بنفسج

زيف المحبة.. الأمان أم العدم؟

الأحد 18 أكتوبر

يرتبط الحبّ عند من عرفَه بالسموّ والطهارة، والمصداقية والثّقة والأمان. كلّنا نعيشه في علاقتنا مع الله، العائلة، الدوائر المعرفيّة وحتى مع الأماكن والجمادات وأنفسنا. كيف يمكن أن يكون تأثير هذا الدواء الروحي الّذي يجعلنا نشعر بأننا كنا نصفًا قبله عكسيًا؟ وكيفَ يرتبط الحبّ بعكس كل الصفات الّتي نراها مرتبطة به؟ حين يكون زائفًا، وزيف المحبّة هذا خلقَ أزمات عاطفية وفكريّة وروحيّة ثمّ وجودية عند من شهِدوه.

ما سنتحدّث عنه هنا إنّما هو للوقاية من الوقوع في زيف المحبّة، كي لا يسحبك أحدهم نحوه باسم الحبّ ليمارس عليك كل ما لا يشبه الحب في شيء، ويشوّه الصورة الحقيقية للحبّ فيك، إنّنا نخسر أنفسنا ومجتمعاتنا لو خسرنا الحب، قلّة الحب تعني ميلًا للعدم.

اعلَم عزيزي القارئ، أنَّ الحب ما هوَ إلا دار أمانٍ في هذه الدّنيا الموحِشة، وسلَّمُ نجاةٍ في قاعٍ كبير يأكلنا جميعًا، وبذرة خيرٍ ننتظر منها ثمارًا في كلّ قحطِ وحاجة. أن تقدّم حبًا يعني أن تستثمرَ قلبك في مكانٍ تثق به، ولا تنتظر شيئًا في المقابل. قد تحبّ شخصًا أو شجرةً أو كرسيًّا، وتعيش كمال الشعور نفسه، فراشات معدة وأنسٌ وأمان. وبرأيي، فإنه يشترطُ في الحب أن تشعرَ بالخير؛ بأنك بخير، وبأنّك تقدّم الخير وتسبحُ فيه، أي بالإيجابية والرّضا في داخلك، فهو استثمارٌ لا علاقةَ له بالخارج بقدر ما يرتبط بانعكاس هذا الحبّ داخلك.

وهنا تكمن خطورته، في أنّهُ حاسمٌ في مكان عمله، يحرّك الأشخاص من الداخل لا الخارج، وهذا يعني أنّ لديه القدرة على خلق قوالب أو كسرها، صنع شخصيّات جديدة أو نسخها عن أخرى، صنع مجتمعات معافاة روحيًّا وأخرى مريضة، يخترقُ من الداخل، هذا أفضل ما يُقال عنه، يخترقُ من الدّاخل. هذه ليست دعوة للذعر منه، بل تذكيرٌ بضرورة حسن التّصرف فيه.

حينَ تحبّ شخصًا، قد تسقط مفهوم الحبّ علَيه، وغالبًا دون وعي منك وأنت تصب كلّ سائل الحبّ الّذي جمعته طوال حياتك فيه، فيصير هو كأسك الحاوي الّذي يتبعثر سائلك بدونه، وتفقد قدرتك على الحب إلّا بوجوده. في الخطوة السابقة، أنت تنقل زمام أمور حياتك كلها -أي داخلك- إلى يد شخص آخر صرت تراه أهمّ منك لنفسك، فأنتَ لم تعد ترى نفسك كأس نفسك، بل محبوبك هذا. 

إنَّ الحبَّ الحقّ هو أن تجدَ بقعةً في هذا العالم، شخصًا أو فكرةً أو جمادًا حتى، تستطيع أن تصبحَ بفضله شخصًا أفضل، أقوى، وأكثر قدرةً على مواجهةِ ما يواجهك في الحياة.

وبما أنّ زمام أمورك لم يعد معك، فأنت الآن هشّ ومحطّم إلّا إذا كان الآخر على قدر هذه المسؤولية، ولا قوّة لك إن فعلت هذا لتحمي نفسك؛ لأن الّذي يحمل جهاز التحكم يقف خارجك. هذه الفكرة جعلت المُحِبّ بعدَ أن يمرّ بهذه الخطوات يُصاب نفسيًا، يُصاب لأنه بدأ يرى أنّ لا سلطة له على نفسِه، وأنّه أضعف وأهشّ من أين يكونَ قائد نفسه، وأنّ حياته مرتبطة بعامل خارجي لا سلطة له عليه أيضًا، فيقفُ الواحد منّا حائرًا، من أنا؟ ماذا أفعل؟ وأينَ "أنا" القديمة؟ ولا يجدُ جوابًا. وهذا يسبّب تعاسةً كبيرةً قد يبررها بأنها أعراض عشق وليس حزنًا.

أعتقدُ الآن أن الفكرة اتّضحت، لا نتكلم هنا عن شخص آخر جعلك تمارس هذه الخطوات، بل أنتَ بنفسك من اخترت، اخترتَ أن تجعل شخصًا أو شيئًا يمسك جهاز التحكم الخاص بأمور داخلك، ثمّ حياتك تلقائيًا. التصرفات السابق ذكرها تعني أننا نعاني من قلّة الاحترام والتقدير ليس من الآخرين تجاهنا بل منّا تجاه أنفسنا.

الّذي يحبّ نفسه فينا يدرك أنّ أمورها يجب أن تظلّ بين يديه هو، وأنّ الحياة الّتي يعيشها إنّما عليه وحده تحمّل مسؤولية إمساك زمام أمورها، وخوض شرف السيطرة على كل ما يخصه، من هنا، فإنّنا نستخدم الحبّ لنبرر أذى تجاه أنفسنا، نحنُ نؤذي أنفسنا بما ليس علاقة بما يرتبط به مفهوم الحبّ، ثمّ حين نُسأل يكون الجواب: لأنني أحب. علينا أن نحذر من أنفسنا، لأنّنا لو لم ندرك خطورة هذا الأسلوب ونوقفه، فإنّنا لا نخسر ما نحبّ فحسب، بل نخسرُ أنفسنا معه.

إنَّ الحبَّ الحقّ هو أن تجدَ بقعةً في هذا العالم، شخصًا أو فكرةً أو جمادًا حتى، تستطيع أن تصبحَ بفضله شخصًا أفضل، أقوى، وأكثر قدرةً على مواجهةِ ما يواجهك في الحياة. وليسَ أن تخلق في داخلك بقعةً حزينةً أخرى وتعيشَ بروحٍ متألّمة حجتها في قبول ألمها أنَّها تحب.

الحبّ بنظري على الأقل هو أن يبتهج الإنسان ويفرح، وأن لا يشعر بنفسه ضعيفًا أو مستنزفًا بسبب الحب، فإن أحببتَ عزيزي القارئ فلا تظلم نفسك بأن تفني حياتك وتقتل محبتك، بل كن دائمًا وبغض النظر عن شخص محبوبك ونواياه، شخصًا قويًا، وروحًا لا يمسك زمامها سواها، هكذا لا نعود خاسرين.

ليسَ الحبّ عاطفةً عابرة، أو قليلة الأهمية، وإلّا لما كانت أساسًا لعلاقتنا حتى مع الله، الّذي أحبَّنا ويحبّنا، وينتظر من عباده أن يبادلوه هذا الحبّ، ومن أجله يعبدونه ويطيعونَ أوامره ولا يعصون له أمرًا. الحبّ قبل الخوف كمحرّك أساسي في علاقتنا مع الله، مع العائلة الّتي ولدنا ونحن نحبّها ونبكي بمجرد التفكير بأن مكروه قد يمس أحد أفرادها، حبّ للأماكن التي نبتهج أو نطمئن فيها، للأشخاص الذين نلجأ لهم في أوقات ضعفنا، والّذين نشاركهم فرحنا دائمًا.

لذلك فإنَّ حسن التصرف في هذه العاطفة يعني بالضرورة حظًا سعيدًا وعيشًا أهونَ على قلبِ الإنسان، لأنّ الإنسان يشعر بنفسه كبيرًا وحكيمًا حين يعطي لمن يستحق، بالطريقة الصحيحة، ودون أن يظلم نفسه، وأي حب يمكن أن ينتج بعد أن يشعر الإنسان أنه فقد حياته وشخصه لأجل شخص آخر؟ الحبّ بنظري على الأقل هو أن يبتهج الإنسان ويفرح، وأن لا يشعر بنفسه ضعيفًا أو مستنزفًا بسبب الحب، فإن أحببتَ فلا تظلم نفسك بأن تفني حياتك وتقتل محبتك، بل كن دائمًا وبغض النظر عن شخص محبوبك ونواياه، شخصًا قويًا، وروحًا لا يمسك زمامها سواها، هكذا لا نعود خاسرين. عسى أن يجعل الله لكم في محبتكم ازدهارًا، ويبعد عنكم السلوّ فيه.