بنفسج

كيف يصاحب أبناؤنا الكتب؟ تجربة ثرية لميمونة دغلس

الإثنين 26 ديسمبر

جلست في عيادة الطبيبة مع ابنتها مريم صاحبة العامين والنصف تنتظر دورها، كانت الأمهات يحملن أولادهنّ، وكان المكان هادئًا إلى حد ما، لم تعد العيادات وأماكن الانتظار تضج ببكاء الأطفال الذين يشعرون بالملل، اليوم يمكن أن تعطي هاتفك النقال لطفلك ، وتفتح له على أي فيديو بألوان وموسيقى صاخبة، سيصمت فورًا حتى ينتهي دورك في العيادة، أو جولتك في السوق أو أعمال المنزل، والجلوس مع الأهل والأصدقاء وصولًا إلى النوم.

الأمر كان مختلفًا بالنسبة لها ولمريم التي بدأت بالبكاء لمللها، فنزلت برفقتها من العيادة، وصلنا لأقرب مكتبة وقمنا بشراء  قصة تناسب عمرها وعدنا للعيادة نقرأها سويًا، وهي تستمع لي بعيون متلألئة تمسك الكتاب بأناملها الصغيرة الحريصة. حينها جاءت إحدى الأمهات مندهشة كمن أصيب بصاعقة لما رأتني أنا ومريم على هذا الحال وقالت: "هيك .. بهاي السهولة، مسكتي القصة تقرأي وهي بتسمعلك لا وعمرها سنتين ونص ومبسوطة وبدون غلبة.. طيب كيف؟!". ضحكت ميمونة وقتها كما ضحكت وهي تستذكر معنا هذا الموقف لتعود بنا برحلة تحدي القراءة، ولكن على مستوى منزلي وأسري أصعب وأشد من أي تحدي آخر؛ فكيف بدأ الأمر ولماذا؟

 القارئة مريم

 

كانت البداية مع ابنتها البكر مريم التي تبلغ اليوم من العمر 9 سنوات، وقد أصبحت قارئة نهمة ومهووسة بالقراءة، كما تصفها والدتها، حتى أنها فازت بأحد مراحل مسابقة تحدي القراءة العربي على مستوى مدينة نابلس. وعن هذه النهاية المشرقة تحدثنا ميمونة عن البدايات، تقول: "بدأت مع مريم في سن أعتبره متأخراً عن أشقائها، فكان عمرها عامين ونصف عندما بدأت تجلس في أحضاني ونمسك الكتاب سويًا ونقرأ معًا".

"أحب الصالحين ولست منهم لعلي أنال بهم شفاعة"؛ استهلت ميمونة دغلس 31 عامًا هذا البيت الشعري مشبهة حالها مع القراءة، هي لطالما أحبت الكتب، ولكن لم تكن تقرأ بالصورة التي تمنتها لنفسها، لذلك عزمت أن تزرع في أبنائها الخصلة التي لطالما تمنت دومًا أن تكون فيها، فهي تعلم أن القراءة ليست أمرًا عبثيًا كيف وأول كلمة نزلت على الأمة الإسلامية "اقرأ".

كانت البداية مع ابنتها البكر مريم التي تبلغ اليوم من العمر 9 سنوات، وقد أصبحت قارئة نهمة ومهووسة بالقراءة، كما تصفها والدتها، حتى أنها فازت بأحد مراحل مسابقة  تحدي القراءة العربي على مستوى مدينة نابلس. وعن هذه النهاية المشرقة تحدثنا ميمونة عن البدايات، تقول: "بدأت مع مريم في سن أعتبره متأخرًا عن أشقائها، فكان عمرها عامين ونصف عندما بدأت تجلس في أحضاني ونمسك الكتاب سويًا ونقرأ معًا".

__________-09-1.png

تعلمت ميمونة الدرس الأول، وهو التبكير أكثر في هذه المهمة، فجاء طفلها الثاني يحيى الذي يبلغ اليوم 6 سنوات، تضيف: "بدأت مع يحيى وهو في شهوره الأولى، وكان يكره القراءة جدًا، ظل حتى العامين يصرخ كلما أمسكت الكتاب وأبدأ القراءة بجانبه بصوت مرتفع لعله يلتفت أو يأتي قربي كما كانت مريم، ولكنه يمسك الكتاب من يدي ويرميه ويصرخ ويقول "بديش أقرأ.. لا.. بكفي". ولكنني لم أيأس، وكنت أصّبر نفسي في سبيل نجاح هذه المهمة الصعبة، وبالفعل، بعد العامين أصبح مثل أخته مريم مهووسًا بالقراءة، فبدأ يطلب مني بنفسه القراءة،  ويجلس جانبي لنقرأ سويًا. أما عن ابنتي الثالثة يمنى فبدأت معها في القراءة وهي في بطني، فكبرت وتأثرت بأخوتها وعائلتها التي تصادقت مع الكتب منذ زمن".

44-1.jpg

الأمر لا يقتصر على إمساك الكتاب والقراءة فقط، فميمونة كانت تتبع عدة طرق وأساليب حتى تعمق القراءة في نفوسهم، خصوصًا أنهم صغار جدًا وغير قادرين على القراءة بأنفسهم، فتقول: "قصة ما قبل النوم كانت البداية، وحتى إني كنت أحفظ القصة،  كانت مريم تنتظرها بشوق جدًا، وكذلك عليّ الاهتمام بلغة الجسد جدًا ونبرة الصوت، فالطفل بحاجة لأشياء تشده وليس للسرد وحسب، وكنت أصطحبهم في كل مرة نذهب إلى السوق للمكتبة نشتري القصص سويًا لتصبح زيارة المكتبة بعد أن كبروا أجمل رحلة".


اقرأ أيضًا: القراءة كعادة يومية...خطوات عملية


سكتت هنا ميمونة لوهلة وقالت: "لا بد لي أن أستذكر في هذا المقام موقفًا لا يمكن نسيانه؛ فعندما كبر الأطفال خططنا للذهاب لمكتبة البلدية المكان الذي كانوا يريدون زيارته منذ أن سمعوا به، وتأجل المشوار لعام ونصف بسبب كورونا، ويوم أن جاء الموعد كانوا يقفزون من الفرح بشكل مشابه لفرحة طفل سيذهب لمدينة الألعاب،  فشراء كتاب  بالنسبة لهم، بل يعادل شعور شراء لعبة جديدة رائعة!".

تصف ميمونة عقل الطفل بالصفحة البيضاء؛ فهو لا يمتلك المصطلحات والصور التي يحتويها ذهن الكبير، لذلك لا بد من الحديث معه بلغته، ولكن هذا لا يعني أن نحرف محتوى الكتاب؛ فأحد أهم الأساليب التي تتبعها ميمونة أيضًا أنها تقرأ القصة كما كتبت باللغة العربية الفصحى بشكل متقطع، وتفصل بعدها بلهجة مبسطة يفهمها أطفالها، لأنها أرادت دومًا أن يظل أطفالها على اتصال باللغة العربية وتحب أن يشب أطفالها على تعلم اللغة العربية  قبل أي لغة أخرى.

 تحدي النفس مع القراءة

received_1160232571260444.jpeg
أطفال ميمونة الذين حرصت على زرع خصلة القراءة فيهم

أُتيحت لنا الفرصة للتحدث مع مريم الابنة البكر للسيدة ميمونة،  مريم فازت في مسابقة تحدي القراءة العربي، وقبل أن نخبركم بماذا حدثتنا مريم عن القراءة، لا بد من استعراض بعض التفاصيل الخاصة بمريم على لسان أمها، خصوصًا أنها أول الأبناء وأكثرهم هوسًا بالقراءة.

بدأت ميمونة مع مريم بالقصص الخاصة  بالأطفال، وعند بلوغها سن السادسة قررت ميمونة وزوجها تغيير المسار بما يتناسب مع عمرها، وكان أول كتاب بعيدًا عن القصص التربوية والتعليمية هو كتاب تاريخ فلسطين المصور، كان والدا مريم يقراءن لها كل يوم عدد معين بطريقة مبسطة قدر الإمكان بعد سرد النص كما كُتب، مع استعراض الصور التي يحتويها الكتاب وهي تطلب المزيد، حتى أن والديها في تلك المرحلة سافرا لأداء فريضة العمرة وتركا مريم في بيت جدها فاختارت مريم أن تأخذ الكتاب، لا دميتها المفضلة، ليكمل لها جدها القراءة، واليوم مريم قرأت خلال بضع أيام 600 صفحة من المجلد.

__________-08-2.png

كما يُقال، ما الحب إلا للحبيب الأول، مريم اليوم لما سألناها ما أحب الكتب لك؟ قالت: "أحب قراءة كتب التاريخ كثيرًا، لأنها مشوقة وتحكي عن قصص حقيقية جرت في الماضي مما يجعلني أفهم الحاضر أكثر، ولكن ينتابني الحزن على كثير من الأحداث المؤسفة، وأبرز ما قرأت في التاريخ كان كتاب قصص الأنبياء، وكتاب السيرة، وكتاب تاريخ السلاجقة، وتاريخ التتار، وحاليًا أقرأ تاريخ فلسطين المصور، وتاريخ الأندلس".

يحتار القارئ عن فتاة تحفها ملهيات كثيرة تفضل الكتاب عليها، فتجيب مريم على حيرتنا: "أجد في القراءة الصديق وقت الملل، وأنا بطبعي أحب الهدوء، لذلك أستمتع عندما أنفرد بالكتاب، ولديّ فضول دائم، لذلك أفرغ هذه الصفة بالبحث عما يفيد. وفي الوقت التي تنشغل فيه زميلاتي بالهاتف المحمول ومتابعة "اليوتيوب" اخترت أنا الكتاب ليكون رفيقًا دائمًا لي".

في هذا السياق تقول لنا مريم عن أكثر المواقف المضحكة بالنسبة لها على الرغم من أنه جاء من باب السخرية منها، ففي مرة جاءت قريبة لها لزيارتها وعرضت على مريم العب معها، فردت مريم: " ولكن ما رأيك أن نقرأ هذا الكتاب؟"، فقالت لها الأخرى مستنكرة: "بكفي قراءة أنت دودة كتب ما بتشبعي منها".


اقرأ أيضًا: كيف تربي طفلك على حب القراءة؟


اعتبرت مريم هذا الوصف إطراءً، فالكتب أصبحت رفيقتها في كل مكان وزمان، وتقول: "الكتاب كالمغناطيس يجذبني ولا يمكنني تجاوزه إذا رأيته". وهذا ما أكدته والدتها، فتقول: "في كل غرفة في بيتننا هناك زاوية للكتب وإن مرت مريم مرورًا من غرفة لغرفة يجب أن يأخذ هذا المشوار 20 دقيقة  أو يزيد، وهو لا يتجاوز في الأصل دقيقة، لأنها مرت من جانب الكتب ورأت كتابًا ما أرادت تصفحه". هذه القارئة الصغيرة التي تطمح أن تصبح عالمة فلك تربط بين العلم والدين، أتمت اليوم قراءة 500 كتاب تقريبًا.

أثرت القراءة بشكل إيجابي على مريم؛ فالمعلمات يشدن بثقافتها العالية؛ فهي تجيب على أشياء لا يعلمها بنات جيلها، وهذا زاد من تميزها في المدرسة؛ فأصبحت مميزة ومحبوبة لدى المعلمات وزميلاتها، وكذلك على مستوى العائلة؛ ففي مرة كان هناك نقاش في تجمع عائلي حول نظرية "دارون" فأجابت بطريقة أفحمت من أمامها بأسلوب علمي. تتسم مريم بالخجل، فهي خجولة، تظهر جزءًا بسيطًا من ثقافتها وتتمنى ميمونة "أن تكون متحدثة وأكثر جرأة لتنفع الناس بثقافتها".

 "ابنك على ما ربتيه"

لم نتحدث حتى اللحظة عن العقبة الأكبر أمام الكبير الذي يريد أن يقرأ قبل الصغير، وهي الإنترنت والألعاب الإلكترونية فكيف واجهت ميمونة الأمر؟ كان هناك عدة إجراءات اتخذتها ميمونة وزوجها منذ البداية لبناء سد منيع أمام طوفان العالم الافتراضي والتلفاز.

 فهي منذ اليوم الأول لا تسمح بمشاهدة التلفاز إلا بشكل محدود ومدروس، فتجهز بشكل مسبق برنامجًا تأكدت من محتواه، وتضعه على "فلاشة" ليشاهد أبناؤها الحلقات بشكل مقنن ومحدود، خصوصًا مع موجة المحتوى غير الهادف، والسيء الذي تعرضه كثير من مسلسلات الكرتون.

  أما اليوتيوب؛ فتعتمده هذه العائلة كوسيلة تعليمية أكثر من كونها ترفيهية،  تستعين به الأمر لشرح أو توضيح أو الاستفاضة من بعض المعلومات التي يقرأونها في بطون الكتب.

لم نتحدث حتى اللحظة عن العقبة الأكبر أمام الكبير الذي يريد أن يقرأ قبل الصغير، وهي الإنترنت والألعاب الإلكترونية فكيف واجهت ميمونة الأمر؟ كان هناك عدة إجراءات اتخذتها ميمونة وزوجها منذ البداية لبناء سد منيع أمام طوفان العالم الافتراضي والتلفاز؛ فهي منذ اليوم الأول لا تسمح بمشاهدة التلفاز إلا بشكل محدود ومدروس، فتجهز بشكل مسبق برنامجًا تأكدت من محتواه، وتضعه على "فلاشة" ليشاهد أبناؤها الحلقات بشكل مقنن ومحدود، خصوصًا مع موجة المحتوى غير الهادف، والسيء الذي تعرضه كثير من مسلسلات الكرتون.

 أما  اليوتيوب؛ فتعتمده هذه العائلة كوسيلة تعليمية أكثر من كونها ترفيهية،  تستعين به الأمر لشرح أو توضيح أو الاستفاضة من بعض المعلومات التي يقرأونها في بطون الكتب. تضيف ميمونة: "لا شك في الفترة الأخيرة زادت صعوبة الأمر، مما دفعني لزيادة عدد ساعات المشاهدة لساعة ونصف، لأن كل من حولهم من الأطفال يمسك جهازه ويشاهد ويتابع خصوصًا عند زيارة الأهل، أما الألعاب الإلكترونية فهي غير متاحة لهم".

33-3.jpg

وتكمل في ذات السياق: "لا أريد أن يفهم القارئ أني لا أسمح باللعب أو أني أسرق من طفلي طفولته، بل أنا أحميها، فإن أراد طفلي اللعب هناك الكثير من الألعاب التي يمكننا أن نلعبها سويًا أو الذهاب للتنزه، فضلَا عن الدمى، وقطع التركيب، وغيرها الكثير التي تناسب أعمارهم وتنمي مهاراتهم العقلية والجسدية".

المهندسة ميمونة التي فضلت الجلوس في المنزل ورعاية أبنائها على العمل، كمهندسة خارج المنزل، تختتم حديثها بأن الأطفال أمانات لدى آبائهم، وفي كل يوم مع تطور العالم الرقمي يزداد ثقل هذه الأمانة وأهمية رعايتها وحمايتها أكثر، وتردف: "أملي وطموحي أن لا يكون أطفالي أبدًا أطفالًا عاديين. هذا ما أرجوه من الله، وأطلب منه العون والقوة والصبر في العمل على ذلك أريدهم أن يؤثروا في الأمة ويخدموا دينهم وأمتهم."