بنفسج

عمليات التجميل: هوس الجراحة أم ضرورات الحاجة؟

الأربعاء 16 فبراير

في السنوات الأخيرة، كثيرًا ما صادفنا شعارات تدعو إلى "تقبّل الذات" كما هي، وحملات دعائية يقودها بعض المشاهير التي تنشر لها صورًا غير مُنقّحة أو مفلترة لدعم فكرة الجمال العادي والطبيعيّ، وغيرها من أساليب تدعم هذه الأفكار. لكن ومع ذلك ووفقًا لإحصائيات الجمعية البريطانية لجراحيّ التجميل، فإننا اليوم نشعر بأننا أقبح من أي وقتٍ مضى، فيزداد الطلب بالمقابل على عمليات التجميل الجراحية وغير الجراحية. فلماذا احتلت فكرة التجميل عقولنا، وهل تحولت إلى هوس حقيقي؟ دعونا في هذا المقال نناقش هذه القضية، ونبحث عن الأسباب التي تجعل الناس مهووسةً بالجمال والتجميل.

| ما هي عمليات التجميل؟

تجميل1.jpeg
هذا النوع من الجراحات التجميلية هو Reconstructive plastic surgery الذي يعالج أجزاء بالجسم من الناحية الجمالية سواء عيوب خلقية أو تشوهات النمو أو غيرها

يقابل عمليات التجميل باللغة الإنجليزية مصطلح Plastic surgery وهو مشتقٌ من الكلمة اليونانية Plastike، ويعني فن التشكيل أو النحت. ويمكن أن نميّز نوعين من هذه العمليات؛ الأول هو Reconstructive plastic surgery وهي الجراحة التجميلية التقويمية أو الترميمية التي تعالج أجزاء الجسم المتضررة من الناحية الجمالية، أو الوظيفية بفعل العدوى، أو الأورام، أو الأمراض، أو العيوب الخلقية، أو تشوهات النمو، أو الصدمات، وغيرها. النوع الثاني هو Cosmetic plastic surgery، وتعني الجراحة التجميلية التي تعمل على تحسين أو إعادة تشكيل أجزاءً معينة من الجسم بغرض جمالي.

ما يهمنا حقًّا في هذا المقال هو الهوس بالعمليات التجميلية التي تندرج تحت مصطلح Cosmetic surgery، وهي عمليات اختيارية تتضمن تحسين مظهر الشخص، وتشمل إجراءات جراحية مثل: شفط الدهون، تكبير الثدي، تجميل الأنف، رأب الجفون، قطع تجاعيد الوجه والمعروف أيضًا بشدّ الوجه. إضافة إلى إجراءات غير جراحية مثل توكسين البوتولينوم والمعروف بالبوتوكس، حمض الهيالورونيك المُستخدَم بالفيلر، إزالة الشعر، تقليل الدهون بطرق غير جراحية.

| الحاجة إلى التجميل عبر الزمن

التجميل.png
الجراحة الترميمية تعود للعصور القديمة فالطبيب الهندي سوشروتا وضع المبادئ الأساسية للجراحة التجميلية في كتاب وهو ملقب بأب الجراحات التجميلية

على الرغم من أنّ فكرة تحسين ونحت الشكل جراحيًا هي ظاهرة حديثة نسبيًا، إلا أنّ هناك العديد من الأدلة التي تشير إلى أنّ الجراحة الترميمية تعود إلى العصور القديمة. فقد ظهرت أول ذكرى لعمليات التجميل على ورق البردي في مصر القديمة عام 1600 قبل الميلاد، عندما استُخدِمت لأول مرة بشكل بدائي لإصلاح كسور الأنف.

وفي الهند، بعد ألف عامٍ من ورق البرديّ المصري، عاش الطبيب الهنديّ سوشروتا، والذي عُرِف بعملياته وتقنياته الرائدة بما في ذلك إصلاح الأنف وإعادة تشكيله. يصف سوشروتا المبادئ الأساسية للجراحة التجميلية في كتابه الذي يُعرَف باسم Sushruta Samhita. يُعتبر هذا الطبيب الهندي أب الجراحات التجميلية. ولاحقًا في القرن الخامس عشر ميلادي، ترجم العرب كتاب Sushruta Samhita ومنها ما انتشر إلى أوروبا.

ثم ولد مصطلح "بلاستيك" لأول مرة في القرن التاسع عشر، على يد الجراح الألماني كارل جريف، عندما نشر عمله الرئيسي بعنوان Rhinoplastik. وخلال هذا القرن أيضًا،طور بعض الجراحون عملية الترقيع الجلدي لتصبح أكثر تقدمًا في ممارساتهم، والتي تشبه إلى حدٍّ ما ما نستخدمه اليوم. وفي عام 1895، أُجريت أول عملية تكبير للثدي لتصحيح عدم التناسق.

يمكن القول إنه خلال تلك القرون السابقة، كان التقدم بطيئًا، إلى أن حدث تطوير نظرية الجراثيم الحديثة واختراع التخدير في القرن التاسع عشر، وقدوم الحرب العالمية الأولى التي سببت حدوث تطورات مهمة في عمليات التجميل مع إعادة بناء جروح الجنود وإصاباتهم، أدّت هذه العوامل المجتمعة إلى تقدّم هذا المجال بشكل كبير جدًّا وصولًا إلى ما نعرفه اليوم. إذًا، لقد كانت الجراحات التجميلية عبر التاريخ عبارة عن جراحات ترميمية مدفوعة بالضرورات الطبية والحاجة، فهل تحوّلت هذه الحاجة إلى هوس! لنرَ.

| الأرقام تتكلم

زاد عدد العمليات التجميلية الجراحية وغير الجراحية بشكل كبيرٍ جدًّا على مدار العقدين الماضيين. في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وهي الدولة الأولى عالميًا بعدد عمليات التجميل، زاد عدد الإجراءات الجراحية من 1997 إلى 2019 بنسبة 287,5%. في حين أنّ عدد عمليات حقن البوتوكس عام 2000 كان (786,911).
 
أصبح هذا الرقم يزيد عن (5 مليون) إجراء عام 2019. معنى ذلك أنّ الإقبال على حقن البوتوكس خلال عقدين من الزمن قد زاد بنسبة 640%. يمكن القول إنّ الإجراء التجميلي الأكثر إقبالًا على مستوى العالم عام 2020 هو شفط الدهون، يليه تكبير الثدي، أما الإجراء التجميلي غير الجراحي الأكثر شيوعًا هو توكسين البوتولينوم (البوتوكس).
 

زاد عدد العمليات التجميلية الجراحية وغير الجراحية بشكل كبيرٍ جدًّا على مدار العقدين الماضيين. في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وهي الدولة الأولى عالميًا بعدد عمليات التجميل، زاد عدد الإجراءات الجراحية من 1997 إلى 2019 بنسبة 287,5%. في حين أنّ عدد عمليات حقن البوتوكس عام 2000 كان (786,911)، أصبح هذا الرقم يزيد عن (5 مليون) إجراء عام 2019. معنى ذلك أنّ الإقبال على حقن البوتوكس خلال عقدين من الزمن قد زاد بنسبة 640%.

يمكن القول إنّ الإجراء التجميلي الأكثر إقبالًا على مستوى العالم عام 2020 هو شفط الدهون، يليه تكبير الثدي، أما الإجراء التجميلي غير الجراحي الأكثر شيوعًا هو توكسين البوتولينوم (البوتوكس)، متبوعًا بحمض الهيالورونيك (الفيلر الجلدي). والسؤال الآن هو لماذا ازداد اللجوء إلى عمليات التجميل بهذا الشكل في الآونة الأخيرة؟

| الهوس بالجمال

التجميل قديما.png
 في مصر القديمة عام 1600 قبل الميلاد،كانت أول ذكرى لعمليات التجميل على ورق البردي عندما استُخدِمت لأول مرة بشكل بدائي لإصلاح كسور الأنف

لا يمكن القول إنّ الجمال مرغوب في زمننا فقط، لا، على العكس. تتضمن الطبيعة البشرية الرغبة في أن نكون جذابين. علميًا، تخضع الخصائص البشرية الجسدية وإدراك الدماغ البشري لها لضغوطات الانتقاء الطبيعي من أجل تحسين النجاح الإنجابي. بمعنى آخر، من وجهة نظر تطورية، شخص جذاب يعني جينات جيدة للأطفال، وهذا هو المطلوب.

وعالميًا، هناك إجماع على معايير الجمال، إذ يتفق الرجال والنساء من جميع الأعمار وعبر جميع الثقافات على من هو جذاب ومن هو غير جذاب، حتى أنّ الأطفال الرضّع الذين يبلغون 6 أشهر يحدقون لفترة أطول في الوجوه التي يعتبرها الكبار جذابة، وينظرون أقل إلى الوجوه التي حُكِم عليها أنها غير جذابة. هذا يشير بقوة إلى أنّ أحكام الجاذبية الجسدية راسخة في الوراثة البشرية.


اقرأ المزيد: مسابقات ملكة الجمال: عن ثمن الحداثة الذي تدفعه المرأة!


يفسّر كلّ ذلك لماذا يصرف البشر الكثير من الوقت والطاقة والمال في تحسين مظهرهم، فالناس يشعرون بشكل أفضل تجاه أنفسهم عندما يجذبون الآخرين. إضافة إلى ذلك، فإنّ الأشخاص جميلو المظهر حسبما أكدّت الأبحاث العلمية يُعامَلون بشكل أفضل، ويحصلون في الواقع على نتائج مرضية أكثر في الحياة الوظيفية، وتكوين الأسرة، والسعادة بشكل عام.  إذًا، ليس مستغربًا أن يبحث الناس عن وسيلة لتغيير مظهرهم ليتوافق مع المثل المجتمعية للجاذبية والجمال. فهل يفسر ذلك هوس الناس بعمليات التجميل؟ أم أنّ هناك شيء آخر يدفع الناس للقيام بمثل هذه العمليات؟

إضافة إلى النواحي التطورية، ما هي الأسباب الأُخرى التي فجرت ثورة التجميل مؤخرًا: لا يمكن أن يعزى اهتمام الناس بالتجميل إلى أسباب تطورية فحسب، لا، بل هناك العديد من العوامل الأُخرى التي تدفع المزيد والمزيد من الناس للخضوع للتجميل. من هذه العوامل:

| عوامل نفسية:  إنّ وعي الناس بموضوع التحيز للجمال مسؤول بشكل جزئي عن زيادة عدد الأشخاص الذين يغيرون مظهرهم من خلال عمليات التجميل. قد يدفع هذا الوعي الناس للاعتقاد أنّ تدنيّ رضاهم عن حياتهم هو نتيجة مظهرهم الجسدي، فيبحثون بالتالي عن تغيير جمالي.  في الواقع، أظهرت الدراسات أنّ الناس الذين يعانون من تدنيّ احترام الذات هم أكثر استعدادًا لإجراء تعديلات تجميلية، وذلك كمحاولةٍ لتحسين تصوراتهم الذاتية، بالتالي، تعزيز احترامهم لذواتهم، على الرغم من أنه ليس واضحًا فيما إذا كان هذا سينجح بالفعل أم لا. هناك بعض العوامل النفسية الأُخرى التي قد تدفع الناس لعمليات التجميل، مثل: عدم الرضا الجسدي، المظهر البدني، الشعور بالضيق والانزعاج من أجزاء معينة من الجسم، إضافة إلى الشعور بالضغط والتوتر للظهور بما يشبه الأشخاص على وسائل الإعلام.

| تسويق عمليات التجميل: أدى العدد المتزايد من البرامج التلفزيونية المتعلقة بجراحة التجميل، سواء الواقعية أو الأفلام أو المسلسلات، إضافة إلى صفحات أطباء التجميل على مواقع التواصل الاجتماعي، أدت إلى زيادة الوعي العام بالفوائد التي يمكن أن تحققها عمليات التجميل، كما أدت إلى تعميق وعي المجتمع بإجراءات التجميل. فالتطورات التكنولوجية في هذه العمليات جعلت الخضوع لها أكثر أمانًا، وأقل توغلًا، مع وقت شفاء أسرع، فضلًا عن خفض تكلفة الإجراءات. بالتالي أصبح الناس أقل قلقًا وأكثر استعدادًا للنظر في عمليات التجميل وقبولها كخيار محتمل لتغيير مظهر أجسادهم.

التجميل4.jpg
ثبت أن لبعض عمليات التجميل فوائد صحية كالبوتوكس مثلًا الذي يساعد في حالات الصداع المزمن

| الضغط الاجتماعي: إنّ نسبة النساء اللواتي يخضعن لعمليات التجميل أكبر بكثير من الرجال، ولا شكّ أنّ هذا نتيجة للضغط الاجتماعي والثقافي الممارس على المرأة لكي تتوافق مع المثل المجتمعية للجاذبية. فقد أظهرت الدراسات وجود تحيّزات في الحياة الواقعية تجاه المرأة الجذابة، وتمييزًا ضد المرأة الأقل جاذبية في العديد من مجالات المجتمع المختلفة.

| الكثير من صور السيلفي: يرى بعض أطباء التجميل أنّ انتشار الهواتف المحمولة، وكثرة منصات التواصل الاجتماعي، وكثرة التقاط الصور الشخصية والسيلفي أدت إلى زيادة الرغبة بالتجميل بشكل كبير. هذا صحيح، مع الهواتف ذات الكاميرات عالية الدقة، نحن نصوّر أنفسنا آلاف الصور، بالتالي، نحن نوثّق على الدوام الأِشياء التي لا نحبها بمظهرنا أو خطوط التجاعيد التي تظهر كل حين، ثم نعيد تأمل هذه الصور، ونقرر أننا نحتاج إلى فعل شيء حيال هذا الأمر!

| إدراك فوائد التجميل الصحية: ربما قد لا يكون لإجراء فيلر للشفاه أي فائدة صحية تتعدى زيادة احترام الذات ربما. لكن ولنكن منصفين، ففي ظروف معينة يمكن لبعض العلاجات التجميلية أن تفيد الصحة. على سبيل المثال، ثبت أن البوتوكس يساعد في حالات الصداع النصفي المزمن، وشلل الوجه النصفي، والتعرق المفرط. وغالبًا ما تتعافى النساء اللائي اخترن تصغير الثدي من مشاكل آلام الظهر، كما تتيح الجراحة التجميلية لإنقاص الوزن التخلص من الجلد الزائد الذي يسبب طفح جلدي وعدوى شديدة. إضافة إلى ذلك، فإنّ التأثير والفوائد النفسية لبعض العلاجات التجميلية يمكن أن تكون عميقة حقًا. الصورة النمطية للجمال.

التجميل عمليات.png
هناك نوعان من الجراحات التجميلية؛ الأول الترميمية تعالج العيوب الخلقية؛ والثاني التجميلية التي تحسن جزء معين بالجسم لغرض جمالي
نعم، كل تلك العوامل قد تدفع المزيد من الناس لإجراء عمليات التجميل، فمن منّا اليوم لا يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، من منّا لا يتابع العديد من الفنانات والفنانين أو المؤثرين أو الاستعراضيين، أو لنُسمِّها بالإجمال صناعة الترفيه. لكن، ألم تلاحظوا أنهم يروجون لشيء ما؟ إنه الهوس بالجمال من دون أدنى شك. هذه الصورة النمطية للجمال قد غزت عقولنا، واستوطنتها. لون البشرة، شكل الذقن، انتفاخ الشفاه، الأنف المنحوت، الخصر المنحوت، وما إلى ذلك، هذه الصورة النمطية معززة في كل وسائل الإعلام، مثل الصحف، المجلات، اللوحات الطرقية، الإعلانات التلفزيونية، الراديو، الأفلام والمسلسلات، في كل مكان، فغدا من الصعب جدًّا مقاومتها وعدم التأثر بها.
أحبب نفسك كيفما كنت. لكن، وفي حال كنت تفكر في إجراء علاج تجميلي ما، فاسأل نفسك "لماذا؟"، "لأجل من؟"، أجب بصدق عن هذا الأسئلة، يجب أن يكون الهدف هو من أجلك فقط، لأن تشعر بتحسن تجاه نفسك، فتغيير شكلك من أجل إعجاب شخص آخر أو إسعاد شخص آخر لن يجعلك سعيدًا أبدًا.
لقد أصبح مفهوم الجمال في مجتمع اليوم منحرف للغاية، وأصبح يظنّ معظم الناس أن المجتمع لن يقبلهم إذا لم يتمتعوا بنفس مقاييس نجوم السينما ووسائل التواصل الاجتماعي. هذه الرسائل الثقافية والمجتمعية عملت على تعميق مشاعر عدم الأمان بين أفراد المجتمع، وشجعتنا بالتالي على الاعتقاد أنه يجب أن نكون شيئًا مختلفًا عمّ نحن عليه، والحلّ هو التجميل.

هذا أمر مفهوم، ضمن تفاهة هذا الزمن الذي وصلنا إليه، من السهل أن يكتسحنا الخوف من أنّ ذواتنا الطبيعية غير كافية، ليست ذكية بما يكفي، أو جميلة بما يكفي، أو نحيفة أو طويلة بما يكفي لقبولها وفقًا لمعايير الجمال الحالية. لكن وبالطبع، فليس معيبًا بل هو ممتع أن نجعل أنفسنا جميلي المظهر، لكننا بتنا نخسر ذواتنا الحقيقية في محاولة الاندماج وإعجاب الآخرين. يبدو أننا في هذه الثقافة الجديدة، لا بدّ أن ننتبه للشكل الذي نبدو عليه، إن أردنا تقديم أنفسنا بنجاح، أو الاحتفاظ بوظائفنا أو أزواجنا ربما!

أحبب نفسك كيفما كنت. لكن، وفي حال كنت تفكر في إجراء علاج تجميلي ما، فاسأل نفسك "لماذا؟"، "لأجل من؟"، أجب بصدق عن هذا الأسئلة، يجب أن يكون الهدف هو من أجلك فقط، لأن تشعر بتحسن تجاه نفسك، فتغيير شكلك من أجل إعجاب شخص آخر أو إسعاد شخص آخر لن يجعلك سعيدًا أبدًا.