بنفسج

شهرزاد تكتب: الأدب النسائي في النضال والانتصار ودورة الحياة

الإثنين 07 يونيو

كانت شهرزاد أقدم راوية قصص عرفها تاريخ الشرق والغرب على السواء، شهرزاد التي تفدي روحها بحكاية جديدة كل ليلة، تشتري عمرًا برواية القصص عن أعاجيب العالم وحكاياته، تطلق لخيالها العنان، فتسحر لب شهريار وتنسيه نية قتلها لليلة جديدة. ربما أخذت الجدات عن شهرزاد تلك المهارة، فصرن يصغن الحكايات للأحفاد، وكذا فعلت الأمهات، وصار لقص الحكايات طابع يحمل روح الأمومة أو عبق النساء. لكن، ظلت تلك الحكايات تزرع الأمل، وتغرس القيم، ولا تفصح عن ما في نفس قائلها، ربما صاغت الأم ما تشعر به في قالب قصصي، لكنها لم تصرح غالبًا بأنها بطلة تلك القصة.

راح الزمان وعدى، وتطورت فنون الكتابة وتمايزت، وظل هناك، في البعيد، نوع من الأدب لم يلق اتفاقًا، وفيه إشكالات في غالب الأحيان، فهل يُقال عنه أدب المرأة؟ أم أدب أنثوي؟ أم أدب نسائي؟ أم أدب إنساني هكذا دون تمييز! لكن الأدب الذي كتبته النساء، أو كُتب باسمهن، وهو يحمل سمتًا عن ما يدور بأذهانهن، وما يثقل قلوبهن، وما يواجهنه بشكل يومي، لا بد وأن يحمل اسمًا أدبيًا يميزه، فكان أقل اسمًا وُجه إليه النقد هو الأدب النسوي[1]. ولأن زي هذا الأدب فضفاض، ومدارسه، والجدل الدائر حوله أو باسمه، شديد التعقيد، سنتعرض إلى نوع شديد الخصوصية منه، وهو: كيف عبرت النساء عن أنفسهن بصورة صريحة؟ أو كيف كتبن مذكراتهن؟ هل تشابهت النسخ وتكررت، أم انفردت واتسعت التجارب؟

| هن وحكاية الوطن

الحركة الطلابية.gif
الحركة الطلابية المصرية في السبعينيات

"اليوم أصبح مُبررًا وجود القضية، أي قضية، هو تأكيد ذواتنا التي تمددت كثيرًا في الفراغ". أروى صالح، "المبتسرون؛ دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية". أروى صالح ورضوى عاشور، كتبت كلًا منهن سيرتها الذاتية التي سطرها لها وطن في حالة اضطراب. كانت أروى أحد أبرز الناشطات في تاريخ الحركة الطلابية المصرية في السبعينيات، دونت أروى رحلتها الكاملة في كتابها بعنوان "المبتسرون؛ دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية"، إذ تروي محنة جيل كامل، أو هزيمة جيل واحد "مسه الحلم مرة"، على حد تعبيرها، ثم مزقه ذات الحلم ليصبح من أبناء الجيل الحالم بهزيمة إسرائيل واسترداد الأراضي المصرية بل والعربية كاملة، مهادنًا ومخادعًا ومستغلًا لحاجات الناس، بل وديكتاتورًا كذلك.

87-87.png

ترصد أروى بكلمات حادة يملؤها الألم والحزن والقهر، تحولات جيلها وتناقضات أبناء الحركة الطلابية الثورية وانتهازيتهم أحيانًا، وخذلانهم لما حملوه جميعًا من قيم أحيانًا، تركت أروى مذكراتها صفعة وصرخة في وجه عالم وصفته بأنه خادع منافق، وأنهت حياتها بنفسها ورحلت، ومما كتبته في دفترها قبل الرحيل: "بالظن بأني أخطأت السبيل لمقصدي، وأواصل البحث محملة بنفس الأوهام غير منقوصة، عن الجمال في بشر غير اللي عرفتهم، وفي النهاية، باتطلع داخلي مش لاقية غير مقبرة جماعية".

رضوى عاشور.gif
الكاتبة المصرية رضوى عاشور 

أما الأستاذة رضوى عاشور، فلها في كتابة السيرة الذاتية عدة مؤلفات، ومن عادة رضوى أن تظهر وتختفي في كل حضور نسائي لبطلة من بطلات رواياتها، لكن سيرتها الذاتية أوضح وأشجع، فقد كتبت "الرحلة"، لتحكي تفاصيل رحلتها إلى أمريكا للحصول على الدكتوراه من أمريكا، وفيه ترى الزوجة المحبة المغتربة عن زوجها في بلد يشهد كل ما فيه على تاريخه الاستعماري، طالبة وحيدة تنتظر رسائل زوجها بفارغ الصبر، وتدون رضوى يومياتها.

 وكأن الكتابة تعزيها عن كل ما تفقد أو تفتقد، وتذكرها بمن تكون ولماذا قبلت الغربة فتقول: "الركض حالة أعيشها دائمًا؛ في طفولتي، كانت طاقة الحياة فيّ تلح وتفيض، فأركض. وفي مراهقتي، ركضت خوفًا من جسدي النامي، ومن الحراملك المنتظر. ثم بقيت أركض كي لا أفقد نديتي للرجال من أبناء جيلي، أركض كي أتعلم، أركض كي أستقل، وأركض كي لا يعيدني أهلي لحظيرة حبهم ووصايتهم، وأركض كي لا يزج المجتمع بي في خانة الدونية المعدة سلفًا للنساء".

اقتباسات-81.png

وتدوّن رضوى الحكاية كاملة في سيرتها بعنوان "أثقل من رضوى"، تبدأ التدوين باسمها، وسبب اختياره، وتمر بكل شيء؛ تاريخ البلد الذي طالما أحبته وخذلها، النكبات المتتالية، مسيرتها الجامعية وما اعترى الجامعة المصرية من تشديد وتضييق في عصور شتى، مظاهرات الطلبة في أروقة الجامعة، قنابل الغاز في حرم الجامعة، وعساكر الأمن على البوابات. تؤرخ رضوى لكل ما عاشته لصراعها مع مرض خبيث استمر لخمسة وثلاثين عامًا، وانحيازها لحلم حلمت به عمرًا كاملًا هو حلم الحرية، وعاشت لحظة انتصار ثورة الخامس والعشرين من يناير، ثم رحلت رضوى متأثرة بجراح ثورة بلدها المجيدة.

تقول رضوى عاشور "مادامت للأرض ذاكرة، فلا بد أن للزعفران ذاكرة، ولا بد أنه أيضًا ينتظر كي يُخرج شَطاه، ويفترش الحيز ويتوسع، لأنه لم يعد يخص سيدة مسنة تقيم في قصر، بل شبابًا عجيبًا ناهضًا رغم رحيله، يأنس الزعفران بوجودهم، ويرتاح لتلك الرائحة التي يتحير إن كانت رائحته، وقد زادت مع الزمن قوتها، أم هي رائحتهم".

| هن وشبح الحزن

فرجينا وولف مع زوجها.gif
فيرجينيا وولف مع زوجها أثناء تفشي الانفلونزا الإسبانية بين عام 1918-1919

لعل قصة فيرجينيا وولف أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ عن الجمع بين الكتابة والاكتئاب، الكاتبة التي قررت أن تثقل جيوبها بالحجارة وتمضي لتغرق نفسها في النهار، تاركة رسالة أخيرة إلى زوجها، تخبره أن شبح الاكتئاب راودها من جديد، وأنه لا سبيل للنجاة هذه المرة، فكتبت: "أنا لن أتعافى هذه المرّة؛ أصبحت أسمع أصواتًا كثيرة داخل رأسي، ولم أعد قادرةً على التركيز. لذلك سأفعل الأفضل لكلينا". داومت فيرجينيا على كتابة يومياتها، حتى إن القارئ يقدر على الشعور بتحولها من الشابة الخفيفة التي تسهب في السرد والوصف والتعبير في أوائل المذكرات، إلى السيدة التي يأكلها شبح الاكتئاب، فتصب الكلمات صبًا، ولا تكاد تكمل جملة، وكأنها تلهث، وهي تكتب، أو تحاول، بكل طاقتها، أن تترك شيئًا قبل الرحيل.

اقتباسات-82.png

نشأت فيرجينيا في أسرة مفككة الروابط، وعاشت وفاة أمها وشقيقتها الكبرى تباعًا، عانت من انهيار عصبي. انضمت إلى حركات إصلاحية تسعى لتحسين وضع النساء في المجتمع الإنجليزي من خلال تعليم النساء. ألفت عدة مؤلفات، حتى أنها أسست مدرسة أدبية منفصلة سُميت مدرسة الوعي أو الشعور. وعاد إليها مرضها العقلي من جديد، وزاد مرضها سوءًا اندلاع الحرب العالمية الثانية وتدمير منزلها، وشعرت كما توحي رسالة انتحارها بأنها تثقل كاهل زوجها بمرضها، فآثرت الرحيل، وأن تعفيه من الاحتمال، وكانت آخر كلماتها إليه:

"لقد كنت صبورًا معي، وطيّبًا بشكل لا يعقل. أريد أن أخبرك -والجميع يعلم هذا- لو كان لرجلٍ أن ينجح في إنقاذي فستكون أنت هذا الرجل. فقدتُ كلّ شيء يا ليونارد، عدا إيماني بك وبقلبك. لا أستطيع الاستمرار في إفساد حياتك، هذا يكفي. لا يمكن لشخصين أن يكونا أكثر سعادة مما كنّا عليه".

سليفيا.jpg
سيليفا بلاث بصحبة أطفالها عام 1962

لم يختلف حظ سيلفيا بلاث عن حظ فرجينيا كثيرًا، حيث شُخصت بالاكتئاب السريري، وقررت إنهاء حياتها عندما استنشقت غازًا سامًا، ووضعت مناشف مبللة أسفل باب الغرفة كي لا يتسرب الغاز إلى أطفالها، وقد كانت تبلغ حينها الثلاثين عامًا فقط. في سيرتها الذاتية بعنوان "الناقوس الزجاجي"، تطرح سيلفيا معاناتها كاملة، وهي معاناة أن تكون إنسانًا بمرتبة أدنى، لا تجدر بك الشكوى، بل التفاني في أداء الدور ذاته بنفس الإقبال والحبور.

اقتباسات-83.png

لم تستطع سيلفيا تحمل تلك الرتابة، إذ تحكي الرواية، أو سيرتها في هيئة رواية، كيف تحولت من فتاة ناجحة طموحة ومحبة للحياة، لشخص ضعيف مضطرب يتهاوى في يومه الآف المرات، وكيف عرفت وحش الاكتئاب، وكيف كشر لها عن أنيابه؟ وأصبحت حبيسة الناقوس الزجاجي، لا تملك وسيلة للتحرر والنجاة إلا الموت الذي خطت إليه قبل أن يخطو نحوها.

الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، فتقص حكايتها في مذكرات بعنوان "رحلة جبلية رحلة صعبة"، والجزء الثاني بعنوان "الرحلة الأصعب". لم تكن مأساة فدوى متفردة، بل مأساة جماعية عانت منها غالبية فتيات مجتمعها حينئذ.
 
فقد ولدت لأب عاملها على أنها شخص أقل أهمية ومكانة من أخويها، حتى أنه كان يترفع عن الحديث المباشر معها ويحادثها بضمير الغائب وهي أمام ناظريه، ثم قرر أخوها الأصغر أن تكف عن الذهاب للمدرسة، وأيدته الأم، لتتلقى تعليمًا منزليًا على يد أخيها الشاعر إبراهيم طوقان الذي ووجها نحو الشعر وكان لها السند والمعين.
 
وإن لم تكن فدوى متفردة بالمأساة، فقد انفردت بالبوح والتصدي للمأساة بلا شك، فقد امتازت بصراحتها وعذوبة كلماتها وحديثها الواضح الذي لا يقبل المواربة في قضاياها، وما تعرضت له من عنف مجتمعي.

أما الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، فتقص حكايتها في مذكرات بعنوان "رحلة جبلية رحلة صعبة"، والجزء الثاني بعنوان "الرحلة الأصعب". لم تكن مأساة فدوى متفردة، بل مأساة جماعية عانت منها غالبية فتيات مجتمعها حينئذ، فقد ولدت لأب عاملها على أنها شخص أقل أهمية ومكانة من أخويها، حتى أنه كان يترفع عن الحديث المباشر معها ويحادثها بضمير الغائب وهي أمام ناظريه. ثم قرر أخوها الأصغر أن تكف عن الذهاب للمدرسة، وأيدته الأم، لتتلقى تعليمًا منزليًا على يد أخيها الشاعر إبراهيم طوقان الذي غذى عقلها وروحها ووجها نحو الشعر وكان لها السند والمعين، حتى وافته المنية لتتحطم كل آمال فدوى وتفجع به، قبل أن تفجع باحتلال وطنها وبداية النكبة.

اقتباسات-84.png

وإن لم تكن فدوى متفردة بالمأساة، فقد انفردت بالبوح والتصدي للمأساة بلا شك، فقد امتازت بصراحتها وعذوبة كلماتها وحديثها الواضح الذي لا يقبل المواربة في قضاياها، وما تعرضت له من عنف مجتمعي، ولنكبة وطنها، وما شاهدته، وإصرارها على التدوين، وأن تثبت للجميع أنها كانت هنا، وكان لوجودها معنى ورسالة.

| هن وثقل الأمومة

ايلاف.gif
إليف شافاق
أما هذا النوع من المذكرات، فهو شديد الصدق، وشديد الجرأة؛ ففي مجتمع يقدس قيمة الأمومة، ولا يقدم الدعم للأمهات، فأن تصرح امرأة بأنها تعبة من أداء المهمة التي ينظر إليها المجتمع بأنها فطرة وغريزة لا تستحق الشكر أو الثناء، لهو أمر يستحق التوقف عنده. تسرد الكاتبة التركية إليف شافاق في سيرتها الذاتية بعنوان (حليب أسود) تجربتها مع اكتئاب بعد الولادة، وذلك الشعور بالسقوط في بئر عميق القرار، وأن الحياة قد انسحب بساطها من تحت قدمي الأم، وتوقفت كل الحياة عن هذه اللحظة، فتلق جانبًا كل ما كنتِ تحسنين صنعه وتتفرغين لوليدك، وإلا فأنتِ أنانية وغير مبالية، وامرأة لا تستحق منحة الأمومة.

اقتباسات-85.png

تلتق إليف بأربع سيدات صغيرات، كل منهن تمثل شخصية أحادية القطب، لا ترى سوى نفسها، هن الكاتبة المثقفة التي لا ترغب سوى في الكتابة، والصوفية الورعة، والمناضلة النسوية الثائرة على كل شيء، والتي ترى أن الأصوب عدم الاستمرار في الحمل من الأساس، والآنسة الطموحة التي ترغب في كل شيء في نفس الوقت، ثم تقابل شخصيتين أخريين هما إليف الأم وإليف الأنثى. تجسد هذه الرواية ما تخشى كل امرأة أن تبوح به، يجسد كل مخاوف الأمومة دفعة واحدة، ما هو الحيز الذي تمتلكه الأم، وما هي سطوة الأمومة، وكيف تعبث بنا التصورات النمطية؟ وهل حقًا على المرأة أن تختار بين أمومتها وبين حياتها بأسرها؟

إيمان.jpg
الشاعرة إيمان مرسال

تطرح إيمان مرسال، الشاعرة والأستاذة الجامعية المصرية، ذات المخاوف تقريبًا في مذكراتها بعنوان "كيف تلتئم؛ عن الأمومة وأشباحها"، وكيف يتملك الأمهات الشعور بالذنب، وأن كل ما تفعله ليس كافيًا، وهناك المزيد في بحر التفاني. ثم صراعات الأمهات عن ذكاء أطفالهن، وصورتهن الشكلية، ووزنهن، وأنهن مسؤولات دائمًا عن كل ذلك. وتوضح إيمان قول إليف وتزيد عليه لتقول: "لا يرتبط الشعور بالذنب بالتقصير فقط، ولا بتمزق المرأة الحديثة بين العمل والأمومة، بل ينبثق أحيانًا من نموذج مثالي للأمومة، حيث لا نهاية لما يمكن أن تقدمه الأم لطفلها من حب وحماية واستثمار في الوقت والتعليم".

تشابهت القصص، وتفرقت في كل ما ذكرناه، لكن يظل يجمعها إطار إنساني يضيق ويتسع، لكن ما لا يقبل الشك أن هناك دائمًا ما يمكن أن تقوله النساء عن أنفسهن، وسيظل لقولهن سحرًا ما.

| المصادر

[1] الكتابة النسوية العربية من التأسيس إلى إشكالية المصطلح، د.عامر رضا.

[2] المبتسرون، أروى صالح.

[3] سرطان الروح، أروى صالح.

[4] الرحلة، رضوى عاشور.

[5]  تقارير السيدة راء، رضوى عاشور.

[6] أثقل من رضوى، رضوى عاشور.

[7] يوميات كاتبة، فيرجينا وولف.

[8] الناقوس الزجاجي، سيلفيا بلاث.

[9] الرحلة الأصعب، فدوى طوقان

[10] رحلة جبلية رحلة صعبة، فدوى طوقان.

[11] حليب أسود، إليف شافاق

[12]  كيف تلتئم عن الأمومة وأشباحها، إيمان مرسال.