بنفسج

زوجي مصاب بكورونا.. ماذا ينتظر الأسرى في ريمون؟

الخميس 04 فبراير

الكتابة ليست متعة نعبر فيها عن ما يجول في خواطرنا فقط، هي للأرواح المعذبة حاجة وشفاء، في الكتابة نُخرج ما لم نتجرأ على البوح به، حتى وإن كان أمام المرآة، أمام أنفسنا، بصوت عالٍ. إن الكتابة تَخرج قوية مؤثرة عندما تكون من قلب ذاق الوجع، اعتصره المرار، تخرج عندما يضيق الصدر بالكلمات، والعقل بالأفكار.

كنت دائمة الكتابة عندما أحزن، برغم أن الناس اليوم تراني متحدثة جيدة، أتقن ترتيب الكلمات حتى وإن لم أحضر لها، إلا أنني في الحزن العميق لا أعرف التعبير، أتلقى الصدمات في صمت، تلازمني الأوجاع لأيام، تنام معي وتستيقظ، تزورني على هيئة أحلام مرتبكة، تجول في خاطري عبارات تعبر عن ما في داخلي وتذهب، وهكذا بعد صولات وجولات تحوك في نفسي معارك بيني وبين البوح، تجدني أمسك الورقة فأكتب، قد تخالط دمعاتي الحبر، ولكن هذه الطريقة الوحيدة التي أتجرأ فيها على التعبير.

| كورونا تطال الأسرى

 

وجدت أن قرار حذف حساباتي لا يعني أن أقف عن إيصال الرسالة وها أنا أفعل، في ريمون يتساقط الأسرى الواحد تلو الآخر، فكورونا لا ترحم وسجانهم أظلم، المسكنات بالعدد وعند الطلب فقط، أي عند الحاجة القصوى. وأنت وحدك هناك تعتني بنفسك، حتى وإن كنت لا تستطيع النهوض من سريرك، قد يعينك شريك الزنزانة إن كان وقع كورونا عليه أخف.

تفتقد أهلك ودفء أرواحهم حولك، ثم ينقلونك لقسم جديد، لا لعيادة أو مشفى، فقط قسم خصص للعزل!! وجع وغربة، نعم غربة. فالقسم الجديد لن يكون مريحًا كالقسم الذي اعتاده، رغم أن الاثنان يقعان في جهنم، ولكنك كمريض لست بالطاقة الكافية لحمل هم جديد.

 بدأت بأسلوب الورقة والقلم  مع إمي عندما كانت تشتد بيننا مواقف الخلاف، أو مع والدي عندما يرغب بأن أسير في مستقبل يخالف هواي، ثم مع زوجي عندما يحتد بيننا النقاش وتزداد المشاكل، ثم مع أطفالي الصغار إذا ناموا وشعرت بعد نومهم أنني أم سيئة، فقد صرخت في وجههم أو تأففت من شقاوتهم طوال النهار.

في أواخر العشرين من عمري أصبحت كتابتي إلكترونية، أمسك هاتفي، ولا أغادره حتى تخرج كل الكلمات التي باتت تعذبني وتخنقني، تركزت كتاباتي عن الأسرى، عن زوجي، عن الجانب الإنساني الذي لم يكن الكثير على دراية به، وجدت إقبالًا رهيبًا، اكتشفت أنني أشبع الكثيرين، أروي ظمآنين كثر، كل من حدثني عن كتاباتي كان يقول: "بالعادة لا أقرأ المقالات الطويلة، إلا أنني ما إن أقرأ لك أو كلمتين حتى أكمل حتى النهاية، في كلامك انسيابية تجذب القارئ".

وحتى من تعاملت معهم من الصحفيين والكتاب كانوا يتعجبون من انسياب كلماتي كالماء، مجرد أن يطلبوا مني مقالًا معينًا، هذه نتيجة الأوجاع التي تجعلني ألد الكلمات التي يظنها الكثير تخرج سهلة، ولم يعلموا أنها تولد بعد مخاض طالت ساعاته، وأوجاع سكنت روحي طويلًا، فقد قيل: "إن الحزن خلاق". فعلًا، فلولا الألم، وعظم البلاء، والوجع، والصبر، والتصبر ما كانت هذه الكلمات".

زوجي الغالي مصاب بالكورنا داخل السجون منذ ١١ يومًا نقل لقسم جديد لا أستطيع التواصل معه، زارتني المشاكل من هنا وهناك، افتقدت حساباتي التي كنت أعبر فيها عن وجعي، فأجد مساندة الناس، قررت أن أكتم الإحساس، وأقاوم رغبتي في الكتابة، إلا أنني في اليوم التالي، وفي تمام الثانية عشر ليلًا أجدني أكتب هذه الكلمات.

للأسف، اضطررت بالآونة الأخيرة أن أحذف حساباتي الرسمية، فقد أصبحت المسؤولية كبيرة، مع الكثير من المضايقات التي لم أستطع تحديد مصدرها، اتخذت القرار بعد تفكير كبير، ثم كان همي الأكبر كيف أوصل رسالتي بعد اليوم، شعرت بالأمس بعد ألم تجدد وحرمان فاق وجع السجن أنني بحاجة للكتابة، فزوجي الغالي مصاب بالكورنا داخل السجون منذ ١١ يومًا نقل لقسم جديد لا أستطيع التواصل معه.

 زارتني المشاكل من هنا وهناك، وافتقدت شكواي له، افتقدت حساباتي التي كنت أعبر فيها عن وجعي، فأجد مساندة الناس، قررت أن أكتم الإحساس، وأقاوم رغبتي في الكتابة، إلا أنني في اليوم التالي، وفي تمام الثانية عشر ليلًا أجدني أكتب هذه الكلمات، الكلمات التي ستجعلني بعدها أخلد لسريري براحة، لأنها لم تعد تأسرني وتسيطر علي، إنها تلح أن تخرج وتصل للعالم.

 وجدت أن قرار حذف حساباتي لا يعني أن أقف عن إيصال الرسالة وها أنا أفعل، في ريمون يتساقط الأسرى الواحد تلو الآخر، فكورونا لا ترحم وسجانهم أظلم، المسكنات بالعدد وعند الطلب فقط، أي عند الحاجة القصوى، وأنت وحدك هناك تعتني بنفسك، حتى وإن كنت لا تستطيع النهوض من سريرك، قد يعينك شريك الزنزانة إن كان وقع كورونا عليه أخف، تفتقد أهلك ودفء أرواحهم حولك، ثم ينقلونك لقسم جديد، لا لعيادة أو مشفى، فقط قسم خصص للعزل!! وجع وغربة، نعم غربة.

فالقسم الجديد لن يكون مريحًا كالقسم الذي اعتاده، رغم أن الاثنان يقعان في جهنم، ولكنك كمريض لست بالطاقة الكافية لحمل هم جديد، غربة فوق غربة فوق أسر، ظلمات ثلاث، أو ألف ظلمة مرصوصة فوق رأسك، وأي بحر لجي هذا! لا مجال للتباعد ولا لاحتياطات السلامة، أي بروتكولات صحية، هذه في غرف مترين بمتر، فيها ستة أشخاص، الكل سيصيبه المرض، وكان ماهر القلعة الأخيرة التي سقطت، والحمد لله الذي يختارنا لبلائه دائمًا كانت أعراض المرض عليه شديدة.

أسراكم يتداعون هناك في الداخل يا أمة!! يتساقطون كقطع الشطرنج واحدًا تلو الآخر، في ريمون مئات المؤبدات وعشرات كبار السن والمرضى، لن ينتظروا منكم نعيًا ولا منشورات على مواقع التواصل إن حصل لهم شيئًا.

 الغريب في الأمر أنه قبل أن ينتقل من قسمه الذي يقبع فيه كان إذا تواصل معنا يرفع صوته لكي لا نشعر بتعبه ويقول: "ها شو الأخبار كيف صحتكم اليوم؟". أضحك وقد اكتشفت سره، فأقول: "تباغتنا بالسؤال لنشعر أنك بخير ها؟؟؟". لم تنطلِ علي تطميناته هذه، أعلم أنه يعاني، أعلم أنه يحتاج أن آتيه بالدواء وهو في فراش دافئ بيننا، أعلم أنه يتمنى أن أحضر له شوربة الخضار من يدي وإن لم يذق طعمها، قال مريم بكل عطف: "بابا يا ريتني عندك، أو انت عندي عشان، أضل أعملك يانسون وبابونج".

مرضنا والله عندما أخبرنا، شعرنا ثلاثتنا - أنا وعبادة ومريم- بأعارض كورونا بتلك الليلة وكأننا برغم البعد شاركناه الوجع، ولربما تمنينا أن نصاب بها في قرارة أنفسنا لنشعر معه، ولكي لا يكون وحده فيما يعاني، قال لي: "أتمنى أن لا تصيبكم يومًا، لن أحتمل أن تصابوا بها بعدما ذقت وجعها".

أسراكم يتداعون هناك في الداخل يا أمة!! يتساقطون كقطع الشطرنج واحدًا تلو الآخر، في ريمون مئات المؤبدات وعشرات كبار السن والمرضى، لن ينتظروا منكم نعيًا ولا منشورات على مواقع التواصل إن حصل لهم شيئًا، فقد أيقنوا أن نصيرهم الله، وقد وجدوا مرة بعد مرة أن الخذلان يقوي صلتهم به، ولكن رجاءهم الوحيد أن لا تحزنوا عليهم عند الفقد، إلا إذا بذلتم الوسع لأجل إنقاذهم، فهل فعلتم؟