بنفسج

في المحن: أوجودهم حولك منحة؟

الأربعاء 10 يونيو

لطالما تساءلت ما الجدوى من اجتماع الناس حول بعضهم عند كل مصاب، من الذي أنشأ هذه العادة؟ من الذي أخبرهم أنها مريحة وجيدة، فباتوا يمارسونها بفطرة، وكأنها وجدت من أصل الخلق.

أشاهد نفسي مع غدو الناس ورواحهم، كمن يراقبها من بعيد، أو كأنني أقف هناك في زاوية البيت أشاهد كل الأحداث بقلبي المغتم الذي غُرس فيه سكين بارد، نصله حاد يتحرك في قلبي على هواه، ودون سابق إنذار، ها أنا أقف لأسلّم على هذا وذاك، ثم أجلس وأستمع لهم بلا استماع، يتحدثون عن مشاعرهم، يساندونك أو يكتفون بالصمت، وربما تحدثوا بأي حديث منطقي كان أو غير منطقي ليكسروا ذلك الصمت الذي يخيم على الأجواء، تهيم بي المشاعر، تضيق بي الدنيا، تثور براكين دموعي في داخلي توشك أن تخرج، أطالع الأرض لأخفي ما بي، تلك الأرض التي حفظتُ عدد حبات النقش فيها، ثم على حين صحوة أمنع نفسي بحزم. "لا... لقد اعتدت أن لا أبكي أمام أحد…"!

عندما يغادر هذا الجمع ويولون الدبر، سأضم قلبي المفطور كما لم أفعل من قبل، سأبكي وأبكي إلى أن تخرج روحي، وسأبكي بعد خروجها..لماذا لا يغادرون؟ ما الفائدة من وجودهم هناليتهم يمضون إلى شؤونهم ..أنا بحاجة نفسي، أريد أن أضمها هي فقط!

لطالما تساءلت ما الجدوى من اجتماع الناس حول بعضهم عند كل مصاب، من الذي أنشأ هذه العادة؟ من الذي أخبرهم أنها مريحة وجيدة، فباتوا يمارسونها بفطرة، وكأنها وجدت من أصل الخلق، منذ نشوء أول ذرة في الكون؟حتى أنني أصبحت كلما زرت بيتًا فيه مصاب، شعرت بنفس المشاعر التي مررت بها، كانت تباغتني بحدة تخنق روحي ولا أدري كيف أتصرف.

 ما هذا التناقض.. لا تؤيدين هذه العادة وتفعلينها؟لقد حدثت نفسي بذلك مرات ومراتكنت أحاول أن أصنع شيئًا مختلفًا لأقنع نفسي أنني لا أخالف معتقدي، فكنت لا أكتفي بالسلام عليهم فقط، بل كنت أضمهم واحدًا واحدًا، أربت على أكتافهم بحنية، أنظر إلى عيونهم ولا أقول شيئًا، تاركةً روحي تتحدث، ثم أجلس في زاوية البيت بصمت أتأملهم وأنا أعلم تمامًا بم يفكرون، ذلك الشعور الذي يلخص بأن يقوم أحدهم فيصرخ: " يكفي، يكفي، اخرجوا جميعًا من هنا، أريد أن أبكي، غادروا يرحمكم اللهلا طاقة لي على مقابلة الناس أو مجاملتهم، ليس اليوم.

أسأل نفسي الآن بعد سنوات: " هل كانت مواساة الناس لي نعمة أم نقمة؟ هل امتلاء البيت كل يوم كان كفيلًا في هدوء رعونات نفسي وهلعها؟ كان يبدأ يومي بصمت المصدوم الذي أفاق على نهارٍ جديد يحاول فيه أن يصدّق الخبر الذي سمعه بالأمس، عيون غائرة متسمرة، وجسد ساكن كأن الروح قد غادرته، تبدأ أفواج الناس بالمجيء، فأرغب أن أخلو بنفسي لأحزن كيف أشاء، ولكنني أمنعها على أن أفعل ذلك بعد أن يقفل الناس ذاهبين، ولكن المساء يجيء بجسد منهك من كل شيء حتى الانهيارلا طاقة للانهيار لدي.

 سأنام، لا لا، .سأدعو الله قليلًا، فتلك قوتي الوحيدة، وقراري الصائب الذي أرد به على كل خواطري الحانقة المضطربة التي حدثتني بها نفسي اليوم! ثم أنام، وهكذا دواليك، ثم يكون أن أصحوا في يومٍ، وقد تشربت الصدمة التي تلقيت.

أنني الآن أعتادُ الناس أكثر، وأشعر أن وجودهم أصبح مؤنسًا أكثر من قبل..سأنتظر الزائر التالي بشوق، سأخبره تفاصيل جديدة، بل ربما سأدمع وأبكي وأنا أتحدث إليه، وسأرى دموعه تضمني أفضل مما كنت سأضم نفسي!

 فأبدأ بالتفكير، نعم، لقد كان التفكير المنطقي معطلًا من قبل، رغم عدم شعوري بذلك وقتها.. رغم ثباتي وتصابري وصبري، رغم كل عبارات الرضا والحمد التي تضلعتهاأستطيع أن أقول: " الآن، اتزنت نبضات مشاعري ودقات صبري!". يجب أن أبدأ بترتيب أموري والنهوض من جديد.

هنا، يصبح استقبال الناس أجمل، وأبدأ بالحديث معهم بقليل من الكلمات تخرج رغم ألمأتدرج بالاشتغال بقرارتي الجديدة، سأنقل الأولاد من مدرستهم القديمة التي كانت بجانب منزلنا القديم، عفوًا، أقصد مملكتنا الجميلة! سأبحث عن سكن غير مسكننا المؤقت هذا، ولكن يجب أن يكون قريبًا من عائلتي وأحبتي لضمان الأمان والأنس والرفقة. أو ربما عليّ الذهاب لبعض الدوائر الرسمية لأتولى شخصيًا ترتيب الكثير من الأمور التي يتطلبها وضعنا الجديد.

أنني الآن أعتادُ الناس أكثر، وأشعر أن وجودهم أصبح مؤنسًا أكثر من قبل..سأنتظر الزائر التالي بشوق، سأخبره تفاصيل جديدة، بل ربما سأدمع وأبكي وأنا أتحدث إليه، وسأرى دموعه تضمني أفضل مما كنت سأضم نفسيالتَفتُ لأمي يومًا وقلت لها: هل تعلمين مما أخاف؟

إنني أخاف أن ينتهي كل هذا، فيعود الناس إلى أشغالهم، وتستقر أموري التي أشغل نفسي بها، حينها ستبدأ صعوبة الواقع الجديد الذي كتب علي، وقد كان جزء من كلامي هذا صحيحًا، فعلًا، يشتد عودك أو هكذا يظن الناس، فتخف زياراتهم وجولاتهم التي كنت قد بدأتَ انتظارها. مرة كل أسبوع، كل شهر، ثم كل عدة أشهر في أفضل الحلات. ولكن، أعلم أنك ستفاجئ حينئذٍ بعوض الله المتمثل بأشكال أُخَر. بل ربما كانت هذه قاعدة ربانية تسير في الأرض، ليجعلك الله خارق القوة صلبًا!

ألم يمر سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم يوما بذلك؟ فقد أنس لخديجة وركن إلى روحها التي طالما ساندته، وكذلك الحال مع عمه الذي كان دائمًا في صفه أمام جبابرة مكة في ذلك الوقت، ثم كان أن توفاهم الله في نفس العام بفارق بضعة أشهر، عام الحزن هذا الذي مر على حبيبنا هو نفسه عام المرحلة الجديدة من الرفعة والمكانة في هذه الرسالة الخالدة، عامٌ بعث الله له به رسالة واضحة أنني أنا فقط سندك الذي تركن إليه في هذه الدنيا.

إن تجردًا مماثلًا هو الذي يوصلك إلى مرحلة البصيرة بأن مواساة الناس لك نعمة، ولكنها لا تغفلك عن المواساة الحقيقة والسند الحقيقي الذي لا يتغير عليك ولا يمل منك ولا ينقطع، كن مع الله ولا تبالي، وكن على يقين أن عوض الله إذا حل أنساك ألم الفقد!