بنفسج

هل سمعتم عن " الحجر الإجباري" في غزة؟

الخميس 18 يونيو

كان الصِدام الأول لي في مواجهة مصطلح " الحجر الإلزامي" بينما أتواجد في تركيا لإكمال الدراسات العليا، بعد أن انتشر فيروس" كورونا" في العالم دون تفريقٍ بين عربي وأجنبي، أو فقير وغني، وحتى بين عدو وصديق. إلى أن دخلت البشرية في حالة من الخوف والقلق أمام الغيمة الضبابية التي تحجب كل فهمٍ لما ستؤول إليه الأيام وربما الأشهر القليلة المقبلة، لاسيما وأن الكثير من مدن العالم أصبحت" مدنا للأشباح".

كان التفسير الحرفي لمعنى "الحجر الإلزامي" واضحا لي حينما صدر قرار الرئاسة التركية بتعطيل الدراسة لثلاثة أسابيع، وأخذت إدارة السكن الجامعي تعمم الإجراءات الاحترازية والتي من أبرزها عدم الاحتكاك مع الطالبات، وارتداء الكمامات أثناء الخروج للضرورة القصوى، إلى جانب التعقيم المستمر لليدين من خلال زجاجات التعقيم الموزعة في صالة السكن، كل هذه التعليمات كانت تحمل في ملامح من يقولها، من إدارة السكن تحديدا، قلقا مرفقا أيضا بدعوات أن لا يتفشى المرض في الأراضي التركية.

قبل البدء الفعلي للتعطيل الدراسي بيوم، كنت في الجامعة ودار حديث بيني وبين موظفة في العلاقات العامة، وسألتها هل ما إذا كان حقاً القرار الرئاسي يحتكم فقط لثلاثة أسابيع؟ قالت:" لا نعرف إلى أين سيستمر النظام أو الحالة هنا، لكن لماذا تبتسمين؟، لا يبدو عليك قلق"؟، حسنا أستاذة أنا لست قلقة بالمعنى الدقيق للقلق، رغم أنني عشت حالة من الخوف هنا وأنا أرى مزيجا من الطلبة من مختلف الدول، لكن؛ حالة الطوارئ هذه ليست بالجديدة علي، فأنا من سكان قطاع غزة.

ضحكت الموظفة وقالت:" نعم لقد سمعت عن غزة ومعاناتها"، وقبل أن أنهي حديثي معها قلت لها:" هل تعرفين أن هذا الحجر تعيشه غزة منذ 14 عاما، لكن ليس صحيا فحسب؛ وإنما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتعليميا دون أدنى شعور بالإنسانية للمعاناة المتفاقمة –سواء من أنظمة عربية أودولية- لمليوني إنسان محجور هناك"، ثم أنهت بالقول :" الآن سنفهم المعاناة الحقيقية لغزة"؟

 | المعاناة الحقيقية

كثيرة هي الأسئلة عن غزة وحصارها و" حجرها التعسفي"، والمقال هنا لا يسع لسردها والوقوف عند تفاصيلها، لذلك ليس سهلا على من لم يعش هذه المعاناة تخيلها، أو حتى رسم صورة لمجريات الحياة اليومية فيها.
 
حياة الفلسطيني في القطاع باتت مثقلة بعشرات الآلاف من الطلبة الخريجين العاطلين عن العمل و"محجور" على كثير منهم داخل منازلهم بعد أن تسلل الإحباط إليهم من كثرة البحث هنا وهناك.

حينما خرجت من الجامعة وصولا إلى السكن رأيت عشرات الطالبات يجهزن أمتعتهن للخروج إلى منازل عوائلهن في مدن وقرى وأحياء تركية لكنها خارج اسطنبول تحديدا، تلك الصورة لن تغيبَ عن عيني، تشبه كثيرا الأيام والأسابيع والأشهر التي عشتها وأنا أتنقل من منطقة إلى منطقة بسبب حرب إسرائيلية أو اجتياح بري، وفي بعض الأحيان تصعيد إسرائيلي مفاجئ لا يُعرَف أوله من آخره، حتى أصبح ذلك الظرف طبيعيا، بل جزء لا يتجزء من الحياة اليومية الملازمة للمواطن في غزة.

بقيت وما يقارب السبعين طالبة من أصل بضع مئات في السكن، ومعظمهن من دول أصبحت حدودها ومطاراتها مغلقة بعد تفشي الفيروس. منهن من يقضين معظم الوقت في الاطمئنان عن أسرهن، خاصة إن كن من إيران؛ كونها من بين الدول الأكثر ضررا بعد انتشار الفيروس، والبعض الآخر يحاولن قدر المستطاع التعاطي مع الحجر من خلال متابعة بعض المحاضرات الجامعية عبر الإنترنت.

تحاول بعض الطالبات الأجنبيات -أي اللواتي قدمن إلى تركيا من دول أخرى للدراسة- هنا استيعاب فكرة" الحجر المنزلي"، بعد أن قررن بعضا منهن شراء تذاكر طيران ومغادرة البلاد إلى بلادهن، مثل إيران وماليزيا، لكنهن تفاجأن بأن الطيران إلى تلك البلاد قد تعطل بسبب انتشار الفايروس فيها، أخذت إحداهن تبكي وهي قلقة على نفسها وعلى أسرتها، وكيف يحول هذا الفيروس من اللقاء بينهما.

كيف تضيع فرص اللقاء والمعرفة لكثير من أساتذة الجامعات بعد أن يحول وصولهم إلى دولة ما لحضور مؤتمر علمي، وكيف يحرم التجار من تبادل التجارة بينهم وبين دول العالم، وكيف وكيف وكيف.

رجعت بي هذه الطالبة الإيرانية في صورتها هذه إلى مشهد المعاناة في غزة، غزة التي لا تزال محرومة من أبسط حقوقها في حرية التنقل والسفر ضمن إجراءات وآليات تليق بالآدمية، وكم المعاناة التي يمر فيها كل من يقرر الخروج من القطاع عبر المتنفس الوحيد " معبر رفح البري"، وكيف تحرم من العلاج لمرضاها لاسيما مرضى السرطان، كيف تواجه الحياة حينما يشن عليها الاحتلال عدوانه، وكيف يحرم كثير من طلبتها السفر إلى الخارج لتلقي العلم، وكيف تضيع فرص اللقاء والمعرفة لكثير من أساتذة الجامعات بعد أن يحول وصولهم إلى دولة ما لحضور مؤتمر علمي، وكيف يحرم التجار من تبادل التجارة بينهم وبين دول العالم، وكيف وكيف وكيف.

كثيرة هي الأسئلة عن غزة وحصارها و" حجرها التعسفي"، والمقال هنا لا يسع لسردها والوقوف عند تفاصيلها، لذلك ليس سهلا على من لم يعش هذه المعاناة تخيلها، أو حتى رسم صورة لمجريات الحياة اليومية فيها، حياة الفلسطيني في القطاع باتت مثقلة بعشرات الآلاف من الطلبة الخريجين العاطلين عن العمل و" محجور" على كثير منهم داخل منازلهم بعد أن تسلل الإحباط إليهم من كثرة البحث هنا وهناك، ناهيك عن آلاف أيضا من العمال المتعطلة أعمالهم عقب دخول الحصار أيامه الأولى.

منذ حزيران/ يونيو عام 2007 بدأ " الحجر التعسفي" لقطاع غزة بعد أشهر من ممارسة عملية ديمقراطية أفرزت عن حكومة ومجلس تشريعي تديره حركة " حماس"، ودخل القطاع في موجات من الصراع السياسي، إلى أن تم إحكام الإغلاق عليه من الجهات كافة، وأصبح الخروج منه أمرا مستحيلا في السنوات القليلة الماضية.

أودى ذلك الحصار لتردٍ واضح في الأوضاع الصحية، وتهالك البنية التحتية للعديد من المشافي والمراكز التي لم تعد تحتمل استيعاب المرضى العاديين، رافقها آلاف المناشدات الإنسانية بضرورة النظر بعين الرأفة والإنسانية لسكان القطاع، لكن " لا حياة لمن تنادي" كانت الصدى الوحيد، وهذا ما يفسر حالة الترقب والقلق التي تسود أرجاء القطاع في حال تم الإعلان عن إصابة واحدة فقط لا سمح الله من "فيروس كورونا"، فالمسألة هنا لا تتعلق باكتشاف حالة أم لا، وإنما بمدى التعامل معها والقدرة الطبية لتفادي ذلك، ومدى الاستعداد الحكومي ومنظمات المجتمع المدني وغيرها.

اليوم يشعر المليوني إنسان في غزة بشعور ملايين البشر المحجور عليهم في منازلهم، ولسان حالهم يسأل:" هل سمعتم عن الحجر الإسرائيلي لغزة منذ 14 عاما حيث لا حركة ولا سفر ولا تنقل ولا تبادل معرفة ولا طريق يشعر الفلسطيني من خلاله بأمان"؟، ربما يحرك هذا الفيروس بعضا من شعور الإنسانية تجاه البشر جميعا دون تفرقة عنصرية أو عرقية، وأن يصرخ العالم صوت واحد " حياة الإنسان أولا".