بنفسج

انتبه.. وحش السوشال ميديا سيبتلعك!

الأربعاء 31 مارس

نستيقظ، بالكاد نتذكر قول "الحمد لله الذي أحيانا". الهاتف المحمول بجوارنا، أو مازال نائمًا في يدنا، نلتقطه، ثم نبدأ: ماهو جديد العالم؟ أو حتى ماهي مكررات العالم! صورة هنا: يبدو أنهم سعداء، خبر محزن، العالم مكان موحش وسيء للغاية، هذا تزوج، وهذه تخرجت، إعلانات عن مساحيق تجميل، وفيديوهات كثيرة جدًا لواضعيها حتى نسينا شكل المرأة دونها، هنا من يسوق لنفسه أنّه مختص بالوعي، وهذه مختصة في العلاقات، وهناك مسؤول تربية روحية، من عيّنه، ومن سماه، وماذا درس؟ لا يهم، المهم متابعون بالآلاف يستمعون ويصفقون.

هذا يناقش للمرة المليون حرمانية تهنئة النصارى، والآخر يقبّح وجه الإسلاميين، هنا ركن النسوية، وشتم الرجال والذكورية، وهناك قسم التدخل في حرية المرأة، وهيئتها، وطريقتها، وتعليمها، وأفكارها. هذا يُسب، وهذا مُحلل فيسبوكي عظيم، هناك أخبار انتخابات أميريكا وتحليلات ممن ترك عمله وما يعنيه فعلًا؛ لينشغل بأمر العالم من باب من لم يهتم بأمور المسلمين! وأمرك الشخصي يا فتى؟ هنا كلماتٌ رنانة ومقالة رائعة، يضيع بعضٌ من قيمتها في أنها كُتبت لمن لا يقرأ في مكانٍ الرُقي فيه "عُمق"، نسخر منه فقط، وهناك شابّة طموحة تحاول الحصول على وظيفة تتمناها وتحاول الانتشار، ولا تعرف أن التسويق للنفس عبر السوشال ميديا "حظوظ" مع علاقات مع كثير من التخلي عن قيمنا.

جيلٌ كامل متعب مخزون من الأسى والمقارنات الداخلية لا ينفد، وبداخلهم تحليلات كبيرة، ويبذل مجهودًا جمًا في الرد على التعليقات المهينة بإهانة أشد، يتذكر مرة أو اثنتين ردّ فيها عن أذى تعرض له بسخرية جامحة من المؤذي، وكانت هذه التراشقات جميعها عبارة عن "كوميكس"، لكنها أمام الملأ طعنة في نفسٍ ميّتة، والضرب في الميت حرام.

هناك فتاة تبحث عن الاهتمام، مسكينة لم تحظَ يومًا بحُب يملؤها، وها هي تملؤه من الخواء الفيسبوكي، تعجبها التعليقات وتصدقها، وتحب هذا العالم الذي يهتمون بها فيه ويرونها. وهناك، عند الطبيب النفسي، دخل شابٌ متجهم متعب، تراه، فتقول: عجوز، يشكو من أنه ينام ولا ينام، يحلم بمطاردات طوال الوقت، يجري من الزمن، ويحس لو أن الزمن عفريت يحاصره، اليوم لديه ينتهي كل يوم قبل أن يبدأ، ومحمل بالكثير الكثير، لديه بعض الخيبات التي يدرك مصدرها، لكن لا يربطها مع شعور الخزي الذي يحيط به أينما ذهب، ولا يعرف أيًا مما ساعد في هذا! يُعالَج ويأتي غيره وغيره وغيره.

 جيلٌ كامل متعب مخزون من الأسى والمقارنات الداخلية لا ينفد، وبداخلهم تحليلات كبيرة، ويبذل مجهودًا جمًا في كيفية إدارة "التعليقات"، والرد على التعليقات المهينة بإهانة أشد، يتذكر مرة أو اثنتين ردّ فيها عن أذى تعرض له بسخرية جامحة من المؤذي، وكانت هذه التراشقات جميعها عبارة عن "كوميكس"، لكنها أمام الملأ طعنة في نفسٍ ميّتة، والضرب في الميت حرام.

تبدأ الصدمة ونرد بحجر الرأي، نعم، ما دون رأينا سيكون محل سخرية واضح. هذه أفضل طرق الحجر الآن ولنسميها "أنا sarcastic لماذا لا تقبلون المزاح؟" أو نسمي من تتعرض لأذى فتعبر عنه Drama Queen لم تكن مزحة هذه. انتشر أمر جديد؟ تريند؟ تزوج فلان ممن تصغره، وارتبط هذا بهذه، وفلانة خلعت الحجاب. فلان هاجر ونجح في حياته، أمر عادي؟ لا هناك شيء وراءه لنكتشفه، وتوتر رهيب لأنني لم أكتب بعد رأيي في بعض الأمور، أين تعليقي؟ هكذا سأوصم بالتأخر، من يصمني؟ لا نعرف. من يهتم أصلًا؟ لا نعرف أيضًا إن أحسنت؟ جعلوا منك إلهًا لا يخطئ تُوّجت زعيم الفكر، وإن كان كل فكرك رأيًا عاديًا، وكتابٌ واحد لخصته، وإن أسأت؟ فأنت جاهل ذميم، حلال أن نسبك ونشهّر بك ونتبادل "الكوميكس" سخريةً من كل ما يخصك حتى خِلقَتك.

العالم الذي وُجد لنقترب، فبات يبعدنا عن أنفسنا أكثر وأكثر، العالم الذي نقضي عليه وقتًا نعتقد أنه قد يُجدي ونبني علاقات نتوهم أنها ستدوم، فإذا بهذا الوقت يقضي علينا، ومع أول وقعة حقيقية في أرض الواقع ننظر، فنرى أننا وحدنا تمامًا. 

هذا العالم الموحش، بكثير من التفاصيل المنسيّة الآن، المليء بالأخبار المرعبة، وفي لمح البصر تتحول بين الأسى من موتٍ أو مرضٍ في منشور إلى فرحة لزواج أو تخرج. وبين هذا وذاك تتأرجح حياتنا، أو هي لم تعد حياتنا نحن أصلًا. ننسى أين نحن؟ وماذا نفعل؟ ولمن ننتمي؟ وما يعنينا وما لا يعنينا. تضيع صحتنا النفسية، وتتكالب الأمور، وفي نهاية الأمر، نُصاب بآلام مبرحة جسدية، وأخرى نفسية، لا ندري من أين بدأت، وكيف جاءت، وكيف ننتهي منها. هذا العالم الحاكم أكثر من العالم الحقيقي، فهنا تعليقك قد يتعرض للتحليل النفسي من هواة علم النفس، أما إن كنتِ فتاة وأعجبتي بمنشور عن الحب؛ فأنتِ بالطبع تشعرين بفراغ عاطفي، كل شيء هنا قابل للتحليل؛ صداقاتك، منشوراتك، تعليقاتك، صورك، حتى حينما تضع صورة "اللاصورة" على الفيسبوك مثلًا، فهذا دليل على اكتئابك معروفة.

العالم الذي وُجد لنقترب، فبات يبعدنا عن أنفسنا أكثر وأكثر، العالم الذي نقضي عليه وقتًا نعتقد أنه قد يُجدي ونبني علاقات نتوهم أنها ستدوم، فإذا بهذا الوقت يقضي علينا، ومع أول وقعة حقيقية في أرض الواقع ننظر، فنرى أننا وحدنا تمامًا.  أولينا بعضَ الوهم اهتمامًا على الحقيقية، فلم يعد لدينا مساحة أمان لا حقيقية ولا حتى متوهمة! عند أول وقعة لو كتبت عن الوقعة، وأنت صاحب المزاج الجميل الرايق، فأنت الآن نكديّ ومدعٍ وطالب اهتمام، والحصيلة يختفي ناس، يأتي آخرون.

أنا هنا أحاول أن أريكم ما أرى، وإن كانت رؤيتي قاصرة ومرتكزة في جانب واحد هو السلبي، الإيجابي هنا موجود، المثمر موجود، لكن يختفي ببطء وسط السلوكيات المريضة الفادحة هنا، الصالح وسط الطالح نعم موجود، كما وجوده في العالم الحقيقي تمامًا، لكن البحث عنه يتطلب وعيًا ذاتيًا كبيرًا.

تتغير قيمنا باختلاف كل هؤلاء المؤثرين في حياتنا الذين لا يشبهوننا أبدًا، وإن ادعينا التشابه. أنا هنا لا أدعو لغلق مواقع التواصل كليةًـ وإن كنت أتمنى ذلك، ولا أنبح وأصيح نقدًا حادًا لاذعًا متأثرة بصدمة ألمّت بي في هذا العالم. وإن كان بعضًا من حديثي هذا نيته. أنا هنا أحاول أن أريكم ما أرى، وإن كانت رؤيتي قاصرة ومرتكزة في جانب واحد هو السلبي، الإيجابي هنا موجود، المثمر موجود، لكن يختفي ببطء وسط السلوكيات المريضة الفادحة هنا، الصالح وسط الطالح نعم موجود، كما وجوده في العالم الحقيقي تمامًا، لكن البحث عنه يتطلب وعيًا ذاتيًا كبيرًا ورؤية حقيقية لآثار السوء هنا على أنفسنا.

نحن لن نبحث نحن عن بدائل السوشال ميديا الضارة طوال أننا نلهث وراءها ونبغيها ولا نرى عيوبها وإن كنا نومئُ برأسنا كلما ذكر الأمر أمامنا الصالح موجود، المحفزات الحقيقية هنا أيضًا موجودة، وكثير من المعينات. تتطلب البحث؟ نعم وتتطلب أكثر من ذلك، يتطلب أن أعرف من هذا الذي أتابعه، هل ما يكتب حقيقي؟ هل هو علم؟ أم مجرد رأي؟ ماذا درس؟ هل هو مختص؟ يتطلب ألا نجعل من مدّعي العلم آداة للعلم بنفوسنا، وأن نحترم نفوسنا ولا نعظّم من شيء يقلل منّا، وتتطلب الكثير الكثير من الوعي الذاتي، الرؤية الذاتية لأنفسنا وما نتأثر به وما يضرنا، يتطلب تحديد واضح لمصفوفة قيمنا وأولولياتنا، يتطلب رؤية من أنا وماذا أفعل وماذا أحتاج، ويمكن أن أنظُر بعدها لما أريد.

هذا ليس باليسير، أو لم يكن يسيرًا عليّ، وما نفعني في هذا أكثر من عُزلة حقيقية عن هذا العالم؛ أيقنت فيها أنّي أستطيع العيش من دونه، لولا بعضًا من رغبتي الباقية في الحفاظ على فرصِ عملٍ ما، والاطلاع على أخبارٍ دراسية لا أجد بديلًا لها حتى الآن سوى في السوشال ميديا عُزلة ندخل بها ميدان فكرة، قد تطول قد تقصر، قد نسميها كما تُسمى الآن social media detoxبغرض إزالة سموم السوشال ميديا من جسمنا؛ لكنّي لا أحب هذا المسمى، فأنا أتمنى لو لم أعرض نفسي للسميات هذه؛ بعزلة حقيقية أحدد فيها ماذا أتابع ولماذا، ثم أعود، وحين أراني أبتعد عن مغزايا من هنا. أبتعد قليلًا لأرى الأمور أوضح، لكن أن أتعرض لسموم، وأتمنى بعدها أن يخف أثرها عليّ؟

المهم، كل هذا الحكي لن يكون ذو مغزى دون طرح حلول، حاولت تقديم حل رؤية النفس وما تحتاج من عُزلة، ولتفكر أنت؛ هل تحتاج السوشال ميديا لهذه الدرجة؟ هل جربت أن تتركها مؤقتًا حتى؟ هل فوائدها لديك تتخطى عيوبها؟ وكم حساب على كم موقع تواصل اجتماعي تمتلك؟ هل هذا أنت وهل هذا ما تريد؟ أتمنى أن يأتي اليوم الذي نستيقظ فيه من ميتة صغرى، لا نذهب ملء إرادتنا لميتة كبرى، أن نقول الحمد لله الذي أحيانا ونحن أحياء فعلًا مدركين قيمة الحياة.