بنفسج

هالة شحادة: بالتولينة صنعت نفسي وأبقيته خالدًا

الإثنين 29 يونيو

تمشي يدها بيدِ ابنتها الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها الخمس سنوات، وبيدها الأخرى تحملُ الكاميرا؛ السلاح الذي بسببه استشهد زوجها، تنتقل من زاوية لأخرى، تلتقط الصور بطريقةٍ احترافية وتضحكُ كلما طالعت وجه طفلتها التي تحمل ملامح أبيها الذي لم ترهُ قط. هالة التي لم يمضِ على زواجها ثلاثة أشهر حينَ دقّت الحرب طبولها في غزة، والتي أصابتها بفاجعة قلبها وحولتها بلحظة من عروسٍ كانت تتزين باللون الأبيض، إلى امرأة حزينة تحمل في أحشائها جنين سيأتي إلى الحياة يتيم الأب، تقف اليوم داخل استديو "التولينة" الخاص بها لتثبت للاحتلال وللجميع بأن إرادتها وضحكة ابنتها أقوى من كل الألم.

 |  حكاية ومعاناة

22.png

كانت عروس في عمر الواحد والعشرين عندما تلقت هالة شحادة خبر استشهاد عريسها "خالد"  بتاريخ 20 يوليو/ تموز2014  أثناء قيامه بتصوير فليم وثائقي، عن حياة المسعفين في حرب 2014، قبل رحيله بيوم تناولتْ معه طعام الإفطار، وعند الباب، ودعته بكثيرٍ من الخوف الذي اختبأ في صدرها وبنبرة مليئة بالحزن تقول: "كان يبتسم في وجهي طالبًا مني الاهتمام بالجنين الذي في بطني، سلمتُ عليه بيدين مرتجفتين وبعيونٍ باكية، وعندما خرج وأغلق الباب وراءه  شعرتْ أن كل ما هو جميل في حياتي اختفى مع إغلاق الباب".

 تضيف، "وفعلًا،  كان هذا هو اللقاء الأخير الذي يجمعها بزوجها "خالد" فقد قصفت قوات الاحتلال الاسرائيلي سيارة الإسعاف التي حاول الاحتماء بها في حي الشجاعية شرقي غزة، مما أدى إلى استشهاده، في تلك اللحظات  كانت  تقف  هالة أمام شاشة التلفاز تتابع الاخبار،  لتشاهد مراسل قناة الجزيرة يتحدث عن استشهاد صحفي، وتحركت عدسة الكاميرا لتنقل المشهد الذي ظهر فيه زوجها مخضبًا بدمائه، ولم يظهر منه سوى درع الصحافة الذي يرتديه والكاميرا الخاصة به، لتستقبل صدمتها الأولى بخبر عاجل".

 | أيام موحشة

هالة شحادة كانت عروس في عمر الواحد والعشرين عندما تلقت خبر استشهاد عريسها "خالد"  بتاريخ 20 يوليو/ تموز2014  أثناء قيامه بتصوير فليم وثائقي، عن حياة المسعفين في حرب 2014، كانت تحمل في أحشائها طفلة فولدت وكانت بمثابة النور لها.
 
جاءت تولين دون أن تحظى بقبلة أو لمسة من أبيها، كانت أول الكلمات التي نطقتها "بابا" ولم تكن تعرف أن أباها شهيدًا، حدّقت في صوره كثيرًا وببراءة الأطفال انتظرته أن يأتي. بعد ثلاثة أعوام من رحيل زوجها، قررت هالة أن تنهض من جديد، فعادت لاستكمال دراستها  الجامعية في الصحافة، وافتتحت استديو للتصوير.

بكت هالة على فقدان زوجها، وعلى الأيام الموحشة التي ستقضيها في غيابه، بكت على ذكرياتهما معًا، وعلى الأحاديث التي كانت تدور حولها كونها فتاة ما زالت في ريعان شبابها وتحمل بداخلها جنينًا اكتشفت فيما بعد أنه "أنثى" ليزداد الحديث حول قدرتها على القيام بدور الأب والأم معًا.

وبعد أشهر، جاءها المخاض لتستقبل مولودتها "تولين" كما اتفقت سابقًا مع زوجها الشهيد خالد على تسميتها بهذا الاسم فتقول: "خططنا أنا وخالد لحياة طفلنا الأول، حتى أننا اخترنا له اسم "وليد" إذا كان ذكرًا، و"تولين" إذا كانت أنثى، وكنا ننتظره بشغف كبير، ونحلم سويًا بتربيته ورؤية لمساته الأولى بيننا".

 جاءت تولين دون أن تحظى بقبلة أو لمسة من أبيها، كانت أول الكلمات التي نطقتها "بابا" ولم تكن تعرف أن أباها شهيدًا، حدّقت في صوره كثيرًا وببراءة الأطفال انتظرته أن يأتي. أما عن هالة فقد اختارت العزلة، وكانت تحاول جاهدة أن تخرج من كابوس الصدمة، وأن تستجمع قوتها من أجل الهدية التي وهبها إياها خالد قبل أن يرحل، واجهت كل الصعوبات والتحديات بكثيرٍ من الألم وأثبتت لمن حولها بأنها تستطيع أن تكون لابنتها الأم والأب والشقيقة والصديقة.

 | امرأة من فولاذ

44.png

بعد ثلاثة أعوام من رحيل زوجها، قررت هالة أن تنهض من جديد، فعادت لاستكمال دراستها  الجامعية في الصحافة، وشرعت في تحقيق أحلامها وأحلام زوجها الشهيد الذي كان يرغب في افتتاح استديو تصوير خاص به، وعلى الرغم من كل الظروف المحيطة بها استطاعت أن تحصل على تمويل من أحد المؤسسات الداعمة للمشاريع الصغيرة، وبدأت فعليًا بتحقيق الحلم والتحضير لافتتاح الاستديو وشراء المعدات.

وهكذا، خرجت من بؤرة المسميات كأرملة وزوجة شهيد، وصنعت لنفسها اسم يليق بها وبقوتها التي زرعتها في روح صغيرتها "تولين"، لتصنع منها إنسانة قوية لا تشعر بالنقص لفقدان والدها،  بل ستقف يومًا ما فخورة لأنها ابنة لأب شهيد ولأم بطلة.

 كانت الفرحة تغمرها كونها شعرت بأن خالد معها في كل زاوية  يراقبها ويشجعها على الاستمرار، وأطلقت اسم "التولينة" على الاستديو تيمنًا باسم صغيرتها "تولين" فقد  جاء هذا الاستديو ليمحو حزنها ويكون مصدر دخل لها ولطفلتها، ولتكسر به الحاجز الأكبر الذي كان لديها في مشاهدة عروس ببدلتها البيضاء.

تقف هالة اليوم لتوجه رسالة للعالم قائلة: "أنا فخورة بنفسي جدًا، وما انتظرت يومًا إعانة أو شفقة من أحد، أنا لست عاجزة إنما قوية بما فيه الكفاية لأكمل مشواري وأصبح من أكبر المذيعات في العالم". وهكذا، خرجت من بؤرة المسميات كأرملة وزوجة شهيد، وصنعت لنفسها اسم يليق بها وبقوتها التي زرعتها في روح صغيرتها "تولين"، لتصنع منها إنسانة قوية لا تشعر بالنقص لفقدان والدها،  بل ستقف يومًا ما فخورة لأنها ابنة لأب شهيد ولأم بطلة.