفعل الخلق الإلهي، فإذا ما أنكرنا الخلق الإلهي للإنسان فإننا لا نصطدم بالدين فحسب، وإنما نصطدم بالأخلاق والفن كذلك، لما لهذين المجالين من علاقة وثيقة بإنسانية الإنسان وحياته الجوّانِيّة.

وعندئذٍ، يكون كل ما يتلفظ به الشعراء وكل ما يخطّه حبر الكتّاب وكل ما ينبثق عن ريشة الرسّامين تضليل وهراء لا معنى له، فإذا فقهنا ذلك، تبين لنا أن الفرق الحاسم بين الإنسان والحيوان ليس فرقًا جسمانيًا وعقليًا فقط، بل هو فوق كل شيء أمر روحي يكشف عن نفسه في وجود ضمير ديني أو أخلاقي أو فني.

فالعمل الفني من حيث هو إبداع؛ هو ثمرة للروح، وإنشاء جديد على الدوام، وإذا كان العلم يتناول الموجود بسعيه لاكتشاف القوانين واستخدامها، فإن العمل الفني يبدع ويعكس النظام الكوني دون أن يستفسر عنه، وبهذا الصدد، يقول المفكر علي عزت بيجوفيتش: "إن ضوء النجم البعيد الذي اكتشفه العلم كان موجودًا قبل اكتشافه، أما الضوء الذي يلقيه الفن علينا، فقد أبدعه الفن بنفسه في اللحظة نفسها، فبدون الفن، لم يكن لهذا الضوء أن يولد"[1]

 | فن المعمار

ج44.png

وإذا كان العلم يستعمل اللغة بسلاسة ودون قصور كأداة للتعبير عن نفسه مهما بلغ من العمق والتعقيد، فإن الفن وبسبب خاصيّته الروحية دائم البحث عن لغة إضافية ووسيلة أخرى للتعبير، لأن "اللغة عاجزة عن التعبير عن حركة واحدة من حركات الروح، فليس هناك معادل لغوي لسيمفونية بيتهوفن التاسعة، ولا يمكن ترجمة "هاملت" إلى لغة العلم، أو تقليص هذه الدراما إلى مجموعة قضايا في علم النفس والأخلاق"[2].

وفي ضوء وحدة الدين والفن نجد أن فن المعمار بلغ في جميع الثقافات أوج إلهاماته في بناء المعابد، ولا ينطبق هذا على المساجد المشيّدة في أنحاء العالم الإسلامي فحسب، بل وينطبق أيضًا على الكنائس في أوروبا وأمريكا والمعابد القديمة في الهند وكامبوديا، إذ إن كثيرًا من دور العبادة كانت قد شُيّدت بحيث تؤدي غرضًا دينيًا، وتعتبر متحفاُ فنيًا في آن واحد. وهكذا، فإن الفن المعماري رغم أنه أكثر الفنون وظيفية وأقلها روحية، يثبت صفته الدينية ويتجلّى أكثر ما يتجلّى في بناء أماكن العبادة، وكأن الفن مدينًا يردّ دَينَه للدّين.

 | فن الأرابيسك

ج43.png

ولقد تميّز المسلمون في فن الأرابيسك الإسلامي الذي يشمل جميع أنواع الزخارف الإسلامية: الهندسية (التسطير) وغير الهندسية (التوريق)، والتي نفّذت في كل البلاد الإسلامية وطالت جميع الأماكن والأدوات واللوازم المستخدمة في المجالات الحياتية العامة والخاصة التي تشكل معًا عالم المسلم الرحيب، حيث لم يوفّر الأرابيسك مادة استعملها الإنسان في حياته الدينية والدنيوية إلا احتلها بهيمنة كاملة.

وفي هذا النوع من الفنون يرقش الفنان أنسجة من الوحدات الزخرفية المتفرعة والمتشابكة والمتكررة بشكل عجيب بحيث يستحيل على المرء معها أن يعرف البداية فيها والنهاية، وقد عبّر الفنان المسلم من خلال هذا الفن عن المطلق والجوهر الكوني الذي منه يبتدئ العالم ليتجلّى بكل هذا القدر من التناغم والانسجام وإليه ينتهي، مستلهمًا ذلك الفنان في ما سطرته يمناه وورّقًته عقيدته الإسلامية ومتأثّرًا بالقرآن الكريم بشكل خاص.

وازدهر فن الأرابيسك الإسلامي في القرن الرابع الهجري - الحادي عشر الميلادي، حيث كانت القرون الأولى للإسلام فترة تجميع للعناصر الفنية التي كانت تظهر رويدًا رويدًا، ثم راحت تتمازج إلى أن تَشَكّل فن جديد قائم بذاته، وقد كان للإرث الإسلامي الكبير الذي فتح هذا الفن عينيه عليه دور مهم أسهم في نشأته ونموه وتطوره حتى تبوأ مكانته العظيمة في هذه الحضارة[3]

 | الغناء وظهور الشعر

ج42.png

أما الغناء أو الإنشاد - وهو الترنّم بالكلام الموزون وغيره - فقد كان يشكل النواة الأولى لظهور الشعر عند كثير من الأمم التي عرفت الشعر، وسبب ذلك أن لدى الإنسان ميل فطري للغناء، حيث يمكن ملاحظة هذه النقطة عند ممارسة الإنسان عملًا ما أو قيامه بحركة معينة، فربّة المنزل تغنّي وهي تصنع الطعام لأهل بيتها، والأم تدندن لطفلها حين تلاعبه وتراقصه وتهدهد له في سريره حتى ينام، والعاملون يردّدون أثناء قيامهم بأعمالهم ما طُبِع في ذاكرتهم من محفوظات، يسلّون بها أنفسهم ليتغلبوا على التعب والمشقة، والبائع يردد الكلام الموزون بنبرات صوتية تلفت نظر المشترين إلى سلعته التي يبيع، كما وقد يردد الإنسان بعض ما يحفظه من الأغاني في خلوته يسلّي بها نفسه ويؤنس وحشته[4].

ونتيجة للبيئة التي عاش بها العرب في الجاهلية كان الغناء عندهم تعبيرًا صادقًا عن واقعهم المعاش، إذ كان عبارة عن ترنيمات يؤديها الشخص بطابع من البساطة متأثرًا بموقف انفعالي في حياته اليومية، أو طاويًا المسافات البعيدة التي كان يقطعها راكبًا على ظهر إبله في ليل مقمر مرصّع بالنجوم اللامعة رغم شدة برودته.

اشتهر غناء الحداء الذي كان بداية لنشأة الشعر العربي، وكان يغنيه راكب الإبل بشكل مسجوع فيعجب غيره فيحاول أن يقلده، وقد لاحظ العربي بتجربته أن هذه الإبل تسرع الخطى وتتنشط عند سماعها أغنية ذات إيقاع سريع.

واشتهر غناء الحداء الذي كان بداية لنشأة الشعر العربي، وكان يغنيه راكب الإبل بشكل مسجوع فيعجب غيره فيحاول أن يقلده، وقد لاحظ العربي بتجربته أن هذه الإبل تسرع الخطى وتتنشط عند سماعها أغنية ذات إيقاع سريع، فأخذ يستعمل هذا النوع من الغناء كلما دعت الحاجة إليه مع تقلبات المناخ وفي المعارك والحروب والتنقل والترحال.

وتحسن الإشارة في هذا الباب إلى ما ورد في الحديث الذي أخرجه الشيخان (بخاري ومسلم) من أن رجلًا حسن الصوت بالحداء اسمه أنجشة كان يحدو بأمهات المؤمنين في حجة الوداع فأسرعت الإبل، فقال عليه الصلاة والسلام: "ويحك يا أنجشة رويدك بالقوارير"[5] ويعني النساء.

كل ذلك ساهم في تطوّر الشعر وتنوعه حتى استقرّ إلى ما هو عليه من أوزانٍ وقوافٍ كانت من أهم الأغراض التي وُضعت لأجلها: مراعاة نطق الكلمات في قالب لحني موسيقي ترتاح إليه أذن الإنسان ونفسه. وفي العصر الذي أصاب فيه الانحدار كافة مجالات الحياة التي طالتها النزعة المادية والاستهلاكية ونُزِعت عنها الصبغة الروحانية الفطرية، نجد البتر والهبوط أصاب الفن بجميع أشكاله، الأمر الذي يُعَرّي موقفًا من الحياة وتوجّهًا في العيش غير سليم صُدِّر للعالم وهيمن عليه.

لعلّ ذلك يقودنا إلى حقيقة مفادها أن الفن ربما لا يكون غاية في حدّ ذاته، ولكن وسيلة لحياة أفضل، لأن أثره كبير في تعديل وجهة الناس وسلوكهم وتذوقهم لجمال الحياة، وإن الفن ابن الدين، فإذا أراد الفن أن يبقى حيًا فلا بد له أن يستقي دائمًا من المصدر.

وفي معرض حديثه عن اتجاه الفن المعماري نحو التراكيب الإسمنتية الوظيفية معدومة الشخصية والتي ما فتئت تنفث دخانًا رماديًا في الأفق، أوجز المفكر علي عزت بيجوفيتش أهم ملامح هذا التوجه من خلال طرح تساؤله العميق: "إذا لم يكن هناك روح للإنسان، فلِمَ إذن نحرص على أن يكون للمدن روحًا؟!"[6].

ولعلّ ذلك يقودنا إلى حقيقة مفادها أن الفن ربما لا يكون غاية في حدّ ذاته، ولكن وسيلة لحياة أفضل، لأن أثره كبير في تعديل وجهة الناس وسلوكهم وتذوقهم لجمال الحياة، وإن الفن ابن الدين، فإذا أراد الفن أن يبقى حيًا فلا بد له أن يستقي دائمًا من المصدر الذي جاء منه ويتزكى بنفحاته إيمانًا بأنه إذا تدين رجل الفن، وتفنن رجل الدين التقيا في منتصف الطريق لخدمة الوجهة الصحيحة والفن السليم وكان من اجتماعهما خيرٌ كبير.


المصادر والمراجع:

[1] بيجوفيتش، علي عزت. الإسلام بين الشرق والغرب. مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام والخدمات-ألمانيا، ومجلة النور ًاية-ًا. ط1. 1994 ص141

[2] المرجع السابق ص143

[3] انظر: غالب، عبد الرحيم. موسوعة العمارة الإسلامية. جروس برس، بيروت، ط1. 1988. ص35، 29

[4] أبو معال، عبد الفتاح. أناشيد الأطفال وأغانيهم دراسة وتطبيق.دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، الأردن. ط1. 2013. ص81

[5] البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر. دار طوق النجاة. ط1. 1422هـ (8/ 38)

النيسابوري، مسلم بن الحجاج. صحيح مسلم. المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي، بيروت. (4/ 1811)

[6] الإسلام بين الشرق والغرب لعلي عزت بيجوفيتش. ص155