في عام ١٩٥١ ظهرت مسابقات الجمال في أمريكا، وكان هدفها إعادة صياغة معايير ومواصفات الجمال والتحكم بها ونشرها في العالم. هذه المسابقات ترتكز على شيء واحد وهو الحكم على أساس المظهر، وتصوير الجسد الذي هو وعاء الروح على أنه أكثر أهمية من الروح والفكر. كان من شروط هذه المسابقات ظهور المتنافسات أمام لجنة التحكيم والحضور بلباس البحر، وذلك للتأكد من مدى مطابقة أجسادهن للمواصفات والمقاييس الموضوعة، وللتأكد أيضًا من جرأتهن على الظهور بذلك الشكل العاري وبتلك المشية التي تدرّبن عليها.
وهناك شروط أخرى مثل عدم الزواج لمدة ٥ سنوات للفائزة حتى تستطيع أن تقوم بالمهام المطلوبة منها، والقيام ببعض الأعمال الخيرية. كما كانت هناك نقاط إضافية لمن لديها مواهب إضافية مثل العزف والغناء ( وهذا يذكرني بسوق الجواري قديمًا حيث كان يزيد سعر الجارية إذا كانت لديها موهبة العزف والغناء). الجهات والمنظمات التي تقف وراء تلك المسابقات قامت برسم صورة للمرأة النموذجية في شكل عالمي موحد ( امرأة جميلة مثقفة ومتحررة وجريئة لحد الظهور بملابس البحر أمام الناس، ولها مواصفات طول ووزن معينة)، وقامت بتسويق هذه الأنماط والمعايير إعلاميًا من خلال قنواتها المختلفة والضخمة ومن خلال ميزانياتها الكبيرة.
| تنازلات خلف الكواليس
أصبحت الفتيات المراهقات وكذلك سائر النساء يسعين للحصول على تلك المواصفات، وينفقن آلاف الدولارات ويقمن بمئات عمليات التجميل الجراحية، وبذلك انتعشت صناعة "الدايت"، وصناعة الملابس، وصناعة التجميل، وتم تحويل محور حياة الفتاة إلى جسدها. كما أصبح هناك استغلال لجسد المرأة في التسويق للسلع والأفكار، ابتداءً من أفكار التعري والتحرر والجرأة، وصولًا إلى الدعاية للسلع المختلفة مثل العطور والملابس وأجهزة المحمول.
المراهقات اللواتي يُشاهدن هذه المسابقات يعتقدن أن قمة السعادة والنجاح أن يكن في مكان المتسابقات، ولا يعلمن ماذا يحدث في الكواليس وما هي التنازلات والأعمال غير اللائقة التى يمكن أن تُقدِم عليها المتسابقة وتندم عليها لاحقًا! فالشركات تتعامل معنا كسوق إستهلاكي، وتختزل مفهوم الجمال بتلك المعايير والمقاييس التي تضعها، وتضع المرأة تحت ضغط نفسي خطير للوصول إلى تلك المعايير.
ولقد بات عند البعض منهن رغبة قوية في إبداء مفاتنهن الجسدية حتى في فترة الحجر المنزلي، واستخدام تطبيقات حديثة سريعة الانتشار مثل "التيك توك" وغيره من التطبيقات، فاختلط الأمر علينا بين إبراز المفاتن وبين إبراز المواهب. حقيقة أن الكورونا غيرت عند أغلب الناس مقاييس الجمال من جديد، فأصبح الجمال الآن مُنصبًا على حُسن التعامل مع ما نتعرض له من انتشار هذا الوباء ومواجهته، من خلال البقاء في المنزل والإهتمام بشؤون العائلة والتركيز على الدعم النفسي والعاطفي للأسرة التي ننتمي لها، أصبح التركيز على داخل النفس البشرية وليس على مظهرها، وأصبحت الأقنعة تغطي الوجوه، والكفوف تغطيها القفازات.أصبح جمالك ببقائك في منزلك، وعدم خروجك للشارع وعدم اختلاطك مع الآخرين.
نظرة الناس اختلفت لكل شيء، أصبحنا نقدِر جمال كل شيء بسيط كنّا سابقًا نغفل عنه، وباتت حركة الناس في الشوارع من أجمل الأشياء التي نتطلع إليها بشوق. جمال شعور الناس ببعضهم وتقديرهم للظروف الصعبة التي يمر بها الآخرون، وتكاتفهم في مواجهة هذا الوباء أصبح أهم من أي مسابقة أو تنافس. ربما نحن بحاجة إلى تلك الظروف الصعبة التي تُظهر المعدن الأصيل الموجود داخلنا، وربما بحاجة إلى تلك الخلوة التي يفرضها علينا حظر التجوال حتى نتأمل في داخل أنفسنا لنكتشف جمالها الحقيقي.
عندما سجدت الملائكة لسيدنا آدم عليه السلام الذي خلقه الله من تراب، سجدت لتلك الروح التي نفخها الله فيه من روحه. تلك الروح التي هي جوهر كل جميل، وهي الخامة المميزة بما فيها من آلية القدرة على اكتساب العلم والمهارة. فالجسد يحمل تلك الروح، ولكنّ الروح هي التي ترتقي به عن صفاته الطينيّة، لذلك يجب علينا صياغة وعي بما يدور حولنا، وعدم الإنسياق وراء كل ناعق، يريد أن يغير في أذواقنا ومفاهيمنا بما يتنافى مع فطرتنا السليمة. كان سيدنا يوسف عليه السلام جميلًا، ولكن جماله الأعظم لم يكن في جماله الجسدي، بل في تفوّق جماله الروحي والأخلاقي والعقلي وحسن إدارة خزائن مصر. قال صلى الله عليه وسلم ( إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم).
