بنفسج

في بيتي طفل مصاب بالتوحد: تجربة أم

الأربعاء 10 يونيو

طفلٌ يتمتع بقدرة عجيبة على الحفظ، تسأله عن سور القرآن، فيخبرك برقم السورة وفي أي صفحة تقع، تعرفه برقم هاتفك النقال، فيكرره على الفور دون خطأ، وربما تستعين به في معرفة بعض الكلمات الإنجليزية، فهي إن مرّت عليه مرةً واحدة لا ينساها، أما المعلومات الثقافية كعواصم الدول وأسماء الشخصيات وغيرها فستتملكك الدهشة إن بدأ بسردها، وربما تستغرب من إلحاحه المتواصل على والدته لتلبي له ما يطلبه.. على الأغلب سيكون الوصف السابق هو الصورة الأولية التي تراها للطفل "يوسف أبو عجوة" في لقائك الأول معه، وربما لن تدرك أن ذلك الطفل المميز مُصابٌ بالتوحد.

هذا التميّز، نتاج البصمة التي وضعتها والدة يوسف "رشا أبو عجوة".. "بنفسج" استمتعت لهذه "الأم العظيمة" لترصد تجربتها علّها تكون مفيدة لكل أمٍ رزقها الله بطفلٍ مُصابٍ بالتوحد أو بأي مرض آخر.

| فلنبدأ فورًا

 

"أنا أمٌ لطفلٍ مريض" ترددها رشا أبو عجوة بفخرٍ في كل مناسبة، حتى أن البعض يسألها باستغراب: "هل أنت سعيدة لأن ابنك مريض؟"، فتجيب: "هو هدية الله لي في الدنيا".
 
تلفت إلى أنها وزوجها تقبلا مرض ابنهما فور معرفتهما بالأمر، وبالتالي، قدّما له العلاج المناسب في وقت مبكر، ما ساهم في تطوره ووصوله إلى ما وصل إليه اليوم، مبينة: "أسعى لأن يكون ابني معتمدًا على ذاته، وألا يحتاج العون من أحد عندما نغادر الدنيا أنا ووالده".

تناديه والدته باسمه، ولا يلتفت، فتشكّ بأنه يعاني من ضعف في السمع، ثم تجده يتفاعل مع الأصوات الصادرة عن قنوات الأطفال، فتطمئن على سمعه، لكنها لا تطمئن لعدم استجاباته لنداءاتها. اختلاف ردّ فعله تجاه الأصوات حسب مصدرها، إضافة إلى بكائه المتواصل طيلة الليل واكتفائه بالنوم لساعة واحدة فقط، كانا سببين كافيين لتشعر الأم بوجود خلل ما عند ابنها، فطرقت باب الطب لتعرف المشكلة وتعالجها قبل أن تتفاقم.

شاركها الأطباء شكّها الأول بوجود مشكلة في السمع، لكن الفحوصات أثبتت سلامة أذني الطفل تماما، فتوقعوا أن يكون مصابًا بالتوحد، وهو ما ثبت بالفعل. ما إن أخبر الأخصائيون الأم أن ابنها متوحد، حتى قالت: "فلنبدأ بالجلسات العلاجية على الفور"، دون أن تسمح لحزنها بتأخير علاج الطفل، لإدراكها أهمية التدخل المبكر في علاج التوحد.

تقول أبو عجوة في حديثها لـ"بنفسج": "جربت العديد من الطرق العلاجية، إما بالأدوية أو بالاعتماد على الأعشاب، والحميات الغذائية، والعلاج بـ(لسعات النحل)، لكن دون جدوى، حتى اهتديت إلى مركز متخصص ألحقت ابني به عندما كان في سنته الرابعة، فتطور بدرجة ملحوظة بعد أن استغني عن الأدوية وخضع في المركز لبرنامج تأهيل سلوكي لغوي".

"أنا أمٌ لطفلٍ مريض" ترددها أبو عجوة بفخرٍ في كل مناسبة، حتى أن البعض يسألها باستغراب: "هل أنت سعيدة لأن ابنك مريض؟"، فتجيب: "هو هدية الله لي في الدنيا". وتلفت إلى أنها وزوجها تقبلا مرض ابنهما فور معرفتهما بالأمر، وبالتالي، قدّما له العلاج المناسب في وقت مبكر، ما ساهم في تطوره ووصوله إلى ما وصل إليه اليوم، مبينة: "أسعى لأن يكون ابني معتمدًا على ذاته، وألا يحتاج العون من أحد عندما نغادر الدنيا أنا ووالده".

| مواجهة الخطر

توحد5.jpg
 

توضح: "عندما صار عمر يوسف أربع سنوات، لم أفكر بإلحاقه بروضة الأطفال، فهو لا يتكلم، ولن يتمكن من فهم ما تشرحه المعلمة، وعلى الأغلب سيكون محطًّا لسخرية أقرانه".

وتبين: "الأخصائي المشرف على متابعة ابني أقنعني بقدرته على الالتحاق بالروضة، ونصحني باختيار روضة مُتاحة لكل الأطفال وليست لذوي الاحتياجات الخاصة، ليتفاعل يوسف مع أطفال طبيعيين فيتعلم منهم ويقلدّ حركاتهم وبالتالي يسهل اندماجه في المجتمع".

أخذت أبو عجوة بنصيحة الأخصائي، وأضافت لها بندًا آخر، وهو أن تكون الروضة بعيدة عن بيتها، حتى تجبر نفسها على عدم زيارته أثناء وجوده فيها. كانت تعدّ الساعات حتى يعود "يوسف" من الروضة، وتتمنى أن يحدّثها عن تفاصيل يومه، لكنه لا يتكلم، عدم الكلام كان سببًا لسكوته حتى عن الخطر إن تعرّض له، وذات يوم اكتشفت الخطر بسبب آثاره الواضحة على جسد صغيرها، والتي كان منها علامات "جنزير" على رقبته، وكدمات زرقاء كثيرة، وكان السبب أن الأطفال ضربوه وخنقوه على حين غفلة من المعلمات.

ليس هذا الموقف الوحيد، فثمّة أحداث كاد أن يلقى الطفل حتفه فيها، توضح: "استمر التحاق يوسف بروضة الأطفال لثلاث سنوات، لم أستسلم خلالها أمام خوفي على ابني". لم تكن أبو عجوة تفكر في إلحاق ابنها بالمدرسة قبل وصوله سن الخامسة عشر، لكن ما حدث أنه تأخر عن العمر المحدد لدخول المدرسة عامًا واحدًا فقط، وعندما دخلها كان مدركًا لما حوله، وقادرَا على التعبير عمّا يفكر فيه، وعلى التفاعل مع زملائه.

الآن، "يوسف" في الصف الثالث الابتدائي، يدرس، ويستعد جيدًا للاختبارات، ويحصد فيها درجات أفضل من السابق، ويكتب بخطٍ جميل، وبحسب والدته، فهو في تطور مستمر منذ التحاقه بالصف الأول وحتى الآن.

| السر

يحفظ يوسف المعلومات والأرقام بمجرد اطلاعه عليها لمرةٍ واحدة، كأرقام سور القرآن وصفحاتها، وأرقام الهواتف، والمعلومات الثقافية المختلفة، والكلمات الإنجليزية. 
 
 وقد حصل على منحة في برنامج حساب الذكاء العقلي، وأبدى فيه تميّزا واضحَا، إذ سبق أقرانه في مستويات البرنامج، ولديه قدرة على مسائل حسابية تتكون من أرقام كثيرة.

يحفظ يوسف المعلومات والأرقام بمجرد اطلاعه عليها لمرةٍ واحدة، كأرقام سور القرآن وصفحاتها، وأرقام الهواتف، والمعلومات الثقافية المختلفة، والكلمات الإنجليزية. وقد حصل على منحة في برنامج حساب الذكاء العقلي، وأبدى فيه تميّزا واضحَا، إذ سبق أقرانه في مستويات البرنامج، ولديه قدرة على مسائل حسابية تتكون من أرقام كثيرة، ما يدل على أنه قادر على الاستنتاج أيضًا وليس مجرد الحفظ.

تقول والدته: في أي مكان عام، يسأل يوسف الناس عن أرقام هواتهم وبطاقات هوياتهم، ثم يكرر الأرقام لي، وهو ما يضعني في موقف محرج، وأحيانًا أضطر لتعريف الآخرين بكونه متوحد". هذا الإحراج يرافقه إحراج آخر، وهو أنه يناديها بين الناس بأعلى صوته "رشا" بدلًا من "ماما"، ومع ذلك فهي فتسمع اسمها ينساب على لسانه كلحن يدخل قلبها.

في رحلة علاج يوسف، لم تكتفِ والدته بما يتلقاه في مراكز العلاج، وإنما كانت تكرر ما تراه من الأخصائيين، فمثلا تعرّف ابنها بأسماء الأشياء بالطريقة التي يستخدمها الأخصائي، تقول: "كنت أجعله إلى جانبي أثناء إعدادي للطعام، وأطلب منه إحضار المكونات، كأن أطلب ليمونة، فنذهب أنا وهو لإحضار الليمونة، وهكذا".

جدد أهله أثاث البيت وتجهيزات المطبخ أكثر من مرة، فهو كلما غضب يدمّر أشياءً ويلقي بأخرى من النافذة، ومن الجدير بالذكر أن "نوبات العصبية" باتت اليوم أقل بكثير من السابق. كان يوسف "ملتصقًا" بالهاتف الذكي، حسب وصف والدته، لكنه حاليًا لا يستخدمه إلا بإشراف أبويه، ليكون تأثيرًا إيجابيًا، ومن ذلك أنه يستخدم تطبيقات المعلومات العامة، فيحفظ ما فيها عن ظهر قلب.

إذن، التحق الطفل بالمدرسة، وحقق نجاحًا في برنامج حساب الذكاء القلي، وتميّز في الحفظ، بالإضافة إلى أنه تطور بدرجة غير متوقعة في الإدراك والتفاعل الاجتماعي، وتراجعت نوبات الغضب عنده كثيرًا، إلى جانب أشكال أخرى من التطور جعلته يبدو مختلفًا تماما عن أطفال التوحد، أو بالأحرى يبدو كطفلٍ طبيعيٍ تمامًا، والسر في هذا التطور وفق والدته "الصبر".

النجاح الذي حققته أبو عجوة مع صغيرها، جعل من "يوسف" نموذجًا يُضرَب به المثل عند الحديث عن المتوحدين، وحالة تعطي الأمل للأهالي اليائسين، وتحثّهم على السعي لعلاج أبنائهم.