بنفسج

في صحبة الهدف

الأحد 18 أكتوبر

تتفتح عقولنا في هذه الدنيا على كل الاحتمالات القائمة، تُخضعها مُخيلتنا الطفولية الجامحة لدائرة الممكن. وفي طفولتنا تتجاذبنا أحلام كبيرة؛ أريد أن أكون كذا وكذا، وما إن نكبر وننضج، حتى ندرك أن أعمارنا محدودة، وغالبًا، سيكون من الصعب تحقيق كل هذه الأحلام في عمر واحدة!

أحببت العلوم والأدب والشعر منذ طفولتي، ولا أذكر وقتها، ما الذي غلّب حب العلوم الطبيعية على سواها لدي، ولكني أذكر أني كنت أستمتع جدًا بأي موضوع علمي، سواء كان برنامجًا في التلفاز، أو حصة في المدرسة، أو قراءة كتاب، أو تجربة علمية قمت بها في البيت من وراء ظهر أمي.

كنت على أعتاب إنهاء مرحلة الثانوية العامة –التوجيهي-، حين فقدت خالتي –رحمها الله- بمرض السرطان. ولا زلت أذكر مقدار العجز الذي أحسست به، حين رأيتها للمرة الأخيرة، قهرني العجز، واعتصرتني مرارة الفقد. من وقتها وأنا أفكر في تجنيد طاقتي ودراستي وعلمي، في الأبحاث الرامية لمعالجة أمراض السرطان. بالطبع، أخذت مني الفكرة وقتًا حتى تنضج وتصبح هدفًا واضحًا. 

كلُّ ما جاء على خاطري أن "كلٌ ميسر لما خلق له"، وشعوري الذي تجلى وقتها، استمد وجوده من يقين ما، يُخبرني أني خُلقت لمثل هذه الرحلة، وعلى الله التيسير، وما كانت وفاة خالتي، إلا ذاك الوميض الذي دلّني على الطريق.

لا أذكر أن هدفي بهت وهجه لمجرد الإفاقة من ألم الفقد، أو التفكير بانعدام مثل هذا تخصص في جامعاتنا الفلسطينية، أو حتى تواضع آداء المستشفيات المحلية في هذا الحقل. كلُّ ما جاء على خاطري أن "كلٌ ميسر لما خلق له"، وشعوري الذي تجلى وقتها، استمد وجوده من يقين ما، يُخبرني أني خُلقت لمثل هذه الرحلة، وعلى الله التيسير، وما كانت وفاة خالتي، إلا ذاك الوميض الذي دلّني على الطريق.

مع بداية مرحلة الجامعة، فكرت بعالم الأدوية كحاضنة لعلاج السرطان، ولذلك قررت التخصص في مجال الكيمياء في جامعة بيرزيت، كمجال ألتمس فيه معرفة عالم الأدوية، وتراكيبها، وتأثيراتها من جانب، ومعرفة كيمياء الجسم من جانب آخر. وبالرغم من أن الهدف كان حاضرًا تمامًا في مخيلتي وقتها، غير أنني الآن، وبأثر رجعي، أقول إن خطواتي الغضة باتجاهه، كان يمكن أن تختصر وقتًا وجهدًا. وبالنظر إلى تجربتي في مرحلة الدكتوراه، ولأن موضوع مقالتي هذه يدور حول تحديد "الهدف" كبوصلة في حياتنا، أدركت لو أنني درست علم الأحياء، فذلك بتقديري كان سيختصر علي وقتًا وجهدًا عظيمين في بداية مرحلة الدكتوراه.

ومن الأمور التي لو عاد بي الزمن لأخذتها بجدية أكبر، هي مدى استثماري لوقتي في سبيل تحقيق هدفي. بمعنى، أن المرحلة الجامعية الأولى بسنواتها الأربعة، هي فرصة نتزود من خلالها بعدّة معرفية، تؤهلنا للدخول بكفاءة الى المراحل العلمية والعملية التي تليها. وكان اجتهادي في تلك المرحلة –للأسف- في حدود المساقات الجامعية، وظننت أني بها سأبلغ مدارج العلم السامية! ثم علمت أن الاكتفاء بها يصح لطالب علم العادي، ولا يصح لطالب العلم الذي يريد بلوغ مدارج السالكين.

لذلك تخرجت من الجامعة على غير رضىً عن نفسي، وعلى غير هدى من الطريق الذي سأسلكه. لم أشعر برغم إنهائي لمرحلة البكاولوريس، بأني أقترب من هدفي، بل بدا وكأنه يتناءى عني، وأخذت خيوط عزمي تتراخى. عشت بعد التخرج مرحلة مراجعة ذاتية، أسائل بها نفسي، تلاطمت في رأسي شكوك كثيرة، وظهر بون شاسع بين بُعد الغاية وتواضع الحال، عن حقيقة قدراتي، وكأن ثمة شيء يحتجب عني مني. كانت تلك الفترة بكل التساؤلات والشكوك وجلد الذات، فوضى وحيرة، لكنها لم تطل كثيرًا، تمكنت من اجتيازها بتنظيم وترتيب أولوياتي، وإعادة التفكير فيما كان مؤجلًا أو ما كان يسير على غير هدى مني.

حاولت تعويض ما فاتني في مرحلة البكالوريوس خلال مرحلة الماجستير، قرأت واطلعت أكثر، وبحثت بكل جد عن المنح الدراسية في الخارج من جهة، ومختبرات جامعية من جهة أخرى. كان المسير في تلك المرحلة باعث اطمئنان. لا أزعم أني حققت تفوقًا كبيرًا، ولكني كنت أحقق نتائج أعلم أني سأتكأ عليها إذا ما تقدمت لمنحة دراسية. مع هذا المسير المتزن، كان لدي يقين أني خُلقت لرحلة ما، وأن الله مُيسرها، بمجريها ومرساها. عندئذ تلاشى شعوري بالذنب، إذ أنني سعيت بكل طاقتي ووسعي، وعلمت أنني وفيّتُ الشروط الذاتية لإكمال دراستي، وأن تيسير الله ظاهر من حولي، أستأنس به، وأركن إليه.

بتصوري، فإن مدة سبعة سنوات التي نقضيها في مرحلتي البكالوريوس والماجستير كفيلةٌ، إذا ما أحسنّا استغلالها، بتهيأتنا كمرشحين أقوياء لنيل لمنح الدراسية، وفي أقوى الجامعات العالمية.

مسألة تحديد الهدف، هي مسألة تحتاج لأن تكون واضحة ومحددة. فلا شك أن تطور العلم قد أخذ التخصصات العلمية إلى تخصصات أضيق، ينبغي على الباحثين والعلماء إفراغ جهدهم فيها بدل تشتيتها في حقول واسعة. مع بدء قراءاتي الخارجية لمرحلة الدكتوراه وما بعدها، وقعت على كمٍّ هائل من المقتربات التفسيرية الساعية لفهم، وليس فقط لمعالجة، أمراض السرطان. فهناك حقول تبحث في التغييرات الجينية، وأخرى في التغييرات ما فوق الجينية، وثالثة تسعى إلى تجنيد جهاز المناعة، لاكتشاف الخلايا السرطانية والقضاء عليها، وغيرها تقارب عن طريق فهم البيئة الدقيقة للخلايا السرطانية. ومن بين هذه الحقول الواسعة من الموضوعات، اخترت دراسة التغييرات ما فوق الجينية، كحقل تخصصي مع إطلاع معقول على الموضوعات الأخرى، تتيحه لي مشاركتي في المؤتمرات والمحاضرات العلمية.

بتصوري، فإن مدة سبعة سنوات التي نقضيها في مرحلتي البكالوريوس والماجستير كفيلةٌ، إذا ما أحسنّا استغلالها، بتهيأتنا كمرشحين أقوياء لنيل لمنح الدراسية، وفي أقوى الجامعات العالمية. انطلاقًا من تجربتي الشخصية، فعلى الرغم من أنه لم أوفِ هدفي حقه في مرحلة البكالوريوس، إلا أن اجتهادًا استدراكيًا في مرحلة الماجستير، وبعناية زائدة في الموضوع الذي رغبت بدراسته، ساعداني كثيرًا في اجتيازي للمقابلة التي أجراها معي أساتذة عاملون في حقل الدراسات الجينية في جامعة إدنبرة. هذه النتيجة الطيبة، كثّفت من المشاعر الإيجابية في داخلي، على نحو دفعني لزيادة معرفتي في هذا الحقل العلمي، ومحاولة جسر الهوة بينه وبين دراستي السابقة في الكيمياء.

هذه المقالة وإن كانت دعوة لرسم أهدافنا على ضوء ميولنا وقدراتنا، فإنها في الوقت ذاته دعوة لرسم طريقه، والسعي باجتهاد نحوها. حاولت أن أسقط ضوءًا على جانب من تجربتي بإيجابياتها التي يمكن الاستفادة منها وبسلبياتها التي يمكن تجنبها. هي دعوة للعمل نحو هدف ما، والسعي إليه، فهو القائل جل وعلى: "فاسعوا في مناكبها"، ومن ثم "فلله الأمر من قبل ومن بعد".