بنفسج

دع طفلك وحده

الثلاثاء 05 أكتوبر

دع طفلك وحده ولكن كن في الجوار. البعض يظن أن التربية السليمة تقتضي أن نلازم أبنائنا صغارًا وكبارًا، وأن ننوب عنهم في كل مراحل الحياة لأنهم أبنائنا، ولأنهم حسب ظننا لا يستطيعون المواجهة، أو ربما لا نريد لهم المواجهة، فيترتب على تلك النظرة أن يظل الفتى أو الفتاة في معية الأم أو الأب مكبلين باهتمامهم الزائد وخشيتهم عليهم.

ماذا ينتج عن ذلك؟ نجد شخصًا اتكاليًا لا يجيد شيء، لا يفقه في الحياة سوى الخطوات الصغيرة التي اعتاد أن يسيرها مع والديه، كنبتة نمت في محمية بلاستيكية، لا تعرف سوى حدود هذه الصندوق البلاستيكي، أي محاولة للخطو خارج تلك الصوبة تعتبر مجازفة، أي نسمة عابرة قد تطيح بها أرضًا، فهذه النبتة لم تعرف سوى يد الزارع، ولم تعتد سوى على الأجواء الهادئة المستقرة في مساحتها الآمنة.

| كن وسطيًا مع طفلك

دع طفلك.png

والسؤال، هل الحياة آمنة لهذا الحد؟ هل نريد لصغارنا أن يظلوا في المنطقة الآمنة، أي خطواتهم على آثار أقدامنا وحدودهم رؤيتنا ونهايتهم مخاوفنا؟ حين تخرج صغار الحيوانات من أرحام أمهاتهم فإن الأم تكتفي بلعق وليدها ومن ثم تدفعه للوقوف مباشرة. حين تنكسر البيوض عن أفراخ الطيور تُعد الأم صغارها للطيران، ثم تطلقهم في الهواء فور نمو ريشهم، كي يخرجوا من العش الصغير لبراح السماء، يأكلون ويتعلمون ويكبرون.

فهل من الطبيعي أن يظل الإنسان مستندًا على والديه إلى ما لا نهاية؟ يظل الأهل متمسكين بابنتهم فلا مجال لها أن تتحرك فيه سوى ما يُعدها لشأن النساء، فهي لن تستطع فعل أي شيء إلا في وجود رجل ليتحمل مسؤوليتها عندها تستطيع أن تستقل. ويظل الفتى مُحاطًا برعاية مشددة، لأنه لا يقدر على شيء كونه صغير، فيقررون تزويجه، فهذا هو السبيل الوحيد لجعله رجلًا يتحمل المسؤولية، حينها فقط يمكنه الاستقلال.

أي عقل هذا؟ نمنع أبنائنا من التدريب والتعلم ثم نلقِ بهم في اختبار الزواج، موقنين من نجاح تجربتهم في تحمل المسؤولية والاستقلال، ثم ماذا يحدث بعد ذلك؟ تخبرنا بالنتيجة نسب الطلاق ومحاكم الأسرة. والزواج ليس المشروع الوحيد الذي يفشل فيه الكثير من الشباب الاعتماديين وإنما هو واحد من أهمها.

أي عقل هذا؟ نمنع أبنائنا من التدريب والتعلم ثم نلقِ بهم في اختبار الزواج، موقنين من نجاح تجربتهم في تحمل المسؤولية والاستقلال، ثم ماذا يحدث بعد ذلك؟ تخبرنا بالنتيجة نسب الطلاق ومحاكم الأسرة. والزواج ليس المشروع الوحيد الذي يفشل فيه الكثير من الشباب الاعتماديين وإنما هو واحد من أهمها، فبدلًا من أن يعين الأهل أبنائهم على السير في دروب الحياة بمختلف صعوباتها ودرجاتها، يبترون أقدامهم تمامًا ليقوموا بواجباتهم بالنيابة، فيعجزون عن مواجهة أبسط مهام الحياة فور احتكاكهم بها.

قبل فوات الأوان من المهم أن يوقن الأهل أن الاستقلال لا يعني انفلات العقد وليست نهاية الارتباط، إنما هي فرصة أكبر لتوثيق العروة بيننا وبينهم، إذا أحسنَا الأساس فستظل كل خطوة للصغار هي تأكيد على كلمة نطقناها معهم، وكل موقف مر بنا سويًا وكل حكمة استخلصناها معًا، ومن كل شدة ألمت بنا، سيسترجعون تلك الأحداث لتكون عونًا لهم في رحلتهم الجديدة، ندعهم وحدهم ولكن نتدخل برغبتهم هم في أن نساعدهم، أو في اللحظة الحرجة التي تحتاج قدراتنا وخبراتنا.

نحن نعاني أزمة هوية، تيه فكري يسحقنا، واستهلاك يدمرنا، أفكار هنا وهناك وتشتت يبتلعنا كثقب أسود لا فرار منه، ربما إن صححنا بوصلتنا وصببنا اهتمامنا على سقاية صغارنا مبادئنا وفضائل ديننا وقيم مجتمعاتنا، بدلًا من فرض أطواق الحماية على طاقتهم ونهتم بحماية عقولهم، لربما ينشأ جيل جديد يسير في طريقه برشد.

إذا أعطى المربي صغيره فرصة واحدة ليستقل عنه شيئًا فشيئًا، فلن يكون استقلاله انفصالًا بل رابطة تدوم حتى ولو أصبح أحدهما فوق الأرض والآخر تحتها. استقلال الأبناء يبدأ منذ خطواتهم الأولى، ليس جحودًا من الأهل أن يتركوا طفلهم يسقط مرة والأخرى، فالسقوط يُعلم الثبات، الرسوب في الاختبار يُعلم تحمل المسؤولية، التورط في شجار مع أبناء الجيران يُعلم ضبط النفس، تبديد المصروف البسيط يهذّب السلوك ويضبط الأولويات، ويدرّب صاحبه على حفظ الموارد في الكبر.

التمرد الصبياني الذي يبدو لنا مخالفة لأوامر الأهل ونواهيهم، في بعض الأحيان، يخرج لنا في المستقبل رجالًا حقيقيين، ليسوا متفلتين، ولكن يصعب انقيادهم وراء هفوات فكرية أو أي تحولات ثقافية لحظية دون تمريرها على أرضية واسعة من المعايير التراكمية التي أرساها مربوهم في الماضي، فيساعده الأمر على تفادي الكثير من السقطات دون احتياجه لحضور أهله أو توجيههم اللحظي، فلقد فعلوا مهمتهم مسبقًا.

ختامًا، نحن نعاني أزمة هوية، تيه فكري يسحقنا، واستهلاك يدمرنا، أفكار هنا وهناك وتشتت يبتلعنا كثقب أسود لا فرار منه، ربما إن صححنا بوصلتنا وصببنا اهتمامنا على سقاية صغارنا مبادئنا وفضائل ديننا وقيم مجتمعاتنا، بدلًا من فرض أطواق الحماية على طاقتهم ونهتم بحماية عقولهم، لربما ينشأ جيل جديد يسير في طريقه برشد، وربما يُفلح فيما فشلنا نحن فيه.