بنفسج

من قصص زوجات الأسرى: فصل جديد لعبير زهران

السبت 26 نوفمبر

زوجة أسير
زوجة أسير

على امتداد حياتهم اليومية، كان طارق في عِزّها، إن كان حاضراً أو مُغيّبًا قصريًا في السجون، صوره المُعلّقة على جُدران المنزل الذي جمع بين عبير وطارق وامتلأ بضحكاتهما العفوية وحُبهما الكبير، لكنّ ما بين ليلة وضحاها انتزعت هذه الروح من هذا المنزل، فلم يبقى أمام عبير سوى الانتظار وكثير من الصبر. حاولت بفضل الله أن تصبح قوية، أنجبت وتحمّلت مرارة القهر ولكنها مع كُلّ القوة التي احتوتها انهارت قواها وتشتت شجاعتها أمام سؤال طفليها :"أين بابا" ففي هذه اللحظة رمت أثقال يومها وبكت في حضن طفليها. هنا حكاية زوجة أسير نستعرضها عبر التقرير التالي.

 زوجة أسير "عبير زهران": للحكاية أوجه أخرى

زوجة أسير
 
تقول عبير زهران زوجة الأسير طارق زهران الذي أُفرج عنه في الـ 14 من أكتوبر الحالي: "في اليوم الذي اعتُقل طارق فيه، كنت أتممت تزيين غرفة توأمي الذي ننتظره، وبدأت أضع الملابس بها خوفًا من مباغتة المخاض لي...
 
 وفي خضم تفكيري بألم الولادة وخوفي من القادم، باغتنا جنود الاحتلال على حين غرة، واعتقلوا زوجي أمام عيني، شعرت حينها بالبرد يغزو أطرافي وبدوار يضرب في رأسي، لم يكن الجو باردًا جدًا لكني شعرت بالبرد يضرب في قلبي مباشرة فارتجفت للحظات".

تقول عبير زهران زوجة الأسير طارق زهران الذي أُفرج عنه في الـ 14 من أكتوبر الحالي: "في اليوم الذي اعتُقل طارق فيه، كنت أتممت تزيين غرفة توأمي الذي ننتظره، وبدأت أضع الملابس بها خوفًا من مباغتة المخاض لي، وفي خضم تفكيري بألم الولادة وخوفي من القادم، باغتنا جنود الاحتلال على حين غرة، واعتقلوا زوجي أمام عيني، شعرت حينها بالبرد يغزو أطرافي وبدوار يضرب في رأسي، لم يكن الجو باردًا جدًا لكني شعرت بالبرد يضرب في قلبي مباشرة فارتجفت للحظات حين هجموا عليه وكبلوه وشدوا الوثاق على عينيه ليحجبوا الرؤية عنه، ولكن صوته صدح قائلًا لي:  "ديري بالك على حالك يا عبير وعلى أولادنا".

كان وقع كلمات طارق وهو يودعها على قلبها كسهام الليل الجارحة،كان فيها ما يكفيها من توتر انتظار الولادة، فجاء الاحتلال لينغص فرحتهم باستقبال توأمهم، ويحرم طارق من حضور ولادة أطفاله، تضيف:  "بعد اعتقال زوجي، بدأ يُعرض على المحاكم كغيره من الأسرى، وبدأت أنا في حضور كل الجلسات،  كنت أصل للمحكمة في "عوفر" بعد طريق طويل من التفتيشات المهينة، أجلس للانتظار حتى يأتي دوري للدخول إلى القاعة، في أثناء الانتظار كنت أراقب ملامح أهالي الأسرى الجالسين برفقتنا، وأسأل الله لهم ولي الصبر".


اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن


تكمل عبير: على الكراسي في غرفة الانتظار تجد أطياف الناس، الكبار والصغار، النساء والرجال، هناك من تنتظر محاكمة زوجها والأخرى جاءت لترى نجلها، وذاك المُسن حضر ليطمئن ابنه عن صحته، والطفل الآخر جاء ليخبر والده أنه حصل على علامات عالية في المدرسة، والصبيّة الصغيرة حضرت لكي يراها والدها بالحجاب؛ تفاصيل صغيرة منعونا من مشاركتها مع من نُحب في  هذه الحياة".

زوجة أسير

استوعبت عبير معنى أن تكون زوجة أسير فكانت تتأمل أهالي الأسرى بوجع صامت، انتشلها من ذاك الوجع صوت الجندي وهو يقول "طارق زهران"، قامت بسرعة لتراه فوجدته مقيدًا يظهر على ملامحه الإرهاق، وبمجرد أن لمحها ابتسم ابتسامة واسعة وقال: "كيفك يا عبير"، فرحت حين سمعت صوته الذي اشتاقت له، تبادلا الحديث بالإيماءات وسط صراخ الجنود المزعج، كانت تتمنى أن تكون أقرب في المسافة لتراه جيدًا ولكنها كانت في آخر القاعة وهو في أولها، تبادلا النظرات طوال دقائق الجلسة القليلة، فباغتها كل من وديع وليلى بركلة في بطنها وكأنهم يرسلون السلام لوالدهم، فوضعت يدها على بطنها وأخذت تلوح لطارق بأن التوأم يشاكسون، فابتسم لها، ودت عبير لو أن الجلسة تطول أكثر ولكن صوت مطرقة القاضي كان أقوى مما تريد.

زوجة أسير: أم وأب في آن واحد

زوجة أسير
الأسير المحرر طارق زهران مع أطفاله بعد تحرره من سجون الاحتلال الإسرائيلي
تقول عبير: في الوقت الذي اعتُقل فيه طارق كنت في أشهري الأخيرة من الحمل، وكما هو معلوم أنّ الجسد يتغيّر وتُثقل حركته، ولكنّي كنت أواظب على زيارة المحاكم في وقتها، وبسبب ظروف الحمل ومشاقه اقترح الجميع أن يحضر أحد أصدقائه الجلسة لأرتاح أنا، في هذه الجلسة تحديدًا كان أمل الحُريّة بين عيوننا، بين الفينة والأخرى أرى الهاتف وأنا في انتظار الخبر، أحاول الاتصال لمعرفة الأخبار ولكن دون أي رد، توترت كثيرًا  وانتظرت طويلًا حتى سمعت صوت هاتفي فأجبت على الاتصال وتلقيت الخبر "طارق هيطلع اليوم"، علت الزغاريد والأناشيد في البيت، ولكن الفرحة انطفأت بعدما جاءنا اتصال ثان يخبرنا بأن طارق سيُمدد 72 ساعة وسيُحوّل إداريًّا".
رضيت عبير بقضاء الله وقدره وهيأت نفسيتها لولادتها دون وجود طارق، تردف: "في 1/1/2019 ازداد مخاضي وازدادت ركلات التوأم مُنذرين بأنهم سيبثون النور في حياتنا، بعد ساعات وُلِد وديع وليلى، وأذن في أذنهما جدهما، وددت أن يكون طارق موجودًا لكنه أمر الله ولا اعتراض".
تضيف عبير: "بدأت رحلتي في تربية توأمنا، سهر وقلق، اكتئاب حاد، خوفٌ من الذي يجري وماذا بعد سينتظرني، أقف على المرآة أنظر لنفسي وأبث كلمات الأمل بقوة لها،لم يتمكن طارق من مشاركتي فرحتي بإنجاب أولادناـ حتّى تمكّن من مكالمتي بعد ولادتي بيوم، وتهنئتي بسلامتي، أخبرني بأنّه من شِدّة فرحته وزّع الحلويات على الأسرى، بعد عِدّة أشهر من ولادتي تحرر طارق، وظل معنا 40 يومًا إلى أن جدد الاحتلال اعتقاله وقضى هذه المرة 3 أعوام و10 أشهر".

اقرأ أيضًا: هيفاء أبو صبيح: في أن تكوني أمًا وأسيرة


واجهت عبير وحدها مصاعب الحياة بعد ولادتها، حيث كانت الأم والأب لوديع وليلى، كان وديع مريضًا بالحساسية وحين يمرض تسوء حالته لوضعه الخاص، تكمل: "عندما كنت أذهب مع الأولاد إلى بيت جدهم، كان أطفالي ينادون أعمامهم وأخوالهم بـــــ"بابا"، ولكني عكفت على تصحيح مفاهيمهم، حتى أدركوا أن والدهم أسير في سجون الاحتلال، وأصبحوا يصطحبون صور والدهم ويخبرون الناس أجمع أن والدهم في السجن وسيعود".

| زيارات مريرة لـ زوجة أسير

زوجة أسير
 
 تقول عبير: "في زيارتهم الأولى كان الصغار في قمة حماسهم لرؤية والدهم، وفي ظل تحضيراتنا للزيارةـ، اتصل الصليب بنا ليخبرنا أن الزيارة تأجلت، فحزنت أنا وحزن التوأم، بعد مدة تحدد موعد جديد فكان يوم اللقاء يوم عيد لوديع وليلى.
 
 بعد نقاط تفتيش عديدة وطريق طويل، دخلنا إلى قاعة الزيارة وبدأت أنا وهم نبحث عن والدهما، حتّى عثرا  التوأم على أبيهما، فقالا: "يلا بسرعة هيو عالشباك".
 

كبر الصغار وأصبحوا يعرفون أن والدهم في الأسر وحان موعد زيارته، وهم على وعي بذلك ودراية، لم يتمكن وديع وليلى من الزيارة وهم في عمر أصغر بسبب "كورونا" التي قطعت عائلات الأسرى عن زيارة أولادهم في السجون، تقول عبير: "في زيارتهم الأولى كان الصغار في قمة حماسهم لرؤية والدهم، وفي ظل تحضيراتنا للزيارةـ، اتصل الصليب بنا ليخبرنا أن الزيارة تأجلت، فحزنت أنا وحزن التوأم، بعد مدة تحدد موعد جديد فكان يوم اللقاء يوم عيد لوديع وليلى. بعد نقاط تفتيش عديدة وطريق طويل، دخلنا إلى قاعة الزيارة وبدأت أنا وهم نبحث عن والدهما، حتّى عثرا  التوأم على أبيهما، فقالا: "يلا بسرعة هيو عالشباك".

زوجة أسير
 

توضح: "الزيارة كانت خلف الزجاج وعلى الهاتف، كان الصغيران يتأملان والدهما وأنا أحادثه، يبتسمان بين الحين والآخر، نطقا "بابا" للمرة الأولى وجهًا لوجه، تمنينا لو أن الوقت يطول قليلًا ولكن موعد الزيارة انتهى وعلينا الخروج،  وديع وليلى التصقا بالمكان ولم يرغبا بأن يبتعدا عن والدهما، وأخذا يبكيان كثيرًا، فحاولت تهدئتهما. خرجنا وركبنا الحافلة أخبروني بأنهم يرغبون بالعودة فحاولا الذهاب لباب الحافلة ليعاودا زيارته، فجلست أخبرهما بأننا المرة القادمة سنأتي ونراه مجددًا حتى اقتنعا على مضض".


اقرأ أيضًا: سيما متولي: خلسة العيش بعيدًا عن قبضة السجان


 وسط كل هذه المصاعب التي عصفت بحياة عبير إلا أنها كانت قوية وأرادت أن تًشغل وقتها بعمل ما،  فخطر لها فكرة مشروعها اليدوي "أحلى أعمال الكروشيه" ليكون مصدر دخل لها إلى جانب راتب زوجها، وبدأت تُبدع بأناملها وتحيك صبرها لتنتج قطعًا من التطريز والتحف الفنيّة، وسط دعم طارق لها وتشجيعه.

زوجة أسير

عاشت عبير سنوات عديدة تحلم بيوم اللقاء بعيدًا عن أسوار السجن، كانت تخطط وتحضر ليوم تحرره، قبل موعد الإفراج عنه غادرت منزل عائلتها لتذهب لمنزلها وبدأت بتجهيز المنزل لاستقبال طارق الذي كان مقررًا بتاريخ 20 أكتوبر 2022، تقول: "تفاجأت في 14 أكتوبر بزيارة صديقتي المفاجئة لي التي ساعدتني على ترتيب البيت ليكون جاهزًا على أكمل وجه، وبعد أن انتهينا طلبت مني  أن أرتدي الثوب الفلسطيني الذي خبأته لاستقبال طارق لتراه عليّ. وبالفعل لبسته، طُرق الباب قلت من؟ ليجيبني أخي بأنه هو، فقلت له لحظة".

ها هي أصبحت زوجة أسير محرر، تضيف: "فتحت الباب ولم أرَ من معه، وإذ بصوت طارق يقول: "عبير"، من شدة صدمتي توقفت عن الكلام واكتفيت بالضحك، تسارعت دقات قلبي وتوقف نفسي من شدّة صدمتي. كان يُحضّر لمفاجأتي فأخبر الجميع بموعد حريته وتركني أظن أنه سيخرج بتاريخ 20 أكتوبر". وفي ختام حديثنا ابتسمت عبير وقالت: "لو سأعيش مرة أخرى سأختار طارق وسأنتظر طارق، لأنه يستحق أن أنتظره فوق عمري عمرين".