بنفسج

يحيا الفلسطيني بموته!

الأربعاء 11 مايو

 "لا تقولوا اُستشهد بل قولوا أُعدم وسقط على الأرض". صُدمت، كما الجميع، هذا الصباح، بخبر استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة، وهي صحافية يعرفها الصغير قبل الكبير في فلسطين. وخبر وفاتها أحزن فلسطين جميعها، فقد كبرنا على تغطياتها ومراسلاتها في كل الأحداث، وراقبناها، بنفس النغمة والطريقة وملامح الوجه، وهي تقول مئات المرات: شيرين أبو عاقلة، الجزيرة، فلسطين المحتلة. أمسِ، جرى حوار بيني وبين صديق؛ إذ يعتقد أن منظومة العنف التي خلقها الاحتلال، أصبحت جزءًا من مكوناتنا العميقة، فماذا نفعل بها بعد زوال الاحتلال؟ صدمتني هذه الفرضية لوهلة وأثارت تساؤلات كثيرة لديّ، فإذا كانت فرضيته صحيحة فللأمر مآلات مركبة ومربكة.

أخي يلومني لحزني على مقتل شيرين أبو عاقلة "حزنا هذا الصباح، ولا يجب أن ندع الإحباط يسيطر علينا. هكذا نحن الفلسطينيون، هذه حياتنا. نقتل ونستشهد...كل يوم، عاادي!". ويقول صديق آخر "مواسيًا": "نيالها عند ربنا لقد ماتت شهيدة".

وتأتي الإجابات، أو أجزاء منها، في أحداث تراجيدية أكثر تعقيدًا. أخي يلومني لحزني على مقتل شيرين أبو عاقلة "حزنا هذا الصباح، ولا يجب أن ندع الإحباط يسيطر علينا. هكذا نحن الفلسطينين، هذه حياتنا. نقتل ونستشهد...كل يوم، عاادي!". ويقول صديق آخر "مواسيًا": "نيالها عند ربنا لقد ماتت شهيدة". فكرت أنا في مقولاتهم جميعًا فأيقنت ما فعل الاحتلال بنا! لقد جعل من الموت حقيقة عادية منغرسة فينا، نحزن لساعة وساعتين لأن هذه حياتنا الطبيعية، والموت جزء منها، أو نفرح للموت لأنه شهادة، وهذه حقيقة دينية ووطنية أيضًا منبنية فينا. وكلها مقولات تبرر حزننا وتواسينا، بينما هي في الحقيقة أن قتلنا كل يوم أصبح عاديًا.


اقرأ أيضًا: الشهيدان الزبدة: كواليس خلف الشخصية العسكرية


إن الحالة الفلسطينية، لا شك، تحقق عيني لموت اللغة، وإنها انبثاق لا نظامي في استحضار الموت "النظامي"، حسيًا وبصريًا. وإن قتل شيرين أبو عاقلة، قتل جماعي بنيوي في فرد واحد، سبقه جرائم قتل نظامية على شكل مجازر بهدف تصفية الجماعي. وإن موت شيرين في البنية الجمعية الفلسطينية لا تنفصل عنها مجازيًا، تسبب حالة من الصدمة والتبعثر والفقدان على المستوى الوجودي الإنساني، وإننا لنظنها مؤقتة أو عابرة، ولكنها في الأصل متجذرة. فكيف ندير، نحن الفلسطينيين، شؤون موتنا. نحزن، نطبع صورة، نكتب مدونة، كل هذه تواطؤات بشأن تبرير القتل الذي يمارسه الاحتلال، وهي ممارسة عنف تفكيكي وإحلالي.

وإنه يعلم الانزياح الذي أدته شيرين أبو عاقلة، وفي قتلها المتعمد، اغتيال وتصفية جسدية، محاول لتفكيك البنية المجتمعي الجمعية، وهي ليست صحافية فقط، بل أكاديمية معلمة، ومدربة لطلاب الصحافة في الجامعات الفلسطينية. تميزت بتغطياتها الصحافية في الحراكات والانتفاضات والمواجهات، وآخرها مواجهات مخيم جنين. ولا يختلف مشهد قتلها في إجراميته وعنفه مشاهد تصفية أخرى في مخيلتنا الحسية والبصرية، وجزء من تكوينتنا، وربما تقبلنا الذي يحول الصدمة إلى طبيعة الحياة اليومية للفلسطيني، وهو يضيف مشهد قتل شيرين إلى مئات المشاهد الأخرى في ذاكرته.

ولعل طور موت الفلسطيني في "الاستشهاد"، هو هيئة حضور فاعل ماديًا ودلاليًا، بينما حضور النظام الاستعماري قائم على تكريس الغياب الفلسطيني، والإعلان عن هذ الغياب، من خلال اعتراف الضحية به. "أن تموت شهيدًا يعني أنك تنتزع من النظام سيطرته على إدارته على إدارة شؤون الموت الجامعي الفلسطيني، وإن هذا الانتزاع رمزيًا أو جزئيًا. فالشهيد ينتزع السيطرة على موته كفرد ليمثل إمكانية الانتزاع الجماعي...". من هنا يموت الفلسطيني ليحيا، ولن يحيا إلا بموته...