بنفسج

بارود ملون: أمية جحا.. ريشة وطن

الأحد 30 يناير

لم تكن جريدة الصباح التي يشتريها إخوتها الذين يكبرونها، مجرد طقس صباحي روتيني في يومها، فما إن تلمح جريدة إلا تبحث فيها عن الرسومات الكاريكاتيرية لـ"ناجي العلي"، تقصها من الجريدة ثم تلصقها على دفتر خاص بها، وبين ساعة وأخرى تجلس وتتأمل ما وراء تلك اللوحات ومغزاها.

كانت "أمية" آنذاك، طفلة لم تتعدَّ المرحلة الإعدادية بعد، حين كانت تأسرها لوحات "ناجي العلي" التي كانت تمتلئ بها الجرائد، بخطوطه البسيطة وحزنه وتعليقاته وحنظلته! قبل أن تكبر أمية وتدرك ما قالته رضوى عاشور يومًا عنه: "رسوم ناجي العلي تعرّفنا بأنفسنا، وعندما نعرف نستطيع.. ربما لذلك اغتالوه"!

| من هي أمية؟

"أمية جحا"، من مواليد الثاني من فبراير عام 1972م، وهي أول رسامة كاريكاتير في فلسطين والوطن العربي، أم طفلة أذاقها الاحتلال الحسرة في أن يمسك أبوها بيدها إلى المدرسة، هي زوجة سابقة لشهيدين، والآن زوجة لأسير محرر، كان في يوم من الأيام أصغر طفل في سجون الاحتلال.
 
في المرحلة الإعدادية كانت لوحات "ناجي العلي" تأسر "أمية" كما قالت لـ"بنفسج"، فهو من جعلها تلتفت لمجال رسم الكاريكاتير، شخصية "ناجي" بدأت تتقمصها "أمية" في كثير من لوحاتها، حتى بأدق التفاصيل في رسوماته، بخطوطه والتعليق الطويل على لوحاته.

هي "أمية جحا"، من مواليد الثاني من فبراير عام 1972م، وهي أول رسامة كاريكاتير في فلسطين والوطن العربي، أم طفلة أذاقها الاحتلال الحسرة في أن يمسك أبوها بيدها إلى المدرسة، هي زوجة سابقة لشهيدين، والآن زوجة لأسير محرر، كان في يوم من الأيام أصغر طفل في سجون الاحتلال.

"أمية" كانت ضيفة منصة "بنفسج" هنا، علَّ قارئات "بنفسج" يشتممن عبق إلهامها وصبرها وقوتها، ووقوفها أيضًا ككل امرأة فلسطينية حاول الاحتلال كسرها مرات عديدة، محطات فقد زوجها وشرب ابنتها من كأس اليتم كما باقي أطفال الشهداء، تحدثنا هنا أمية الأم، الرسامة، الابنة، معلمة الرياضيات، زوجة الشهيدين، زوجة الأسير المحرر!

إلى أيام طفولتها تعود الذاكرة بأمية، وهي تحدثنا فرِحة عن انتظارها لحصة الرسم في المدرسة، واهتمام معلمة الفنون بموهبتها، تقول لبنفسج: "كنت أحب أن أرسم الوجوه، السماء والزهور والناس، بالشكل الطفولي، فلم تكن الموهبة قوية لأستطيع أن أظهر الأنف والعيون"، وتضيف أن أجمل لحظات طفولتها حين كانت ترسلها المعلمة إلى مديرة المدرسة لتريها رسوماتها، أو أن تذهب بها إلى الفصول الأخرى كي تعرض عليهم جمال لوحاتها، عدا عن الجوائز المحفزة من المعلمات، والتي عادة ما كانت علبة ألوان، ودفترًا للرسم.

| وصية "ناجي العلي"

امية.jpg
أمية جحا في مرحلة الطفولة

في المرحلة الإعدادية كانت لوحات "ناجي العلي" تأسر "أمية" كما قالت لـ"بنفسج"، فهو من جعلها تلتفت لمجال رسم الكاريكاتير، فرغم صغر سنها إلا أنها كانت تقرأ وتفهم ما وراء الرسمة، خطوطه، تعليقاته على الصور، بأشخاصها وموضوعها والحزن الكبير الذي كان يسيطر عليه، عدا عن إحباطه من الوضع السياسي ومن كل القيادات.

شخصية "ناجي" بدأت تتقمصها "أمية" في كثير من لوحاتها، حتى بأدق التفاصيل في رسوماته، بخطوطه والتعليق الطويل على لوحاته، بشكل الخط أيضًا، كما رسمة حنظلة التي رافقتها لسنوات، تقول "أمية" بنبرة وجع: "بعد اغتياله شعرت بأهميته وكيف يوجع برسوماته، ولولا أنه أوجع الاحتلال لما استهدفه".

وفي خضم الحديث عن "ناجي" ووجعها لاغتياله، لم تنسَ "أمية" ملهمها الثاني في تلك الفترة، وهو الفنان الكبير اللبناني محمود كحيل، تقول: "كنت أحب أن أرى لوحاته، فهو فنان موسوعي، يهتم بالقضايا الفلسطينية والعالمية، كانت طريقة رسوماته وإبداعه محط اهتمامي في رسم الكاريكاتير".

أمية جحا7.jpg

في المرحلة الجامعية استقلت "أمية" بشخصيتها عن شخصية "حنظلة"، وباتت رسامة الكاريكاتير ببصمتها الخاصة، تقول "أمية": "المرحلة الجامعية كانت انطلاقتي الأولى حيث آثرت في تلك المرحلة ظهور شخصيتي بعيدًا عن ناجي العلي والتأثر برسوماته وشخصية حنظلة"، وتضيف: "بت أصنع رسوماتي بطريقتي الخاصة وإبداعي الخاص، وبصمتي الخاصة، التي بات الكل يعرفها بعد ذلك من خلال خطوطي في الرسم".

بفكاهة تحدثنا "أمية" عن نهفة من نهفاتها الكاريكاتيرية التي كانت تفعلها في المرحلة الجامعية، حيث كانت ترسم محاضريها، وعن رأيهم في ذلك تجيب: "كثير منهم كانوا لا يعجبهم أن ترسمه كاريكاتير، لأن الكاريكاتير يرسم الإنسان بشكل هزلي غالبًا، وربما تبرز الرسمة الأشياء التي لا يحبها في شكله"، "وحتى الآن حين أقابل بعض مدرسي الجامعة، يضحكون ويخبرونها أنهم ما زالوا يحتفظون بهذه الرسومات"، تضيف.

| أمية الأم

أمية7.jpg
أمية جحا برفقة أطفال من غزة في فعالية ترفيهية

عن أمية "الأم"؟ سألنا "أمية" لتنساب الحروف بعاطفة واضحة في صوتها، ذاك الفصل الموجع والملهم أيضًا في حياتها، تقول عنه بمشاعر مجتمعة من الألم والحسرة والفرح والفخر والسعادة. تزوجت "أمية" ثلاث مرات، حيث كان الشهيد المهندس رامي سعد، زوجها الأول، قبل أن تبدأ محطات الوجع في حياتها، في الأول من مايو عام 2003، حين قصفه الاحتلال، وبعدها تزوجت المهندس وائل عقيلان الذي استشهد في السادس من أيار/مايو 2009، بسبب الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة الذي حال دون مغادرته قطاع غزة للعلاج، بعد أن أصابه انفجار في معدته.

هي "نور" هي فصل التوجع والفخار في حياة أمية، هي ابنة الشهيد "رامي سعد" التي استشهد والدها، وهي لم تتعدَّ الثمانية شهور بعد، هي نفسها التي تعدها "أمية" امتداد أبيها باختيارها لتخصص "هندسة الحاسوب"، كما كان والدها، وامتداد لأمها أيضًا بإلهامها لها التي اختصرت الحديث عنها: "نور محط أسراري وأفكاري".

لم تنكر "أمية" أن مشوار تربيتها لطفلتها اليتيمة قد أثر على مسيرتها في الرسم كثيرًا، حيث كانت تحرص في رسوماتها على إبراز وجع طفلتها التي فقدت والدها وهي في لفة الولادة، عن الحرمان الذي تقرأه في عيني ابنتها وهي تتخرج من مرحلة لأخرى متمنية أن تلتقط صورة مع أبيها، وأن تكون ضحكات أبيها حاضرة كما عناقه وفخره! 

كانت "نور" منذ صغرها تقلد أمها، تقول "أمية" حيث كانت تستطيع فتح برنامج الرسام في سن مبكرة جدًا، وتجدها تحاول رسم الخطوط ببراءة متناهية، علَّها تكون رسمة متكاملة مثلها، تقول "أمية" عن ابنتها الوحيدة: "حين كبرت نور تأثرت بشخصية والدها، في القراءة والثقافة وحب الاطلاع، وحب الهندسة، فاختارت تخصص هندسة الحاسوب، وهي الآن في السنة الثانية في الجامعة".

لم تنكر "أمية" أن مشوار تربيتها لطفلتها اليتيمة قد أثّر على مسيرتها في الرسم كثيرًا، حيث كانت تحرص في رسوماتها على إبراز وجع طفلتها التي فقدت والدها وهي في لفة الولادة، عن الحرمان الذي تقرأه في عيني ابنتها وهي تتخرج من مرحلة لأخرى متمنية أن تلتقط صورة مع أبيها، وأن تكون ضحكات أبيها حاضرة كما عناقه وفخره! التجربتان اللتان تجرعت فيهما "أمية" الفقد بمرارة، أيضًا أثرتا على لوحاتها، حيث ظهر في رسوماتها حزنها وشخصيتها، فالقهر لذي كان يرتسم على محياها أيضًا كان حاضرًا في قتامة ألوان اللوحة، عدا عن الدماء التي كانت تغلب على رسوماتها.

أمية4.jpg
كاركتير أمية جحا

وعلى الشاطئ الأخير في حياة "أمية" رست سفينتها وهي تقول لنا عن ارتباطها بأسير محرر هو "صابر أبو كرش"، فقد كان أصغر طفل فلسطيني في سجون الاحتلال حين أُسر وهو في الصف الأول الإعدادي. "كان صابر بمثابة محطة أخبار"، تقولها "أمية" وهي تخبرنا كيف أن ارتباطها بأسير سابق لدى الاحتلال كان ملهمًا لها، حيث استوحت لوحاتها من حديثه عن معاناته والأسرى في الزنازين، وكم الحرمان الذي عاشوه فيها عدا عن الظلم والقهر هناك.

تفخر أمية، وبدا ذلك واضحًا في ثنايا صوتها، كونها كانت الرسامة الأولى للكاريكاتير في الوطن العربي بين الإناث، حيث تعتبر ذلك إضافة نوعية للشعب الفلسطيني، بعد أن كان معروفًا عن هذا المجال أنه حكر على الرجال، لا سيما أنها بدأت وقتها الرسم في صحف سياسية وتناول مواضيع سياسية، بعد أن انتقلت من العمل في عالم تدريس الرياضيات، إلى عالم الصحافة، لا سيما المجال الذي كان سببًا في اغتيال ناجي العلي.

| لوحات وقصص!

أمية كاركتير.jpg
كاركتير أمية جحا

ما هو الكاريكاتير الأقرب لقلب أمية"؟ كان سؤال بنفسج لها، غير أنها أخبرتنا أن الفنان يعتبر لوحاته التي يرسمها كأنها أحد أولاده، بدت وقتها كأم يؤلمها التفريق بين أبنائها، ففي كل لوحة محطة وذكرى وتوجع ورسالة! أما عن الكاريكاتير الشهير، فهو كاريكاتير حي الزيتون الذي رسمت فيه شارون ووراءه ثلاثة جنود برؤوس مقطوعة وهو يقول: "هؤلاء جنودنا البواسل، عادوا مرفوعي الرؤوس"!

وأيضًا من الكاريكاتيرات التي تعجبت "أمية" أنه انتشر بكثرة وحتى بعد رسمه ب 6 سنوات، هو الكاريكاتير التي جسدت فيه المقاومة الفلسطينية وهي تقشر برتقالة، كانت بداخلها قبة الصخرة المشرفة، تقول "أمية" بسعادة كبيرة: "نال شهرة كبيرة على مستوى عربي وعالمي في العدوان الأخير على غزة، حتى قال عنه أحدهم هذا الكاريكاتير الذي يستحق جائزة عام 2021".

"ينقص الكاريكاتير العربي الحرية"، تدرك "أمية" ذلك، وتحكي بأسف كبير: "نحن كعالم عربي وأغلب الأنظمة العربية أنظمة استبدادية، لا تقبل النقد، ولا تقبل أن يُشار إليها بإصبع الاتهام، فالتطبيع العربي بات الآن كالحبل على الغارب". "فالفنان المخلص لقضايا أمته، لا يعجبه هذا الحال، ولا يعجب الحكام أن يرسم الفنانون حولهم، ويتهموا أنهم خانوا القضية أو طبعوا" وتضيف "أمية"، "نحتاج إلى هامش كبير من الحريات، بشكل عام، الحرية التي يكون سقفها الالتزام بالمعتقدات الدينية وعدم تجاوزها فهذا خط أحمر عندي".

أمية3.jpg
كاركتير أمية جحا

كما تؤكد "أمية" أن نقد الرسام يجب أن يكون ليس من أجل النقد، بل من أجل البناء، وإعمار الشخصية وتصحيح المسار. حيث تدرك، كما تقول، إن هناك كثيرًا منهم كشيوخ السلاطين يزينون الباطل، ويرتضون أن يكونوا أبواقًا للسلطة، بسيرهم مسارًا غير سليم وغير سوي، وتختم: "أعتبر أن فنان الكاريكاتير الصحيح هو من يصلح، ومن يحاول بريشته إصلاح حال الأمة العربية والاتجاه بها نحو الرفعة والأفضل، ونحو إبراز وجودها وحضورها في العالم كلها"

تعود ضيفتنا "أمية" إلى لوحاتها وتحاول أن تعايشنا مع خطوطها لبعض الوقت، فلم تنسَ تلك اللوحة التي تلقت على إثرها اتصالات كثيرة من أشخاص تأثروا بها بشكل كبير. حيث رسمت طفلًا جالسًا على الرصيف يبيع بعض الأشياء البسيطة ليعيل عائلته بعد أسر أبيه، وينظر من بعيد على طفل يمسك بيد أبيه ذاهبًا به إلى المدرسة، ويقول والحسرة على وجهه: "عندما يخرج أبي من السجن سوف يأخذني إلى أجمل المدارس".

على إيقاع الرياضيات كيف ضبطت أمية ريشتها؟ كان سؤال بنفسج الختامي لأمية حين أخبرتنا أن هناك علاقة وطيدة جدًا بين الرياضيات والفن، فالرياضيات كما رسم الكاريكاتير يحتاج إلى الذكاء والإبداع في حل المسألة للوصول كما الكاريكاتير الذي يحتاج إلى إبداع الفكرة لإيصالها، والذكاء في انتقاء الرسمة وخطوطها.

مسك الختام التي أحبت "أمية" أن تتحدث عنه، ملهمها الخفي، بطل كواليس حياتها، هي أمها التي استمدت منها الصبر والقوة على تربية ابنتها كونها ربت تسعة من الأبناء في ظل غياب زوجها عنها لأكثر من اثني عشر عامًا، ليعمل في دول الخليج مدرسًا، التي وصفتها أمية خاتمة لقائها مع بنفسج: "أمي كانت وسادة آلامي، ومسند أحلامي!