بنفسج

حضنٌ وقبلة.. من يؤتِي تأويلَ حلم الأسيرة فدوى حمادة؟

الأربعاء 21 ديسمبر

أتذكَّرُها جيدًا، في تمام السَّاعة الخامسة مساءً نجلسُ أمام التِّلفاز، وننتظر، فكلُّ أطفالِ الحي، يعرفون أن هذه الحلقة ستُقابِل "ريمي" أمها وتحتضنها، كنَّا نرسمُ في خيالِنا حُلو اللقاء، لكنَّ هذا لم يحدث، وحُرِمتْ "ريمي" من رؤية أمِّها. بكينا حينِها، ووددْنا لو نقتحم كلَّ الحدود ليؤذنَ لقلبِ الصَّغيرة بهذا الحضن. لكن ماذا لو كان هذا المسلسل الكرتوني حقيقةً؟! وبطلتُهُ ترى أمَّها من خلف زجاجٍ معزولٍ من كلِّ شيء، لا أحضان ولا قبلات، ولا رائحة عطرٍ تلتصقُ بالمعطف الصغير. إنَّها "مريم" بفستانٍ ورديٍّ، وظفرتين تختال بهما يمنةً ويُسرى، تجلسُ مُبتسمةً تعدُّ الوردات التي اقتطفتها لأمها "ستُحبُّها بالتأكيد، هكذا أخبرتها جدتها قبل الخروج".

فُتِحَ الباب، هذا الباب الذي تعرفه مريم ابنة الست سنوات، فمنه تدخل لتُحققَ حُلُمَها في احتضان أمِّها، لكنَّ الصَّدمة عندما أعلنت مُجندةٍ إسرائيلية بلغةٍ ركيكة: "فدوى حمادة مُعاقَبة، لا زيارة اليوم". كيف؟! ماذا عن مريم؟! ماذا عن الورود التي ذبُلتْ وهي تنتظر خمس ساعاتٍ تحت أشعة الشَّمس. بكتْ مريم وهي تنادي على أمِّها، حضنٌ واحد فقط، كان كفيلًا أن يجعل هذا الأسبوع جميلًا ورديًا. اقترب منها والدُها يضمُّها ويواسيها، وهو الذي يعرفُ أن كلماتِ المواساة لن تنفعَ طفلةً حُرِمتْ من حضنِ أمها منذ أن كانت بعمر الأربعة أشهر.

عن اعتقال الأسيرة فدوى حمادة

الأسيرة الفلسطينية فدوى حمادة

في  أغسطس عام 2017، استيقظتْ فدوى مُتعبةً وبحاجة للذهاب إلى الطبيب، ارتدتْ ثيابَها على عجلة، وبعد أن ألحَّتْ على زوجها أن يبقى في المنزل لئلا يستيقظ الأطفال ويجدون البيتَ فارغًا. وافق على مضض وطلب لها سيارةً لتقلَّها إلى المشفى. وصلت السيارة إلى باب العامود، ونزلتْ فدوى هناك.

عشرُ دقائق وباب البيتِ يُطرقُ بقوة، إنه السائق الذي كان برفقة فدوى، بصوته المُرتجف وكلماته المُبعْثرة: "اعتقلوا فدوى عند باب العامود يا مُنذر"! وما هي إلا لحظات معدودة حتَّى تم اقتحام المنزل واعتقال منذر.

هُنا المقدسي منذر حمادة (37 عامًا) زوج الأسيرة المقدسية فدوى حمادة (35 عامًا)، يعودُ بنا إلى اللحظةِ الأولى من الحكاية. في أحد أيام السبت من شهر أغسطس لعام 2017، عندما استيقظتْ فدوى مُتعبةً وبحاجة للذهاب إلى الطبيب، ارتدتْ ثيابَها على عجلة، وبعد أن ألحَّتْ على زوجها أن يبقى في المنزل لئلا يستيقظ الأطفال ويجدون البيتَ فارغًا. وافق على مضض وطلب لها سيارةً لتقلَّها إلى المشفى. وصلت السيارة إلى باب العامود، ونزلتْ فدوى هناك.

عشرُ دقائق وباب البيتِ يُطرقُ بقوة، إنه السائق الذي كان برفقة فدوى، بصوته المُرتجف وكلماته المُبعْثرة: "اعتقلوا فدوى عند باب العامود يا مُنذر"! وما هي إلا لحظات معدودة حتَّى تم اقتحام المنزل واعتقال منذر، ليبقى الأطفال الخمسة وحدهم في البيت لا يعرفون ماذا يجري، سوى أنَّهم ينتظرون والدتهم -كما وعدَهم والدهم-.


اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن


مضى أسبوعان، وفدوى وزوجُها في غرف التَّحقيق، لا أحد يعرف عنهما أيَّ شيء، فالزيارةُ ممنوعة، ولائحة الاتَّهام تحاصرُ فدوى للاعتراف بتُهمة: "طعْن جندي إسرائيلي وإصابة آخر". لم يدَّخر المحققون جُهدًا في تعذيب فدوى والضَّغطِ عليها للاعتراف، وما بين حرمانٍ من النَّوم، وتعذيبٍ جسدي، وتهديدٍ باعتقال أطفالِها وهدم بيتها، كانت تجلسُ فدوى أمامهم جبلًا صامدًا دون أيِّ كلمة، إلى أن طلبوا إحضارَ زوجِها من الزنزانة المُجاورة لإقناع فدوى بالاعتراف وإنهاءِ كلِّ ما يحدث. لكن مجرد أن التقى الزوجان لم يتحدَّثا سوى بلغة العيون، كان منذر يوصي فدوى بالصَّبر وشدِّ العزيمة، كان يُطمئنُها أنّه معها مهما كانت النتيجة. كلٌّ هذا الدعم كان كفيلًا أن يصبحَ وقود فدوى في صمودِها وقوَّتِها التي تشهدها كل زنزانةٍ عُوقِبَتْ فيها.

 ماما أسيرة في سجون الاحتلال

عائلة الأسيرة الفلسطينية فدوى حمادة
منذر حمادة زوج الأسيرة فدوى حمادة

خرج منذر من السِّجن، ليبدأَ مرحلةَ الإجابة عن سؤالٍ صعب: "أين ماما؟". لم يكن سهلًا على أطفالٍ أكبرهم بعمر السبعةِ أعوام أن يفهموا معنى "ماما في السجن"، أو أن يتجهَّزوا لحياةٍ دون وجود الحُبِّ والحنان الذي كانوا يعيشون بدفئه مع أمِّهم. حاول منذر برفقة عائلته وعائلة فدوى أن يحتووا الأطفال، يحتضنونهم، يتابعون دروسَهم، يعوِّضونهم بكل طاقتهم عن غياب أمهم، فكيف سيخبرونهم أنَّ مصير أمِّهم مازال مجهولًا؟!

ثمانيةُ أشهرٍ مضتْ وفدوى موقوفة تنتظرُ قرارَ المحكمة التي أُجِّلتْ عدةَ مرات، إلى أن حكمت بالسجن لمدة 20 عامًا مع غرامةٍ مالية تقدَّر ب30 ألف شيكلًا. لم يكن وقعُ الحُكم سهلًا على العائلة، عشرون عامًا لفتاةٍ لم تتجاوز الثلاثين عامًا، دخلتْ غياباتِ السِّجنِ شابةً تحلمُ باليومِ الذي ترى فيها صغارَها وهم يتوسَّدون قُبَّعات التَّخرج، ليصبحَ هذا الحلم في لائحة الممنوعات. رفضتْ فدوى هذا الحُكم، وبدوره قدَّم المحامي طلبًا للاستئناف مراتٍ عديدة، إلى أن تمَّ تخفيف الحكم إلى عشر سنوات.

55.jpg

كان قرارُ المحكمة هي البداية الحقيقية لحياتِها داخل السِّجن، فبعد أن صدر الحُكم، سيُسمح لأطفالِها برؤيتها، وبالفعل، في اليوم المُقرَّر فيه للعائلة بالزيارة كان أشبه بيوم العيد، كانت دقائقُ الانتظار أطولَ من أن تُحسبْ، وفدوى تتخيَّل بكرها حمادة (12 عامًا) مُمْسِكًا يد أخته سدين (10 أعوام) ويده الأخرى على ظهر أخيه محمد (8 أعوام) ومن خلفهم مريم الصغيرة بيد أخيها أحمد (7 أعوام).


اقرأ أيضًا: أمًا وابنة: مشاعر الأنثى طوعتها الأسيرات بالحب [4]


دخلوا جميعًا يلوَّحون لماما البطلة، وينادون عليها وهم يظنَّون أنَّ صوتَهم سيصل، وبعد دقائق من اللقاء البعيد، استطاع الأطفال الجلوس أمام فدوى وبينهم زجاجٌ عازل مقوَّى، كانوا يتسابقون في وضع أيديهم ليُسلِّموا على أمِّهم من خلفِ هذا الزجاج، رغم أنَّهم يدركون بمنِعهم من لمس أمَّهم، لكن كان يكفيهم رؤية أصابعها وهي ترسُمُ قلبًا كبيرًا يسعهم جميعًا. لم تسمح إدارة السجن بدخول الأطفالِ عند والدتِهم واحتضانها، كانت تترقبُ كلَّ حركةٍ منهم، وبمجرد أن تنتهي الزيارة تُغلقُ هواتف التواصل دون سابقِ إنذار للمشاعر الأخيرة، ويخرج جميع الزائرين من ممر الزيارة نحو بوابات التفتيش.

66.jpg

بعد ما يُقارب العام والنصف من اعتقال فدوى، سمحت إدارة السجن لأطفالِها بالدخول إليها واحتضانها. كان اللقاءُ الأول بين حضن فدوى وابنتها مريم وهي بعمر العامين. هل لكَ أن تتخيل؟! كان حضنًا لا يسع الكون كلَّه أمام فدوى وهي تشتمُ رائحة مريمتها، تتفقَّدُ أسنانها، يا إلهي كبُرتْ مريم وأصبحت تناغي بصوتِها، وتُحرِّكُ يديها تتحسسُ ملامحَ أمِّها. تضعُ أنفَها عند رقبة أُمِّها لتحفظ هذه الرائحة. قُرَّتْ عينُ فدوى بهذا اللقاء، والحقيقة أنَّ كل الأسيرات كانوا على انتظارٍ مع فدوى في هذا اللقاء، ليباركوا لها: "وأخيرًا التقت فدوى مع ضناها".

 إرادة الأسيرة وحب الزوج

الأسيرة الفلسطينية فدوى حمادة
 
أسبوع إلى أسبوعين هو معدّل انتظار فدوى لزيارة عائلتها، وربما يزيد ليمتدَّ أشهر، خاصةً في العامين المُنصرمين. تعرَّضت فدوى في تلك الفترة للعزل الانفرادي في سجن الجلمة لمدة شهرين ونصف الشهر، وشهر كامل في سجن الدامون. كانت فدوى حينها قد تصدَّت لمُجندةٍ حاولت إهانة إحدى الأسيرات في مُعتقل الدامون.
 
 وتعرضتْ وقتها للضرب المبرح، وعوقِبتْ بالعزل الانفرادي وحرمان زيارة عائلتها. لم تهن عزيمة فدوى حينها، بل حاولتْ أن تبقى شامخةً كما لا يحبُّ أيُّ سجانٍ رؤية هذه العزَّة. 

أسبوع إلى أسبوعين هو معدّل انتظار فدوى لزيارة عائلتها، وربما يزيد ليمتدَّ أشهر، خاصةً في العامين المُنصرمين. تعرَّضت فدوى في تلك الفترة للعزل الانفرادي في سجن الجلمة لمدة شهرين ونصف الشهر، وشهر كامل في سجن الدامون. كانت فدوى حينها قد تصدَّت لمُجندةٍ حاولت إهانة إحدى الأسيرات في مُعتقل الدامون، وتعرضتْ وقتها للضرب المبرح، وعوقِبتْ بالعزل الانفرادي وحرمان زيارة عائلتها. لم تهن عزيمة فدوى حينها، بل حاولتْ أن تبقى شامخةً كما لا يحبُّ أيُّ سجانٍ رؤية هذه العزَّة. استغلَّتْ هذه الفترة لتتمَّ حفظَ القرآن الكريم كاملًا، لِتُسجَّل في نفسها انتصارًا طالما كانت تحلم به.

"إرادةٌ عالية"، هذا الوصف الذي يحبُّ منذر أن يصفَ به شريكته فدوى في كلِّ مرةٍ يُحدِّثنا عن موقفٍ عاشته زوجته: "عانتْ فدوى في السجن من ضغوطٍ نفسية وتعبٍ جسدي كبير، ورغم هذا كانت لا تذرفُ دمعةً لئلَّا يراها أحد السجانين "فيشمت". لكن الحقيقة لا أخفي أن الحالة الصِّحية لفدوى تدهورت في الآونة الأخيرة، خاصة أنّ قدمها قد كُسرتْ قبل عدة أشهر ودخلتْ إلى العمليات، وبعد ساعاتٍ أعادوها إلى السِّجن مقيَّدةً بالسلاسل". ورغم حاجتها الماسَّة للعديد من المُسكِّنات والأدوية إلَّا أن إدارة السجن ترفض الاستجابة لهذه المطالب. وتعمّدوا وضع فدوى في غرفةٍ برفقة الأسيرات الجنائيات، اللواتي لا يتركن فرصةً إلَّا ويحاولنَ إزعاج فدوى ومنعها من الراحة خاصةً في ساعات الليل المتأخرة.

الأسيرة الفلسطينية فدوى حمادة

خمسُ سنواتٍ ستستوي فيها عجلةُ الأيام العِجاف، يوم بيوم يُحسب على خروج فدوى من السجن، لتعودَ إلى بيتِها الذي رتَّبتْ فيه كل زاويةٍ بدفء الحُبِّ والطمأنينة. فدوى الزوجة التي عاهدتْ زوجها على أن تحفظ شرف الأرض والعرض، فأوفتْ بوعدِها. ليقفَ خلفها يُسانِدُها، وينتظرُها، ويضحك سخريةً على كلام المحقق وهو يقول له في كلِّ اعتقال: "أنت لسا شب روح اتجوز وسيب فدوى".


اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن


-ذاك المُحقق- لا يدركُ أنَّ ميثاقَ الزَّواج عند الفلسطيني هو ميثاقُ حملِ أمانةِ هذه الأرض. وماذا تعني العشر سنوات أو العشرين من الانتظار، العمرُ كلُّه لا يفي حق صمود فدوى وفخرَنا بها. فهذه ماما البطلة، كما اعتاد أطفالُها أن ينادونَها، يشتاقون إليها فيدَّخرون من مصروفهم ليشتروا لها هدية، يفتقدون حضنها فيُقبِّلون صورتَها. هم يعرفون أنّهَا قُبلة لن تصلَ طريقها، لكنَّ هذا الدواء كفيلٌ أن يمسحَ وجعَ الاشتياق عنهم، يتخيلونها في كلِّ مناسبة وكأنَّها تعيشُ بينهم، بعد تكبيرةِ العيد، وفي اليومِ الأول للمدرسة، وعندما يُدارُ المذياع في يوم الأم وهم يصدحون معه: "ست الحبايب يا حبيبة" ويتبعونه بحلمهم: "عندما تخرج ماما، سيكون كلُّ يومٍ احتفالًا بيوم الأم".