بنفسج

احتفال بالهالوين أم انتصار لاحتلال خفي؟

السبت 05 نوفمبر

مرت أمامي -كما مرت أمام كثيرين غيري- منذ أيام صورة لأشخاص بأقنعة وحوش مرعبة تخفي وجوههم، إلى جانبها الشماغ الذي يميز الزي السعودي الرسمي في أجواء من "احتفالات الهالوين في الرياض". ولو كانت هذه الصورة في أي مكان آخر حول العالم لما توقفت عندها، وما أصابني برؤيتها هذا الحجم من الألم؛ وأعتذر هنا عن ازدواجيتي غير المقبولة، لأن للأرض كلها إله واحد، ولكن يخالجني هذا الشعور رغمًا عني.

ربما لأني عشت على هذه الأرض أكثر مما عشت على أيٍ غيرها؛ ففي المدينة المنورة عشت أغلب سنين عمري ثم تركتها وتركت معها شيئًا مني، لا ينفك يشجع ما ينفعها ويغار ويثور على ما يؤذيها. وربما لأن وقوع الإثم والمجاهرة بنشر البدع والمعاصي بعيدًا عن جسد الرسول -صل الله عليه وسلم- كان أهون عليّ قليلًا من وقوعه على بُعد مسافة لا توصف بالطويلة، أو في أرض الحرمين الشريفين يحدهم وجسده الطاهر -صلى الله عليه وسلم- حدودًا واحدة.

للأسف، إن ما يحدث اليوم هو تطور طبيعي بعد أن تصدَّر للعامة على مدار سنوات إعلام وأدباء وفنانون، أكثر ما يتناولونه من أفكار كان في سبيل التفنن في تلميع الغرب بتفاهاته ومحرماته قبل إنجازاته ونجاحاته، ولا يحثون الناس على شيء قدر حثهم على الاقتداء بالغرب في كل شيء، ولا يضيعون فرصة لا يضربون فيها للجمهور بأنفسهم خير، مثل بإبراز تحررهم من كل قوانين الدين ومبادئ العرف.

ولكن لحظة! هل قلت بادئ الأمر أني قد رأيت صورًا لـ"أشخاص"؟! عفوًا، فالحقيقة أنّي والله لم أرَ في الصورة أشخاصًا قدر ما رأيت مسوخًا، قد تعكس لك صورة أحيانًا أكثر مما ظن أصحابها أن تعكس، فهذه صورة رأيت فيها خلف الأقنعة المرعبة عقولًا مشوهة، لا يشغلها سوى أفكار مشوشة تحملها رؤوس باهتة لا كيان لها ولا هوية.

للأسف، إن ما يحدث اليوم هو تطور طبيعي بعد أن تصدَّر للعامة على مدار سنوات إعلام وأدباء وفنانون، أكثر ما يتناولونه من أفكار كان في سبيل التفنن في تلميع الغرب بتفاهاته ومحرماته قبل إنجازاته ونجاحاته، ولا يحثون الناس على شيء قدر حثهم على الاقتداء بالغرب في كل شيء، ولا يضيعون فرصة لا يضربون فيها للجمهور بأنفسهم خير، مثل بإبراز تحررهم من كل قوانين الدين ومبادئ العرف.


اقرأ أيضًا: لبركة البيوت... استقيموا يرحمكم الله


هذه الصورة المتداولة اليوم هي نتاج جهد دام لِعقود لا يُسمح فيها بالوجاهة والصدارة، إلا لمن يدفعون الناس دفعًا دؤوبًا نحو التجرد من هويتهم الدينية والعربية. عشنا سنوات يُنظر فيها لأحدهم بعين الانبهار ويُسبق اسمه بـ"الفيلسوف العظيم" زكي نجيب محمود، وهو الرجل الآخذ على عاتقه مهمة توجيه عقلية الأمة كلها صوب أن ما أسماه "الحضارة الغربية"؛ هي -حسب قوله- كلٌ لا يتجزأ. فإما أن يأخذها العرب جملة فيكون الآخذ بها متقدمًا، وإما أن يتركوها جملة فيكون تاركها ضعيفًا متخلفًا. للدرجة التي كان يحث معها على ضرورة البدء في كتابة اللغة العربية من اليسار إلى اليمين كما يكتب أهل الغرب.

وأنا هنا -صدقًا- لا أرى أي علاقة تربط بين زكي نجيب محمود بما تفتق به ذهنه من تشجيع على التقليد الأعمى، والفلسفة بما تنطوي عليه بأبنائها من تنوير يتبعه انبثاق أفكار جديدة وابتكار حلول فذة يسيرة لمعضلات أمم كاملة. وعشنا سنوات أخر نصب فيها "عميدًا للأدب العربي" رجلًا دعا بني العرب أجمع إلى أن يأخذوا عن الغرب كل شيء؛ إلى الحد الذي دفعه للقول نصًا "حتى الديدان التي في بطون أبنائهم".

فأين العروبة التي جُعل طه حسين عميدًا لأدبها من حثِّه على السير حبوًا خلف الغرب دون الحيد عن خطواتهم يمنة أو يسرة لِلَّحاق بركب الحضارة والتقدم؟! وغيرهما الكثيرون ممن أغمضوا أعينهم عنوة عن الحضارة الحقة التي كنا عليها قبل أن تعرف أوروبا النور؟! هؤلاء الذين تعمدوا إماتة مسمى "مدنية الغرب" وإحياء "حضارة الغرب" بدلًا عنه، بالرغم من أنهم والغرب ذاته يعرفون جيدًا حقيقة هذه الكذبة، ويحتقر الغربيون داعميها في مجتمعاتنا أشد احتقار!

فالفرق جوهريٌ يمنع الخلط بين الحضارة والمدنية، ويكمُن في أن الحضارة تتحدث عن الفكر والسلوك، وهما أمران أصيلان نابعان من المجتمع ذاته كلوحة نهائية خطها مزيج معارف هذا المجتمع وآدابه وفنونه، وكلها معانٍ معنوية راقية. أما المدنية؛ فهي جميع الأشكال المادية الظاهرة في المجتمع، والتي تأتي كانعكاس لفكر آخر وتتشكل من البناء والعمران المدني من ناحية والعلوم وتطبيقاتها من ناحية أخرى؛ ولذلك فإن الحضارة بمفهومها تظل أكثر عراقة وشمولًا، لأنها قد تضم المدنية إذا استكمل أبناؤها المسير تحت راية الحضارة الأم ولم ينسلخوا عنها.


اقرأ أيضًا: "لمّا كنّا قدهم كنّا...": هل نواجه جيلًا أكثر هشاشة حقًا؟


بالبحث في أغلب المعاجم قد تجد البداوة ضدًا مقابلًا للحضارة، ولكن بالبحث بعينيك ترى الحداثة هي عدو الحضارة الحقيقي، وإلا ما جعلها البريطانيون هدفًا نصب أعينهم في كل أرض استعمروها، وما أعلنوه مع استعمارهم للهند بأنهم يريدون خلق مواطن هندي بفِكر ولغة وهيئة بريطانية. تلك الاستعمارات التي كانت تكلفهم قبلًا الجند والعتاد أضحت اليوم أيسر بكثير، فهم الآن قادرون على تحريك بلدان بأكملها دون خسارة دم أو مال بعد أن أصبحنا مستعمَرون عن بعد، وبات معظمنا مواطنون بفِكر ولغة وهيئة غربية.

الحداثة -يا عزيزي- هي الفخ الذي أوقعتنا فيه أيادٍ خفية تدريجيًا لقطع استكمال الحضارة الإسلامية والعربية، وغرقنا فيه عن آخرنا إلى أن جاء اليوم الذي نقف فيه بالأثواب البيضاء، والأشمغة على أرض شبه الجزيرة العربية نحتفل بعيد الهلع. إذا كنت تريد بعدُ دليلًا على أصالة حضارتنا الإسلامية والعربية، فليس ثمة دليل أقوى مما ظهر جليًا في الفكر الذي غمر وصية أبي بكر -رضي الله عنه- للجنود في حروب الردة وسلوك الجنود فيها.

ابحث في تعاليم الإسلام في النظافة والطهارة والتطيب، ويؤسفني أن أخبرك أنك لن تجد لها مقابلًا في بلاد الغرب أصلًا لتعقد مقارنة. والأسهل من كل ما سبق ألا تبحث مطلقًا وافتح شاشة تلفازك فقط على نشرات أخبار هذه البلاد التي يحثك البعض على محاكاتها، تابعها إذا ما غاب القانون عنها يومًا واحدًا، سترى بنفسك البداوة والهمجية مجتمعان في أهلها يتكالبون على البضائع ليسرقونها.

وإذا مازلت تسأل عن دليل فانظر إلى موقف صلاح الدين الأيوبي في فتح بيت المقدس، وتسامحه مع سكان المدينة، فلم يحذُ حذو جنود الحملة الصليبية الأولى يوم اقتحموا المدينة، فقتلوا كل المسلمين من ساكنيها. ومن جهة أخرى، يمكنك رؤية الهمجية الخالصة في محاكم التفتيش التي أقامها القشتاليون في الأندلس حين قتلوا اليهود والمسلمين، وأيضًا النصارى من غير الكاثوليك بأبشع الطرق، وحرقوا كل ما طالت أياديهم من كتب الشريعة الإسلامية، وأصدروا الأوامر الملكية بما يُلزم جميع السكان الذين أُجبِروا على التَنَصُّر أن يسلموا سائر الكتب العربية التي لديهم.

ابحث قليلًا يا عزيزي المسلم العربي، يا صاحب الأرض والتاريخ والحضارة والهوية لتتأكد بنفسك أي طريق تريد أن تسلك؟! طريق ينادي نهارًا بحقوق المرأة ويتشدق بوجوب احترامها والسعي لتحريرها، ويسجل ليلًا نساؤه بأنفسهن إحصائيًا كل عام أعلى معدلات تحرش واغتصاب رغم الانفتاح والانحلال التام. أم طريق يحفظ للمرأة حقوقها كاملة مادية ومعنوية، ويصونها بقوانينه التي يعزز بها فطرتها ومكانتها؟!


اقرأ أيضًا: "بوب إت وصبارة راقصة": مجتمع رهن #الترند


ابحث في تعاليم الإسلام في النظافة والطهارة والتطيب، ويؤسفني أن أخبرك أنك لن تجد لها مقابلًا في بلاد الغرب أصلًا لتعقد مقارنة. والأسهل من كل ما سبق ألا تبحث مطلقًا وافتح شاشة تلفازك فقط على نشرات أخبار هذه البلاد التي يحثك البعض على محاكاتها، تابعها إذا ما غاب القانون عنها يومًا واحدًا، سترى بنفسك البداوة والهمجية مجتمعان في أهلها يتكالبون على البضائع ليسرقونها، ولو طال غياب القانون في إحدى هذه المرات ربما رأيت الناس بعينيك يأكلون بعضهم بعضًا.

صدق رسول الله -صل الله عليه وسلم- حين قال "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذِرَاعًا بذِرَاع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ"، هذا الجُحر المشهور بين بيوت بني الحيوان كلها بشدة قذارته وكراهة رائحته وغباء بنيانه؛ فهو الجحر الوحيد ذو المخرج الواحد لا مخارج متعددة للخداع والحماية، أي أن قاطنه هالك لا محالة عاجلًا أم آجلًا لأن لا مخرج له غير الذي يلاحقه منه عدوه. علم -صل الله عليه وسلم- أن سيأتي زمان يكون جيل من المسلمين لو رمى اليهود والنصارى أنفسهم للموت رميًا لتَبِعناهم دون تريث أو تفكير!

يا عزيزي المسلم العربي المحتفل بالهالوين! في العصور الوسطى التي يسميها مؤرخو الغرب أنفسهم عصور الظلام عندهم، كانت أرضك مهدًا للنهضة العلمية في شتى المجالات حتى بلغت أوجها. حين كنت قريبًا من ربك، ملتزمًا بتعاليم دينك، متحريًا لتنفيذ أوامر الله وحفظ محارمه؛ سُدتَ العالم وأنرت العقول والقلوب وأوشكت على امتلاك الأرض كلها. حين أظلمتْ الدنيا يومًا كان أجدادك فَجرها!

أنا أكيدة أن برعمًا أخضرًا لايزال بداخلك ممتدًا إلى جذور عريقة، جذور ليس في استطاعة امرئ على الأرض بلوغها؛ مازال بوسعك ري هذا البرعم وإنمائه، فقط عليك إعادة ضبط بوصلتك؛ فما كان التحضر يومًا في خلع الهوية، فأقصى ما بلغه خالعوها قبلك كان الشتات والضياع.