بنفسج

في غزة.. العيد على قد الإيد

الخميس 11 يونيو

كُنت أُحاول إتمام مراسم طلة العيد لصغيرتي، حينما قررتُ أن تُصاحبني إلى السوق لأمنحها جرعةً من السعادة، أُدرك جيدًا معنى ذلك بالنسبة لها، تفكر قليلًا ثم تختارْ ما تريده، يرفرف قلبها وتدور حول نفسها كفراشةٍ صغيرة أطُلق سراح جناحيها للتو، ابتسامتها الرقيقة تلك كفيلةً لأن تمنح مزاجي حُسنًا ولروحي بهجة كبيرة، ثم ما تلبث أن تُمطرني بأسئلتها الكثيرة عن صاحبها " العيد"، وتستجديه القدوم من غير تأخير، تلك اللحظة هي عيدٌ آخر للأم.

كنتُ محظوظة في قرار تجهيز الصغيرة قبل شهر رمضان، أي بمعنى أخر، براتب الشهر الذي يسبقه، منه أوفر على نفسي نصيبها من التزاحم والتعب تحت أشعة الشمس التي تعرفُ طريقها جيدًا إلى وجوه الباعة، فتلسعهم بحرارتها وتُجبرهم على تحملها، علّهم بصبرهم هذا يُعوضون شُح البيع الذي رافقهم طوال العام، ومنه احتياطًا من تأخر الراتب المبُجل والمؤجل، كي لا يُحرج سعادة صغيرتي.

 فاتني شراء بعض اللوازم الخفيفة، اضطررت معها للذهاب إلى السوق مجددًا، وكُلي خشيةً من ضياع الوقت في زحامه واكتظاظ الناس به، والتي عادة لا أستطيع فيه المرور لمترٍ واحد إلا بالانتظار لبضع دقائق، لكنْ كُل شيء خاب توقعي، لم يكن كذلك، وعلى ما يبدو أن أنصاف الرواتب جعلت العيد مُقسمًا على عدد أفراد العائلة، لينال كل واحدٍ منهم نصف الفرحة السابقة، لأن الحال " يا دوب ع القد".

تهمس في أُذنه "بنفعش يا ماما كُل ما أقلك لأ تعيط، معيش فلوس هلقيت"، اعتقدتُ أن رغبة التملك في الصغار هي سبب بكاءه، قطع عليّ تفكيري " ما انتِ يا ماما ما شرتيلي إشي أصلًا".

صديقتي التي لم يسعفها الراتب الذي يسبق شهر رمضان لقضاء حاجيات صغارها، اتفقت معهم على أن يكون الراتب القادم من حظهم في اختيار ما يريدونه من لباس العيد، لم تعرف المسكينة أن الحظ لن يزورهم مُبكرًا، فنصف راتبٍ يراود نفسه ألف مرة قبل الحضور سيضيع في أمنياتٍ لا يستطيع تحملها.

اضطرت صديقتي لعقد اتفاقية مُكرهةً كي لا يجلدها قلبها لدمعة طفلها الصغير، فقررت أن تمنح كل واحدٍ من أبناءها طلب واحد فقط، كي يزورهم العيد جميعًا، وانحصر الأمر في اختيار بلوزةٍ أو بنطالٍ أو حذاء جديد فقط، وهكذا حاولت جاهدة الهروب من تأنيب الضمير الذي لا تملك من أمره شيئًا إلا اختلاق السعادة بأبسط المقومات، وذاك البائع يُحاول أن يصرخ بأعلى صوته "تعالي فرحي بنتك بلبسة العيد" لجذب انتباهها وأطفالها، وهي التي تُكافح بإشغال سمعهم وعيونهم للتركيز في فُسحة الفرح التي مُنحتْ لكل واحدٍ منهم.

لم تكن صديقتي وحدها التي يجلد عقلها التفكير، فقد قطع عليّ رحلة البحث عمّا أريد، طفل صغير يبكي لأمه إلى جانبي، وهي تُداري قسوة الحياة، تهمس في أُذنه "بنفعش يا ماما كُل ما أقلك لأ تعيط، معيش فلوس هلقيت"، اعتقدتُ أن رغبة التملك في الصغار هي سبب بكاءه، قطع عليّ تفكيري " ما انتِ يا ماما ما شرتيلي إشي أصلًا".

يبدو أنها اضطرت لسلك تلك الطريق وفي داخلها العبرات تختنق مع كل خطوة، هو لا يدرك ما تقوله، غير أنه لا يفهم لمَ تمتحنه الحياة في أدني مقوماتِ حياته، وفي مناسبةٍ هي أجمل ما ينتظرها طوال العام، وما الجديد الذي سيُخبأه تحت وسادته قبل النوم، ولمَ سيهرب النعاس من عينيه طالما المنتظر مفقود، سينام هذه المرة سريعًا فالبكاء قد أنهكه طوال الطريق، ولربما يدعو أن يستيقظ بعد انتهاء جلبة العيد، فليس هناك ما يُباهي به أقرانه.

وعلى جنبي الآخر، صغيرة تُمسك بطرف عباءة إمها، تسحبها بيديها الضعيفتين، "أمانة يا ماما هديك البسطة فيه أواعي حلوين، اشتريلي بس واحد"، وأمها تُمارس التطنيش عمدًا وتشتيت الانتباه، علّ الصغيرة تكلّ من طلبها، وترحم عذاب العجز الذي يُقصم ظهر والدتها التي ملّت من التنقيب عن أقل الأثواب سعرًا، فما تملكه أقل من أن يُلبّي طلب صغيرتها.

بعد كُل تلك المعاناة، تعود إلى منزلها تكتبُ بضع كلماتٍ على صفحتها الشخصية، تُعفي محبيها من تقديد الهدايا والعيدية على أن لا تُحرم طلتهم فتؤنس بها عيدها، هي بشكل آخر تحاول التمسك جيدًا في ما تبقى من تفاصيلٍ تعينها على الثبات في وجه هذه الحياة العبوس لمدة أطول.

في غزة، لا شيء قابل للاكتمال إلا خيام الحزن، تجدها تتجلى بكامل فصولها من غير حرجٍ في بيوت الغزيين، حبيبٌ فارق الحياة حديثًا، ورفيق أصابه الهم، وأنصاف راتبٍ متأخرٍ، وأطفالٌ يحاولون اختراق تلك العتمة، بخلق فتحة ضوء يهربون بها إلى عالمهم الصغير، والذي لا ذنب لهم بها سوى أنهم وُجدوا في هذا البقعة كي يتألموا.

 ورغم ذلك كُله، تعضّ المرأة الغزّية على جراحها، لتصنع خيوطًا من السعادة، تتلمس أجساد أطفالها ولو بالشيء اليسير، تقطع عن فمها لتُبسم ثغرهم، وتُمنّي نفسها أن سحابة الغمّ ستزول، وأن السعادة التي ضلت طريقها إليهم، ستعود حتمًا في يومٍ ما.